ب. د. #فرست مرعي#
رافائيل باتاي يهودي هنغاري الاصل ولد في 22 -11- 1910م في بودابست عاصمة المجر (= هنغاريا)، اعتنق الفكرة الصهيونية في مطلع شبابه، وتلقى تعليمه في جامعة بودابست، ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعتها عام 1933م، متخصصاً في تاريخ حضارات الشرق الاوسط ولغاته، وبعد نيله الشهادة مباشرةً أي عام 1933م هاجر الى فلسطين لاجئا ليقيم فيها من 1933م الى 1947م، وعمل طالباً ومحاضراً في الجامعة العبرية بالقدس، حيث تابع تخصصه في الشؤون الفلسطينية اولاً ثم العربية ثانياً. وفي عام 1936م نال من الجامعة العبرية في القدس شهادة الدكتوراه الثانية، وكان أول يهودي يفوز بالشهادة من تلك الجامعة، أقام باتاي في القدس خمسة عشرعاماً زار خلالها عدد من الاقطار العربية، وعقد صداقات مع مثقفين بارزين في القدس وفلسطين العربية. وفي عام 1947م هاجر باتاي الى الولايات المتحدة حيث تجنس بالجنسية الامريكية، وعمل استاذاً في علوم الانسان لمدة عشر سنوات، كان يحاضر فيها عن حضارات الشرق الاوسط وشعوبه في جامعات عديدة، مثل: برينستون وكولومبيا وبنسلفانيا، متخصصاً في الانثروبولوجيا والدراسات الثقافية، واشرف على فريق عمل في جامعة نيوهافن، واصدر ثلاثة كتب عن كل من سوريا ولبنان والاردن، كما اصدرت له جامعة بنسلفانيا عام 1962م، كتاباً مشهوراً بعنوان (نهر ذهبي الى طريق ذهبي: المجتمع والثقافة والتغيير في الشرق الاوسط)، وله بالأضافة الى ذلك مؤلفات كبيرة في التاريخ اليهودي، وكتب عديدة عن الشرق الاوسط والمجتمع العربي، من أهمها:
1- في الاتصال الثقافي وتأثيره في فلسطين الحديثة.
2- الجنس والعائلة في الانجيل والشرق الاوسط.
3- ثقافة الصراع.
4- العقل اليهودي.
5- العقل العربي.
لقد أثار الكتاب الاخير جدلاً واسعاً على الساحتين الغربية والعربية، بصدوره عام 1973م أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الاول عام 1973م، بالاضافة الى ذلك له مؤلفات أخرى جاوزت العشرة، حقق شهرته بعد تأليفه للكتاب - العقل العربي- المثير للاعجاب في الغرب وللجدل عند العرب، ولا مغالاة في القول أن هذا الكتاب يعتبرمن ابرز المحاولات التي تقوم بها المنظمة الصهيونية العالمية لتشويه صورة الانسان العربي، وذلك لاستناده الى جهد كبير في عملية التوثيق وجمع المراجع، وتكمن المشكلة في احتفاء الاوساط الرسمية الغربية بهذا الكتاب، إنهم يرون فيه مرجعاً لفهم الثقافة والعقلية العربية، رغم أن كاتبه استاذ جامعي هنغاري الاصل، اسرائيلي الجنسية، أمريكي الاقامة، حاصل على شهادتي دكتوراه، وألف اكثر من خمسة وثلاثين كتاباً وستمائة دراسة، لا يحتل هذا الكتاب ولا كاتبه أية مكانة علمية أو أكاديمية تذكر سواء في مراكز البحوث والدراسات أو الجامعات المختصة بالإستشراق لولا أنه: أولا، لم يكن الكتاب (الأكثر رواجا ضمن المؤسسة العسكرية الأميركية، بل أنه الكتاب الأكثر رواجا عن العرب) بحسب ما كتبه جورج حشمة. وثانيا، لولا أنه لم يعتمد كنبراس ومرجع ودليل من قبل البعض هنا في الولايات المتحدة، من أجل فهم وإستيعاب الطريقة التي يفكر ويتعامل بها العرب أينما كانوا وأينما حلوا، حتى أن الباحث والصحافي الامريكي المشهور(سيمور هيرش) وسمه ب (إنجيل المحافظين الجدد)... أمّا عن أسس ومنطلقات ودوافع وغايات وأهداف القيام بعرض لهذه المخطوطة بعد مرور (وليس إنقضاء؛ بمعنى، أن مفعول هكذا دراسات لا يزال ساريا، فاعلا، بل ومستفعلا) حتى بعد ستة وأربعين سنة على تاريخ نشرها لأول مرة (= 1973م)، فمرتبط أساسا بضرورة فهم صنف معينة من المخطوطات والدراسات المتدوالة على نطاق واسع ضمن العديد من الأوساط الفاعلة أميركياً وعالمياً.
ومن جانب آخر فيعد (باتاي) أحد أبرز الباحثين اليهود في مجال الأثنولوجيا (علم دراسة الانسان ككائن ثقافي) خلال سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي، ولربما لهذا السبب قام باتاي صاحب الكتابين الشهيرين 'العقل اليهودي' و'العقل العربي' بإعادة الحياة كما يقول إلى كتاب ( يهود كردستان) لإريك براور، الذي ما كان له أن يرى النور لو لم يكمله باتاي ويصدره بنفس صحيح، أن نظرة الاعجاب بجهود إريك براور كما يبدو كانت دافعا قويا لباتاي، إلا أن هذا اليهودي ذا النزعة الصهيونية المتطرفة إنما وجد في الكتاب وفي الحدود التي تناقشها كتاباته (الأنثروبولوجيا) ما يدعم مشروع الدولة اليهودية والبحث عن هوية يمكن لليهود أن تلتئم جموعهم المتناثرة حولها، وهم القادمون إلى الدولة من أصقاع وبيئات وثقافات لا يجمعها رابط سوى الدين، وفي رواية أخرى فإن باتاي الذي اتجهت جهوده قبل تأثره بصاحب هذا الكتاب نحو البحث في الفولكلور التاريخي لما يقول عنها أنها حقب الكتاب المقدس والتوراة، سرعان ما اتجهت اهتماماته لدراسة الأنثروبولوجيا المعاصرة لأقوام الشرق الأوسط وللمجتمعات اليهودية باهتمام أكبر، وهي الاهتمامات التي دفعته لتأليف الكتابين سابقي الذكر اللذين أثارا حين صدورهما ضجة كبيرة، لما فيهما من الرأي المتطرف والافتراء الكبيرعلى العقل العربي، في مقابل ما يسبغها باتاي من الصفات الحسنة لعقل اليهود الذين يجمع مؤرخون وباحثون كثيرون غربيون وشرقيون على حد سواء، بأنهم إنما عاشوا كمجموعات هامشية وسط الشعوب غير اليهودية في هذا البلد أو ذاك، حتى وإن كان كل الباحث اليهودي الالماني براور والباحث اليهودي الامريكي باتاي قد وجدا في يهود كوردستان الجذر الذي يمكنهما الحديث عنه، باعتباره أحد الجذور التي ستقوم عليها أسطورة الدولة التي سوف تقوم بسرقة وجودها من ضمير التاريخ الذي إن لم يكن لليهود فيه وجود مؤثر، فإن باتاي الذي أعاد الحياة لكتاب (يهود كردستان) ل إريك براور بعد كل تلك السنوات التي انقضت على موت الرجل، سيعمل من أجل تزيين صورتهم، وهو يبحث لهم عن هوية ووطن، بعد أن نكون قد رأيناهم في هذا الكتاب الذي ليس هو من كتب السيرة أو الرواية أو غيرهما مما يرتبط بالقصص وعالمه، يعيشون في تميز واختلاف عن بقية الكورد من الأكثرية المسلمة كما يسميها، بالنظر إلى أكثر من دالة في مقدورنا رؤيتها بوضوح، وعلى الرغم من الانتقادات التي تقدم لهم هنا وهناك في صفحات الكتاب، والتي سرعان ما تجد تبريرها من خلال إلقاء تبعة ذلك على جيرانهم المسلمين. يقول باتاي في التقديم للكتاب على سبيل المثال 'إن مزودي براور بالمعلومات (كما كانت الحال معي لخمس سنوات بعد ذلك) أوضحوا بجلاء أن اليهود الكورد في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، كانوا يتعاملون مع بعضهم البعض بفظاظة وخشونة وعنف سواء في الجد أو الهزل، فالقوي يضرب الضعيف، والمتنفذ يضرب من هو أدنى منه، والمعلم والوالدان يضربون التلميذ، والنساء يضربن من قبل بعولتهن.. هكذا كانت الحال، والسرقة والتخريب اللذين تحرمهما التقاليد في العادة، كانا من الأمور العادية، وباتت متعة اليهود الكورد منصبة على الجنس ...، وقد انتقل البعض من هذه العادات مع المهاجرين إلى إسرائيل. ويظهر التبرير الذي يبرئ فيه باتاي بني ديانته على النحو التالي وبما أن اليهود كانوا قلة والمسلمين كثرة، فيمكن أن نتوصل إلى استنتاج أن هذه السمات التي اتسم بها اليهود الكورد ظهرت كنتيجة لتأثيرات البيئة الثقافية التي تشربها اليهود عن الغالبية المسلمة. أي بمعنى آخر فإن لدينا مجتمعا يهوديا تشرب بهذه الصفات الغريبة جدا عن طبائع اليهود من البيئة الاجتماعية غير اليهودية التي عاشوا ضمنها لأكثر من ألفي سنة.
يقع كتاب ( يهود كردستان) في ستة أقسام، وباستثناء ما يعدها باتاي من النواقص كغياب فصل خاص باللغة، وآخر خاص بالموسيقى اليهودية وغيرهما خاص بالنظام العقائدي لليهود الكورد، إلا أنه يعتبر من الوثائق الهامة التي يمكننا أن نطل من خلالها على الكثير من جوانب حياة اليهود الكورد، وعلى الرغم من الملاحظات التي يمكننا الاشارة إلى أهمها كالتعصب لأبناء الملة، والتحامل على الآخر المسلم، والاكتفاء بالاعتماد على عنصر السماع وعدم المعاينة، وهي من الأمور التي تضعف المنهج وتسحق حيادية ونزاهة الباحث، إلا أنه مما يثري ويضيف لما عند الواحد منا من الخزين المعرفي حول اليهود عموما ويهود كوردستان بشكل خاص، صحيح أنه من الصعب وضع حدود تفيد في معرفة ما أنجزه كل من ( إريك براور و( رافائيل باتاي)، إلا أنهما كليهما في ورشة كتابتهما المشتركة، قدما لنا درسا في كيفية ظهور الهويات، ومثله في كيفية تحقيق الانبعاث من تحت الرماد، لتأسيس دولة من العدم، وفي مكان آخر سواء الذي عاشت فيه المجموعات اليهودية باستثناء الفلسطينية منها، وهو المكان الفلسطيني، الذي سيحمل إليه كل من براور وباتاي الفرد اليهودي الذي عاش كما يقول باتاي منذ أكثر من ألفي عام في كوردستان، حتى وإن كانت الهجرة من المكان الأصلي إلى الآخر الموعود توراتيا قد وقعت قبل طباعة الكتاب وظهوره للوجود. سوف نقرأ في المحتوى عن تاريخ اليهود الكورد، وعن تراثهم المادي، والآخر الروحي. وسنقرأ عن العائلة اليهودية وخصائصها المميزة لها عن غيرها. سنقرأ حول الزواج والوفاة وطقوسهما. أيضا سوف نقرأ عن اليهود المزارعين، وعن التجار منهم. سنقرأ الكثير مما يرتبط بأنثروبولوجيا هذه المجموعة من الكورد ذات الديانة اليهودية، وعن الأعياد وما يرتبط بمختلف جوانب تراثهم الثقافي. وفي صريح العبارة فإن (رافائيل باتاي) الصهيوني إنما يقدم الدرس البليغ أيضا وبالنظر إلى عمله في مواصلة جهد (إريك براور) الذي مات كما أشرنا قبل أن يكمل الكتاب، لكل من يسعى لمعرفة الكيفية الأفضل للمحافظة على التراث من طغيان الآخر، ولن يضعف من قوة تعصبه لصهيونيته استشهاده برأي لهذا أو ذاك من الرحالة الذين جابوا أرض كوردستان وكتبوا عن اليهود الذين شاهدوهم، فذكروا عيوبهم ومساوئهم الكثيرة، كمثل ما يأخذه عن (الظاهري) في وصفه ليهود كركوك الذين قال عنهم بأنهم رجال خطيئة خليعون فاسقون، وكمثل ما يأخذه عن (بنيامين الثاني) الذي يقول في يهود بارزان:إن الجهل الذي يعانيه إخواننا اليهود هنا كبير لدرجة أنهم لا يقدرون معه على تلاوة صلواتهم. وعليّ الاقرار هنا متألما، بأني لم أرهم في أي مكان في مثل هذا الوضع المزري غارقين في مثل هذا الفساد الخلقي، كما رأيتهم هنا( يهود كردستان، ص45). إنها عبارة بليغة هذه التي يقدمها مؤلفا الكتاب: لكن اتجاهات هجرة اليهود متنوعة، فاليهود الكورد (وهو ما علينا تأكيده) ليسوا بشعب متجانس، بل إنهم جاؤوا إلى كوردستان في موجات عديدة، هي بليغة لأنها في جانب منها تؤكد صواب ما تمت الاشارة إليه.
وعلى أية حال، فقد اعتاد الكتاب اليهود، وباتاي وبراور من بينهم على تحويل اللاتجانس إلى تجانس، كما هي الحال في تحويلهم الأرض المليئة بسكانها الاصليين من الفلسطينيين إلى أخرى بلا شعب، تنتظر من يملأها ويحقق فيها تجانسه الذي لا نعتقد بأنه سيتحقق تماما بحيث يصبح على غرار ما هو عليه التجانس عند غيرهم من الشعوب، وهو ما ينذر بزلزال سوف يحدث، إن لم يكن في وقت قريب، ففي زمن لا بدّ ان يأتي. هل يعقل ان يؤلف كتاب مكون من 466 صفحة ويصدرعام 1973م، وفي طبعات منقحة ومعدلة في الاعوام 1980م، 1984م، 2007م، وهذا الكتاب أُقر على جنود القوات المسلحة الامريكية المكلفين بالخدمة في الشرق الاوسط والعراق بالتحديد على مسمع ومرأى من العالم الغربي، فيقابله جهل مطبق وتجاهل من العرب من دون التعامل مع هذا الكتاب في شكل ترجمات وسلسلة من القراءات والمناقشات، يعقبها قيام فرق من الباحثين يقودها نخبة من العقليات العربية بتكليف من المؤسسات الثقافية والاعلامية العربية لاصدار مجموعة من المؤلفات باللغات الاجنبية لمخاطبة العقل الغربي وتقديم صورة حقيقية عن العقل العربي؟. توفي باتاي في 20 يوليو/تموزعام1996م في مدينة تكسون في ولاية أريزونا في الولايات المتحدة الامريكية عن عمر تجاوز الخامسة والثمانون عاماً.[1]