حروف على ابواب الفيليين..ما هي دلالاتها؟
بقلم علي م. طالب
قرأت اخيرا عن جماجم ورسومات وحشية لطخت ابواب بيوت مواطنين في احدى بلدات لبنان .. هذا الخبراعادني الى ذكريات طفولتي وهي ذكريات مُرة في مجملها.
عندما خرجت,صباح احد ايام 1963, من البيت لشراء الخبز فوجئت بكتابات وحروف مبهمة على ابواب بيوت عكد الاكراد. حاول ابي التهدئة من روعي وصار يشرح لي بان حرف “ش” يعني شركاوي لكني علمت بعد ذلك ان هذا الحرف يعني بلغة الفاشية “شنق” اي ان الساكنين خلف هذا الباب يستحقون الشنق اما حرف “ت” الذي رسم على احد الابواب فكان يعني “تسفير” وليس كما اخبرني ابي الخائف علي “تفضل”. وهكذا كانت حروف الطغمة الفاشية تحدد مصيرنا نحن الفيليين الساكنين في عكد الاكراد ولربما في مناطق اخرى من العاصمة او خارجها: حروف تعني السجن والقتل والسحل والاعدام وهلمجرا.. هكذا كان الفاشيون يرسمون مصيرنا نحن الكرد الفيليين . باستثناءات قليلة لم تكن ردود افعال الرأي العام في عموم العراق بالمستوى المطلوب بعكس ما قرأت عن ردود افعال في عموم لبنان على الرسوم المهينة, التي ذكرتها اعلاه, والتي لطخت ابواب بيوت عوائل مسيحية في احدى بلداته.
قبل فترة نشرت,بمناسبة الذكرى السنوية لانقلاب 8 شباط 1963″ مقالا عنونته ” عندما اراد الانقلابيون قصف عكد الاكراد جوا” وفي حينه اعادت بعض المواقع نشر هذا المقال… ساحاول تلخيص اهم ما ورد في المقال:
..عندما انتشر في بغداد نبأ الانقلاب وكنا نسمع هدير محركات الطائرات في سماء العاصمة استعدادا لقصف وزارة الدفاع هرع عدد كبيرمن شباب عكد الاكراد للانضمام الى جموع اخرى وصلت الى وزارة الدفاع لدعم الزعيم قاسم ولمطالبته بالسلاح لاستخدامه ضد الانقلابيين الا ان الزعيم قاسم رفض تلك المطالبات بقوله انه سيتدبرالامر بسرعة وسيسحق الانقلاب. .. اضطر شباب عكد الاكراد للعودة الى حيهم وهناك يبدو ان احد الاحزاب ولربما اكثر من حزب واحد قرر الصمود ومقاومة الانقلاب ولو بسلاح بدائي وهنا سانقل ما قاله لي البروفسور كمال قيتولي بان اهالي وشباب عكد الاكراد طلبوا من الزعيم عبد الكريم قاسم البقاء في احضان اهالي المنطقة الذين اكدوا انهم على استعداد لحمايته الا ان عبدالكريم قاسم رفض ذلك مؤكدا على انه قادر على سحق الانقلابيين. تواصلت المقاومة ثلاثة ايام على ما اذكر .. كانت دبابات الحكومة الجديدة تقف عند ساحة النهضة لاتستطيع التقدم اكثر من ذلك في حين كان الجنود ورجال الشرطة عند الجانب الآخر اي بالقرب من مركز شرطة باب الشيخ .. وصلت الى اسماعنا بان الحكومة الجديدة عازمة على قصف عكد الاكراد بالطائرات .. آنذاك هرع عدد من وجهاء الحي الى حسينية الشيخ مصطفى طلبا للاستشارة في هذا الامر وماذا يمكن عمله ؟ اجتمع هؤلاء ووجدوا ان الانقلابيين قساة بل انهم فاشيون ..وكان التلفزيون العراقي قد عرض قبل ذلك مشاهد من اعدام الزعيم قاسم والتمثيل بجثته. اقترح الشيخ مصطفى على الحاضرين التوجه في مهمة سلمية الى مركز شرطة باب الشيخ وتسليم مديره رسالة من اهالي الحي الى الحكومة تتضمن طلبا بوقف العمل بتلك الخطة لان عكد الاكراد يقيم فيه نساء واطفال ومسنون .. وافق الحاضرون على ذلك الاقتراح طالبين من الشيخ تسليم تلك الرسالة بنفسه.. وبالفعل توجه الشيخ مصطفى الى مركز شرطة باب الشيخ وطلب من مدير المركز نقل الرسالة الى المسؤولين في الحكومة الجديدة وعدم السماح بوقوع مثل هذه المجزرة.. ويبدو ان المقاومين تراجعوا عن مقاومتهم اما بسبب هذا التهديد الحكومي او لنفاذ العيارات النارية والبنزين الذي كانوا يصنعون منه قنابل المولوتوف او لربما بعد طلب وضغوطات من اهالي الحي .. كما انهم واهالي عكد الاكراد باكمله كانوا تحت الحصار ولايدخل هذا الحي الغذاء والوقود او الدواء. وبعد ان ترك المقاومون مواقعهم في عكد الاكراد دخل هذا الحي عناصر الامن ورجال الجيش والشرطة الى جانب من وصفوا انفسهم ب “الحرس القومي” وقام كل هؤلاء باعتقال شباب الحي وارسالهم الى معسكر او سجن “خلف السدة” عند احدى ضواحي بغداد.
بدأت بعد ذلك حملات لسحب تراخيص الاقامة من اولئك الفيليين الذين كانوا بالفعل يحملون الجنسية الايرانية لكنهم يقيمون بصورة شرعية في العراق.. استمرت هذه الحالة بين مد وجزر حتى مطلع سبعينات القرن الماضي عندما امتدت حملات التسفير القسري الى اولئك الفيليين الذين يحملون الجنسية العراقية وفيما يلي احاول تلخيص ما سبق وكتبته عن هذه الحملات في اوقات سابقة:
اتذكر حالات كنت فيها شاهد عيان في اثناء الحملة الهمجية الاولى مطلع السبعينات بحق اهالينا: كنت عائدا من المدرسة عندما شاهدت في منطقة النهضة سيارة بيكاب ورجال شرطة يزجون بعدد من النساء والشيوخ داخلها وبينهم اطفال ايضا ..توقفت قليلا لمعرفة مالذي يحدث فاخبرني الزميل الذي كان معي بانها حملة تسفير. انطلقت دموع من عيني بصورة لاارادية وسالت على خدي وانا اشاهد هذا المنظر اللانساني البشع ومعاملة هؤلاء البشر وكأنهم خراف اونعاج, سارع الزميل الى مسح تلك الدموع قائلا “ماذا .. هل تريد ان يشاهد ذلك رجال الشرطة والامن ويرموا بنا على نقطة الحدود؟ في الايام التالية رأيت اشخاصا غرباء من خارج محلتنا وهم يجوبون عكد الاكراد جيئة وذهابا بحثا عن شراء جهاز تلفزيون او ثلاجة او اثاث موبيليا باسعار بخسة .. لان الذين سيتم تسفيرهم يريدون التخلص منها باي ثمن كان.
في مثل هذه الاوضاع لم يبق امامي الا ان اكتب ..اخذت القلم والورقة وكتبت وصفا لما اشاهده يوميا من صور بشعة وممارسات لا انسانية بحق هذه الفئة من اهالي العراق ..وضعت هذا “الريبورتاج الحي” داخل مظروف عنونته الى احدى المطبوعات في بيروت على امل النشر واطلاع الراي العام في لبنان ولربما في دول اخرى بما يحصل مع الفيليين. كان لبنان البلد الوحيد في المنطقة انذاك الذي يتمتع بنوع من الديمقراطية وحرية الصحافة .لا اعلم هل ان ذلك الريبورتاج وصل الى تلك المطبوعة او لا وهل نُشر او لا ؟ الا ان ما قمت به استراح له ضميري باعتبار ذلك “اضعف الايمان” وما في اليد من حيلة. لم اتوقف عند هذا الحد بل واصلت المسعى وانا في اوروبا التي وصلتها لغرض الدراسة.. عندها اتصلت انا واصدقاء آخرون بوسائل اعلام اوربية لابلاغها بما يمارسه النظام (السابق) في العراق بحقنا. افلحنا نوعا ما في ذلك اذ قامت بعثة اعلامية سويدية ثم بعثات من دول اخرى بجولات داخل مخيمات المسفرين والمهجرين العراقيين في ايران .. ادى ذلك الى احراج الحكومة العراقية حينذاك التي اضطرت وتحت ضغط دولي الى ايقاف تلك الحملة الكبيرة الاولى بحق الكورد الفيليين,مؤقتا, قبل ان تعاودها مرة اخرى قبل ومع مطلع الثمانينات. لقد حاولت في كتابي ” بين الحب والكراهية” وصف حالات اخرى للمآسي التي تعرض لها اهلنا ..
الا انني اود فيما يلي طرح ملف آخر يتعلق ايضا بالفيليين وقلة المعلومات عنهم وحتى في اوساط بقية الاكراد ..ففي احد مؤتمرات “جمعية الطلبة الاكراد في اوروبا” التي كانت فاعلة خلال سبعينات وثمانينات القرن الفائت , وكنت انا من المشاركين النشطين في مؤتمراتها السنوية , تلقيت من احد اكراد قامشلو السؤال التالي:” بماذا تختلفون عنا نحن بقية الاكراد, ايها الفيليون؟ هل انتم مسيحيون؟ وفيما بعد وعندما مارست عملي الصحفي في اوروبا كنت اتلقى بين الحين والآخر من زملائي الصحفيين استفسارات عن الفيليين : من هم وبماذا يختلفون عن بقية الكرد. بل وصلني طلب من دائرة الهجرة في السويد , وكنت اعمل في احدى مطبوعاتها, يقول” كثير من طالبي اللجوء الاكراد يقولون انهم فيليون.. تُرى من هم هؤلاء الفيليون؟ وكان جوابي على ذلك تمثل في اعداد دراسة مبسطة عن الفيليين وبالاخص اولئك المقيمين منهم في السويد ونشرت هذه الدراسة في مطبوعات سويدية وقمت بتزويد تلك الدائرة بنسخة منها. .. لقد كانت هناك محاولات من مسؤولين رسميين وحزبيين اكراد لتعريف الرأي العام الدولي بالمظالم التي تعرض لها الفيليون .. وهنا لابد ان اشير الى ما قام به فريق من اكراد “اوروبا”عندما بادروا للاجتماع تحت قبة البرلمان الاوربي في محاولة منهم لجذب انظار الرأي العام الاوربي (خصوصا) وتعريفه بالمظالم التي تعرض لها الفيليون .. وكتبت حينذاك بان هذه المبادرة بحاجة الى الدعم منا جميعا .وعلى ما اذكر هذه المبادرة جاءت من الصديق الدكتور مجيد رشيد جعفر.
ويؤسفني القول ان نتائج هذه المحاولات ظلت غامضة اوغير موجودة بل وحتى السلطات في العراق “الجديد” اصدرت عددا من القرارات الايجابية لصالح حقوق الفيليين لكنها وللاسف ظلت في معظمها حبرا على ورق.
[1]