قصّة الشعب الفيليّ داميّة
مازال الشعب الفيلي ينزف و ينزف .. رغم تبدل الأوضاع نسبياً و تغيير الأنظمة و الحكومات قبل و بعد نظام صدام الجاهل .. العار ؛ لكن قضية الشعب الكوردي الفيليّ ما زالت قائمة و تستعر حتى على أيدي الأنتهازيين من الطبقة السياسية أو بسبب أقرانهم من الطوائف الكوردية الأخرى شمالاً و جنوباً للأسف لفقدان الدين و الوجدان في أوساطهم و إمتلاء بطونهم بأموال و حقوق الفيليين و المظلومين بآلدرجة الأولى و غيرهم .. و هناك للآن ما يزيد على مليون فيليّ مشردين في الدول و بقاع الأرض باحثين عن الحرية و الكرامة بعد ما نهبت الحكومات المتعاقبة و أحزابها مع أجهزتهم المليشياوية و شرائح عديدة من الشعب العراقي حقوقهم و مساكنهم و محلاتهم و بساتينهم وممتلكاتهم في بغداد و جميع محافظات العراق .. حتى إضطروا لترك وطنهم و بعضهم أقسم بعدم العودة ما دام الحاكمون و الطبقة السياسية لا تنصفهم بل و تسرقهم و تستغلّهم من كل حدب و صوب و بلا رحمة ..
و فوق كل هذا يمثلهم اليوم .. و يحاول أن يُمثّلهم من ليس بأهل ولا يملك ثقافة أو قلب رحيم و منصف و لا يعرف حتى تأريخ الكورد الفيليية ..
هدفهم مشترك و هو الأستفادة من مظلوميتهم لأجل الدولار و الكراسي و المناصب .. طبعا أستثني لبعض الحدود السيد حسين علي مردان الممثل المخلص نسبياً للفيليين و حتى غيرهم بآلقياس مع آلآخرين في البرلمان بمن فيهم رئيس الجمهورية الفيلي و البرلمانيين منهم !
المهم ؛ تحدّثنا بما فيه الكفاية عن محنة الفيليية و لا تنتهي إلا بحلّين :
الأول : إستلام حكومة العراق جملة و تفصيلاً .. و لعلهم الوحيدون الذين يستحقون و سيعدلون في الحكم و يقضون على الطبقية التي أجّجتها الأحزاب المنحطة الأسلامية منها و العلمانية و القومية ألمتحاصصة للأسف الشديد حيث أصبح جميعهم أصحاب قصور و مليارات و بيوت و مقرات و مصفحات بإسم (الكورد الفيلية) لأنهم بكل بساطة كانوا غير مثقفين و لا مُؤهلين .. فشملتهم عملية المسخ التي جرت على جميع الطبقة السياسية الفاسدة , لا أستثني أحداً!
ألثانيّ : إذا لم يتحقق الحل الأول ؛ فأن الأنفصال عن العراق هو الحلّ النهائي لتكون بدرة و مندلي و و أطراف بعقوبة شمالاً و إلى العمارة جنوباً ؛ هي الدولة المستقبلية للفيليين و إن طال الزمن .. ليتخلصوا من هيمنة و ظلم الكيانات و القوميات و الأحزاب العراقية الفاسدة التي ظلمتهم قبل و بعد الفتح الأمريكي للعراق .. فجميعها ظلمت هذا الشعب نتيجة لطيبته و صدقه و عشرته الحلوة مع الآخر كصفة مقتبسة من أصلهم الهابيلي.
المهم إليكم الآن .. قصّة دامية تقشعر لها الأبدان و يحزن لها القلب و تدمع العيون لمجرد قرائتها .. و هي قصّة من ملايين القصص الدامية التي لا تشبهها قصة في هذا العالم الظالم الذي يسيطر عليهم حكومات فاسدة و أحزاب منحطة تحاصصت .. و آلفيليون و ربما معهم (الهنود الحمر) ايضا وحدهم ذاقوا الأمرين في مدنهم و في السجون و المعتقلات و في الصحاري و البحار و البلاد المختلفة بسبب الظلم الذي وقع عليهم بحيث أن باقي أحزاب و فئات المعارضة العراقية لا قيمة لها مقابل محنتهم و نزيفهم الجاري و ما لاقوه من الغربة و الضيم و الذل و الله المستعان و لا بد للقدر أن يستجيب لهم يوماً لإرجاع عزتهم و كرامتهم و نصيبهم الذي سرقه صدام و من بعده الطبقة السياسية الفاسدة و للآن:
و لكي لا ننسى .. إليكم القصّة :
[سياحة الديدان]
في بداية عام 1985 اعتقلت سلطات البعث قاسم ابو محمد وعائلته واودعته السجن وفصلته عن اولاده الاربعة لينقلون بسجن ثاني وتودع البنت في سجن النساء …
استمر وجود ابو محمد الرجل الخمسيني لمدة ستة اشهر بالسجن ، تهمته انه كردي فيلي وحسب تقسيمات النظام البعثي انه من التبعية الايرانية …
عاش غربة السجن لوحده ولا يعرف شيء عن بقية العائلة ، حتى جاء القرار بتهجيره الى ايران بعد شوط من التعذيب الذي لا يعرف سببه …
في صيف نفس العام تم الدفع به على حدود ايران من منطقة جوان رود العراقية مقابل الحدود الايرانية وقيل له اذهب الى عمك الخميني مع العديد من الرجال معه …
سار وحيدا بدون اولاده وبنته في الجبال وألم التعذيب والجراح اخذت القسط الاكبر من قوته …
كابر متحملا الم التعذيب ليكمل المسير فخانته قواه فسقط على الارض نازعت روحه الموت لتبقى ويلتقي بأبناءه ويضمهم لصدره بعد فصلهم عنه ولم يعرف شيئا عنهم صراخ الرجال من حوله يدعونه الى التحمل ويقولن له ان الحدود قريبة وان ابناءه في انتظاره متشوقين لرؤيته كل هذه المحفزات التي اختلقوها ليبعثوا عنده الامل وينتصر على الموت لم تنفع ، مسك بيده على كف احدهم وقال له بلغهم سلامي ، فتوقف لسانه عن النطق وبقيت عيناه مفتوحة تنظر الى السماء مودعا الحياة ……
دار اصدقائه حول رأسه وتوقفوا عن اكمال سيرهم ، وتحادثوا فيما يفعلون له
هل ينقلوه معهم الى ايران والمسافة بعيدة ، ام يدفنوه
ولكن بماذا يحفرون القبر في ارض صخرية واصابعهم غير قادرة على حفر سنتيم واحد .
فكان القرار تركه على حاله والنجاة بأنفسهم لان الوقت بدأ يدركهم وسيلقون نفس المصير والحزن مسيطر عليهم والتردد في اكمال المسير فكان قرار تركه هو الغالب عندهم فكلما توقف احدهم لعدم تحمله فراق صديقهم الطيب سحبه الاخر بعيون باكية الى ان ابتعدا عنه ولم يعد يشاهدونه وان كانت صورته لم تفارق مخيلتهم .
بقي ملقى على الطريق مع اثنين اخرين جثث هامدة واستمر الاخرون بالسير لاكمال الطريق المجهول ..
وفي اليوم الثاني تم تهجير النساء السجينات بوجبة واحدة من نفس الطريق ليتوقف سيرهن على صراخ بنت قاسم وهي تنكفأ على جثة ابيها …
فأحطن بها النساء ليحجبنها عن رؤيته ويخففن الصدمة عنها …
بقيت البنت تصرخ وتخاطب ابيها الميت وتعاتبه وتسأله عن اخوتها وهي تعددهم ، فلا من مجيب ..
كانت آمالها معقودة على رؤيته مع اخوتها بعد تخلصها من السجن ليعوضوها عن غربة الوطن …
وهي تقف على جثته وتكرر عبارة يبوية ليش عفتني وحدي مو امي وصتك بيه من ماتت ؟؟ ماذا ستقول لها ؟؟؟…
انه لقاء غير متوقع ومؤلم ابكى حتى الصخر بالجبال الذي كان يرجع صدى الصراخ إليهم وكأنه يشاركهم العزاء ، كانت كلمات البنت كالسكين تغرزها في قلوب النساء … ..
فما كان منهن الا ابعادها عن جثة ابيها وارغامها على مواصلة السير الى ايران لتنجوا هي الاخرى من الموت …
كانت لحظات صعبة عليها ان تترك اباها ميتا لتأكله الحيوانات .
فتسمرت في مكانها واصبحت كالخشبة المغروسة في الارض تجرها النساء لمواصلة المسير .
قوة سحب النساء لها حرك ارجلها للسير ولكن بقي وجهها مصوب نظراته على جثة أبيها .
استمرت النساء بسحبها الى ان استسلمت لهن بعد ان غابت الجثة عن انظارها
البكاء والعويل لم ينقطع من النساء على هول المنظر لكنهن تحاملن واحطن البنت بالعطف والحنان ..
في اليوم الاخر تم تهجير وجبة اخرى من الرجال ليكون ابو علي صديقه في السجن من ضمنهم وكان يحمل اباه الكبير على ظهره لعدم امكانه السير لكبر سنه …
انزل الرجل اباه وجثى على ركبتيه وهو يتطلع جثة صديقه ابو محمد الرجل الطيب الوقور والديدان تخرج من فمه وتدخل انفه وتخرج الاخرى من اذنيه لتدخل فمه سائحة مستأنسه بهذا الجسد الطري لتأخذ نصيبها من لحمه …
فأخذته الحمية لابعاد تلك الديدان عن وجه صديقه
لكنه توقف لانه يعلم ان هناك اعداد كثيرة في جسمه وان الامر انتهى ليترك الديدان تسوح في جسمه مستأنسه فأسدل الستار على حياة هذا الرجل المسكين .
تداعت الذكريات امام عين ابو علي وهو ينظر الى صاحبه بالشكل المؤلم ورائحة الموت تفوح منه … ..
رغم ذلك لم يستطع ان يفارقه الا بعد ان وجد حلا بأن يضع احدى الاغطية التي مع اصدقاءه ويبعده قليلا عن الطريق ..
وهذا اكثر ما يستطيع فعله ليواصل المسير بحمل ابيه ..
لقد هانت الدنيا في عينه وهو يرى مصير الاخيار والطيبين
وهم يموتون بهذه الطريقة البشعة بعيدين عن اهلهم واوطانهم بلا ذنب اقترفوه .. …
بقيت رائحة الموت ملازمة لابو علي والمنظر المخيف ماثل امامه وهو يقطع المسافات للوصول الى الاراضي الايرانية
بعد 6 ساعات من السير على الاقدام في ارض جبلية وهو يحمل اباه على ظهره ..
فور وصوله مخيم المهجرين التقى عائلته التي فارقهم منذ سنوات لانهم في سجن اخر ، فأخبروه عن بنت ابو محمد صديقه فأهتم بها وأمر عائلته بضمها مع عياله ليخفف عنها فراق الاهل وصدمة مشاهدة جثة ابيها ..
هكذا دارت السنون على الكثير من المظلومين وحزب البعث يتغنى ببطولاته …..حتى جاءهم السيل ليجتث حكمهم من جذوره …
لتبقى تلك الجرائم محفورة في ذاكرة الشرفاء لاخذ الثأر منهم ، ويبحثوا عن أثر قبر او دالة عن مكان دفن اولاده الاربعة مع أكثر من عشرون الف معهم .
فسلام عليك ابا محمد وعلى ابناءك الاربعة الشهداء والرحمة والرضوان لكل ضحايا النظام الصدامي المجرم .
العارف الحكيم عزيز الخزرج .. القصة نقلناها عن السيد فارس علي عسكر.
[1]