مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الخامسة) العلاّمة سعيد النَّوْرسي (بديع الزمان) ( 1873 1960م ) المفارقة الكبرى!
د. أحمد الخليل
الحقائق التاريخية شيء، والأوهام المقحَمة في التاريخ شيء آخر.
ومن الحقائق أن العرب والكرد كانوا أبرز شعوب البيت الشرق متوسطي.
ومنذ حوالي ألف عام انضم الترك (السلاجقة والعثمانيون) إلى هذا البيت.
وعاشت هذه الشعوب أزمنة هانئة وأخرى صعبة في بيتها الواحد الكبير.
وكان الربع الأخير من القرن التاسع عشر من جملة تلك الأزمنة الصعبة.
فالدولة العثمانية كانت تتزعّم ذلك البيت منذ أكثر من أربعة قرون، لكنها كانت قد أصبحت خائرة القوى، وبما أنها كانت قد شنت الغزوات على بعض دول أوربا الشرقية والغربية واحتلتها، ووصلت جيوشها إلى أبواب فينا عاصمة النمسا، أقول: لهذا كانت القوى الأوربية تتعاون لكبح جماحها، وللقضاء عليها، أو السماح لها بأن تظل حية، لكن ضعيفة بلا مخالب ولا أنياب ولا أضراس.
وكي تستعيد الدولة العثمانية نفوذها على الصعيد الدولي، رفع السلطان عبد الحميد الثاني شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا)، محاولاً تحشيد العالم الإسلامي كله في وجه أوربا، وكانت خطته هذه مهمة، فقد سبق أن حشد صلاح الدين الأيوبي شعوب شرقي المتوسط (العرب والكرد والترك) ضد الحملات الفرنجية، وحقق انتصارات باهرة بفضل ذلك التحشيد.
لكن الفارق أن صلاح الدين كان ابناً باراً بالبيت الشرق متوسطي، إنه لم يتقوقع في كرديته، ولم يحتكر البيت الكبير لبني قومه، ولم يطالب الترك والعرب بالتجرد من خصوصيتهم القومية، فمن ينسى فتكات الفرسان الأتراك في جميع معارك صلاح الدين؟! ومن ينسى صولات قلم القاضي الفاضل ومشوراته- وهو العربي الفلسطيني- في الإنجازات التي حققها صلاح الدين؟! بلى، كان صلاح الدين تجسيداً صادقاً لمكوّنات البيت الشرق متوسطي، فأحبه الجميع، ووثق به الجميع، فكان قائداً للجميع، وكانت الإنجازات للجميع.
أما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر فكان شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا) في واد، وكانت السياسة العثمانية الداخلية في واد آخر، لقد كانت التوجّهات القومية الطورانية تزداد انتشاراً، وكانت جمعية (الاتحاد والترقّي) تقود تلك التوجّهات، وكان مشروع تتريك الدولة يسير بخطوات سريعة نحو الأمام، وكان على الرعايا من غير الترك، وخاصة العرب والكرد، أن يتنازلوا عن خصوصياتهم القومية، وينصهروا في بوتقة الطورانية شاؤوا أم أبوا.
وهنا كانت المفارقة الكبرى!
وهنا كان الخلل الأكبر في البيت الشرق متوسطي.
وفي هذه الفترة العصيبة من تاريخ شرقي المتوسط نشأ سعيد النورسي.
فمن هو هذا الرجل؟!
نشأة فريدة وعبقرية نادرة
مع فجر أحد أيام سنة (1293ﮪ/1873م)، وفي أحضان جبال كردستان، وتحديداً في قرية نورس إحدى قرى قضاء خيزان التابعة لولاية بدليس، ولد الطفل سعيد.. كان والده مِيرْزا يعرف بالصوفي، وكان يُضرب به المثل في التقى والورع، إنه كان حريصاً على ألا يذوق طعاماً حراماً قطّ، وألا يطعم أولاده من غير الحلال، وكان إذا عاد بمواشيه من المرعى شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين، وكذلك كانت نُوريّة والدة سعيد، إنها ما كانت ترضع أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء.
عاش سعيد في أحضان تلك الأسرة التقية، وكانت تضم خمسة أبناء وابنتين، وظهرت عليه تباشير الذكاء منذ صغره، إذ كان دائم السؤال والاستطلاع، ولم تكن كردستان حينذاك خالية من العلماء، إنها كانت، منذ أيام الدولة الدُّوستكية (المراونية)، تحظى بالعديد من العلماء المشاهير، وتلقّى سعيد تعليمه الأول في كتّاب قرية (طاغ) على يد الشيخ محمد أفندي سنة (1882 م)، إلى جانب الدروس التي كان يتلقاها على أخيه الكبير الملاّ عبد الله.
وفي سنة (1888 م) توّجه سعيد إلى بدليس، والتحق بمدرسة الشيخ أمين أفندي، ثم تنقّل بين عدة مدارس أخرى، حتى انتهى به المطاف إلى مدرسة في قضاء بايزيد التابع لولاية آگري.
وفي هذه المدرسة بدأ سعيد دراساته الدينية الأساسية، فقد كانت جهوده منصبّة قبل ذلك على علوم اللغة من نحو وصرف. وفي هذه المدرسة، وتحت رعاية الشيخ محمد جلالي، أمضى ثلاثة أشهر، وهو منكبّ على الدراسة الجادة للمناهج التي كانت تدرَّس آنذاك، إنه كان يقرأ من متون أصعب الكتب مئتي صفحة في اليوم الواحد، ويفهمها دون الرجوع إلى الهوامش، كما أنه كان ينقطع عن العالم معظم أوقاته، وبخاصة في الليالي، ويلازم ضريح أمير شعراء الكرد أحمد خاني، صاحب الملحمة التراجيدية (مَمْ وزين)، ويستمر في القراءة على أضواء الشموع.
وبعد انتهاء الأشهر الثلاثة حصل على الإجازة العلمية من الشيخ جلالي.
وفي سنة (1889 م) انتقل سعيد إلى بدليس، ثم إلى مدينة شيروان، ومنها إلى سِعَرْد (سِيرتْ )، يلتقي بالعلماء ويأخذ عنهم، وفي سعرد ذهب إلى مدرسة العالم الشهير فتح الله أفندي، وقد اختبره هذا العالم في أمهات الكتب، وقال له:
” حسناً، إن ذكاءك خارق، ولكن دعنا نرَ قوة حفظك، فهل تستطيع أن تقرأ بضعة أسطر من هذا الكتاب مرتين وتحفظها “؟
وقدّم العالم لسعيد كتاب (مقامات الحريري)، وهي مقامات عربية قائمة على السجع، وزاخرة بالألفاظ الغريبة، فأخذ سعيد الكتاب، وقرأ صفحة واحدة منه مرة واحدة، وإذا بها كانت كافية لأن يحفظها، فذَهِل العالم فتح الله أفندي وقال:
“إن اجتماع الذكاء الخارق مع القوة الخارقة للحفظ شيء نادر جداً”.
وما لبث أن انتشرت شهرة سعيد في المجتمع الكردي، فأقبل عليه علماء سعرد يجادلونه، ويحاولون إحراجه بأسئلتهم، لكنه أفحمهم جميعاً، فأطلقوا عليه لقب سعيدى مشهور (سعيد المشهور)، وظل سعيد ينتقل من مدينة إلى أخرى، ينهل من منابع العلم، ويطّلع على أمّهات الكتب فهماً وحفظاً، ويعمّق مطالعاته في مجالات المنطق وعلم الكلام، والنحو والتفسير، والحديث والفقه.
والحقيقة أن مطالعات سعيد لم تقتصر على هذه العلوم النظرية، بل انكبّ على العلوم الأخرى مثل الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجغرافيا، والجيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، فأتقنها جميعها، إلى درجة أنه كان قادراً على التأليف في موضوعاتها، ومناقشة المختصين فيها، ونظراً لتعدّد مواهبه، ولذكائه الخارق، أطلق عليه الناس لقباً جديداً هو (بديع الزمان)، وكان حينذاك في وان سنة (1894 م).
نحو إستانبول!
وبعد فترة توجّه النورسي إلى العاصمة العثمانية إستانبول، محاولاً إقناع المسؤولين بإنشاء جامعة إسلامية باسم (مدرسة الزهراء) في شرقي الأناضول، شبيهة بالجامع الأزهر، لخدمة علوم الدين، لكن جهوده ذهبت عبثاً، فرجع ثانية إلى مدينة وان.
وفي سنة (1907 م) رجع إلى إستانبول مرة أخرى، وعلّق على باب غرفته لوحة كتب فيها: ” هنا يجاب عن كل سؤال، وتحل كل مشكلة “. وكان الإعلان غريباً، ويذكر حسن فهمي باش أوغلو، وكان أحد طلبة العلم آنذاك، أن الطلبة والأساتذة فوجئوا بهذا الإعلان، ويقول موضّحاً:
” وقد قررت أن أختار أعقد الأسئلة وأدقّها لأسأله، وكنت آنذاك أُعتبر من المتفوقين، فاخترت من الكتب التي تبحث في الإلهيات بعض الموضوعات المعقّدة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا بمجلّدات من الكتب، وذهبت في اليوم التالي لزيارته، ووجّهت الأسئلة إليه، فكانت أجوبته عجيبة وخارقة، إذ أجابني وكأنه كان معي بالأمس ينظر في تلك الكتب، فتأكد لي أن علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدنّى “.
وفي إستانبول تقدّم النورسي بعريضة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يطلب فيها فتح المدارس التي تعلّم العلوم الرياضية والفيزياء والكيمياء وغيرها، إلى جانب المدارس الدينية في شرقي الأناضول حيث موطن الكرد، وحيث يخيّم الجهل والفقر. ثم قابل السلطان وانتقد الاستبداد ونظام الأمن لقصر يِلُدز (النجمة)، فنقمت عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية، واتُّهم بضعف قواه العقلية، ولما سقطت الاتهامات حاول وزير الداخلية إرضاءه بالمال لينصرف عن أهدافه، لكن النورسي رفض ذلك بقوة.
وانتقل النورس إلى سالونيك، وتعرّف هناك كبارَ شخصيات حزب الاتحاد والترقّي، وحاول هؤلاء أن يجعلوه تابعاً لهم، لكنهم لم يفلحوا. وفي سالونيك قابله اليهودي الشهير عمانوئيل قَرَه صُو رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (النواب) العثماني، وذلك طمعاً في التأثير على النورسي وجرّه إلى صفه، ولكن ما لبث أن خرج عمانوئيل من عنده قائلاً: ” لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجنّي بحديثه في الإسلام “.
فليعش الجنون!
وكان نفوذ جمعية الاتحاد والترقي يتزايد يوماً بعد يوم، فسيطرت على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية، وأشاعت جوّاً من الإرهاب في المجتمع، وسرّحت الضباط القدامى، واكتفت بالضباط الذين ينهجون نهجها، ونتيجة لذلك نشب عصيان قام به عناصر الطابور العسكري الذي أرسله الاتحاديون من سالونيك لحماية السلطة، وانضم إليهم الجنود من معسكرات أخرى، وسادت الاضطرابات وإطلاق الرصاص، وكان الجنود يهتفون: ” نريد الشريعة ! نريد الشريعة ” !
واستطاع الاتحاديون السيطرة على الموقف، وعزلوا السلطان عبد الحميد في (27 نيسان 1909م)، وأعلنوا الأحكام العرفية، وشكّلوا محاكم عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن العصيان، وكان النورسي من جملة المتهمين، وكان يكتب في جريدة وُولْقان (البركان) التي نشرت له مقالات عنيفة ضد الاتحاديين، وفي قاعة المحكمة – ومنظر جثث خمسة عشر من المشنوقين تظهر عبر النافذة- بدأ الحاكم العسكري خورشيد باشا بمحاكمة النورسي، قائلاً له:
” وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة؟! من يطالب بها يُشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين).
فقام النورسي، وألقى على سمع الحاكم خطبة شجاعة، جاء فيها:
” إنني متهيّئ بشوق لقدومي على الآخرة … وأنا مستعدّ للذهاب مع هؤلاء الذين علّقوا على المشانق … لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد، والآن هي تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا، فليعش الجنون! وليعش الموت! وللظالمين جهنّم “.
ولم تجد المحكمة بداً من إصدار الحكم ببراءة النورسي.
لقد أهنت القيصر!
بعد براءة النورسي غادر إستانبول إلى منطقة وان سنة (1910م)، وشرع يتجوّل بين القبائل الكردية، يعلّمهم أمور الدين، وينشر المعرفة، وهناك ألّف كتاب (المناظرات)، ثم زار دمشق، وألقى خطبة بالعربية في الجامع الأموي، ثم انتقل إلى بيروت فإستانبول، وسعى عند السلطان محمد رشاد لإحياء مشروعه الكبير (إنشاء جامعة الزهراء) في شرقي الأناضول، ووعده السلطان بذلك، لكن أحداث الحرب العالمية الأولى قضت على المشروع.
وفي سنة (1912 م)، وقبيل نشوب حرب البلقان، عُيّن النورسي قائداً للقوات الفدائية التي تشكّلت من المتطوعين الكرد في شرقي الأناضول، وتم تعيينه أيضاً في مؤسسة (تشكيلات خاصة)، وهي مؤسسة سياسية وعسكرية وأمنية سرية، شُكلّت بأمر السلطان، وكانت وظيفتها المحافظة على وحدة أراضي الدولة ومحاربة أعدائها، وقامت هيئة علماء الدين في هذه المؤسسة، ومنهم النورسي، بإصدار (فتوى للجهاد).
وبعد المشاركة في إصدار (فتوى الجهاد) رجع النورسي إلى مدينة وان، وأنشأ من طلابه ومن المتطوعين المدنيين، وغالبيتهم من الكرد، فرقًاً للجهاد، وبدؤوا بالتدريب على القتال. وقد خاطب طلابه قائلاً:
” تهيؤوا واستعدوا … إن زلزالاً شديداً أوشك على الأبواب “.
وكانت معارك ضارية تجري حينذاك في جبهة القفقاس بين الجيش العثماني والجيش الروسي، وحاولت القوات الروسية الاندفاع نحو الأناضول، واستطاعت دخول أرضروم في 16 شباط/ فبراير سنة (1916 م)، وكان النورسي وطلابه يقاتلون الجيش الروسي ببسالة، وفي خنادق القتال ألّف كتاب (إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز) باللغة العربية.
وعندما دخل الجيش الروسي مدينة بدليس كان النورسي وطلابه يدافعون عن المدينة ببسالة نادرة، وجرى قتال شديد في الشوارع، لكن كان عدد القوات الروسية أضعاف عدد المدافعين، وأصيب النورسي بجرح بليغ في ميادين القتال، وسقط في بركة ماء تحت جسر مع أحد طلابه، وهو ينزف، فأسره الروس، وأرسلوه إلى أحد معسكرات الأسرى في كوسترما بشمال شرقي روسيا.
وهناك قُدّم النورسي ذات يوم إلى المحكمة الحربية، بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي، والسبب في ذلك أن خال القيصر نيكولا نيكولافيج كان القائد العام للجبهة الروسية، وفي زيارته للأسرى، قام الجميع لأداء التحية عدا النورسي، ولاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه، فلم يقم له النورسي، وفي المرة الثالثة وقف القائد أمامه، وجرى الحوار التالي بينهما بوساطة مترجم:
– يبدو أنك لم تعرفني!
– لا، لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.
– إذاً لماذا تستهين بي؟!
– كلا. إنني لم أستهن بك، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
– وبماذا تأمرك عقيدتك؟!
– إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، ومن يحمل في قلبه إيماناً أفضل ممن لا إيمان له، ولو أنني قمت لك لكنت إذاً قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.
– إذاً فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان تكون قد أهنتني، وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.
وتشكلت المحكمة العسكرية، وقُدّم إليها النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي، وساد الحزن في معسكر الأسرى، وحاول الضباط الأتراك والألمان والنمساويون حمله على الاعتذار للقائد الروسي، وطلب العفو. لكن النورسي ردّ بحزم:
” أنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني”.
وأصدرت المحكمة قرارها بالإعدام.
وفي يوم التنفيذ حضرت مجموعة من الجنود، على رأسها ضابط روسي، لأخذه إلى ساحة الإعدام، وقام النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:
” أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدّي واجبي الأخير”.
ثم قام فتوضأ وصلّى ركعتين.
وهنا دخل القائد العام، وقال للنورسي بعد فراغه من الصلاة:
” أرجو المعذرة. كنت أظن أنك قصدت إهانتي، لكنني واثق الآن أنك كنت تنفّذ ما تأمرك به عقيدتك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة مرة أخرى “.
وظل النورسي في الأسر سنتين وأربعة أشهر، ثم استطاع الهرب خلال الفوضى التي حدثت في روسيا نتيجة الثورة البلشفية (الشيوعية)، وتمكن من الوصول إلى ألمانيا، ثم إلى إستانبول بفضل العناية الإلهية.
وزّع كتبي مجاناً!
بعد وصول النورسي إلى إستانبول، وفي 13 آب/أغسطس (1918م)، عُيّن عضواً في (دار الحكمة) تقديراً له، وكانت عضوية الدار لا تُمنح إلا للعلماء البارزين والشخصيات المرموقة، وكانت الدولة قد خصصت له راتباً، لكنه لم يأخذ من الراتب سوى ما يكفيه للعيش البسيط. ولنقرأ الرسالة التي بعث بها ابن أخيه (عبد الرحمن) إلى عمه عبد المجيد:
” إني محتار في أحوال عمي سعيد، … فالحكومة تعطيه راتباً جيداً، وأنا أقوم بادّخار ما يفضل عن مصاريفنا، وقد ألّف كتباً عدة، واستدعاني مرة قائلاً: اذهب واستدع مدير المطبعة الفلانية. فذهبت، وعندما قدّم مؤلفاته إلى المدير قال لي: يا عبد الرحمن! هات ما ادّخرته من نقود، وادفعها للسيد المدير، فنفّذت له ما أراد، وعندما ذهب المدير امتلأت عيناي بالدموع. لكني عزّيتُ نفسي قائلاً: هذه الكتب ستُطبع وستباع، وإن النقود سترجع وسأدّخرها. لكن بعد عدة أيام أرسلني مرة أخرى لاستدعاء المدير. وفي هذه المرة قال له: أرجو أن تكتب على كتبي بأنها توزَّع مجّاناً.
وعندما خرج المدير لم أتمالك نفسي عن البكاء، فقلت له:
يا عمي! كنت أدّخر بعض النقود لكي أقوم بتعمير بيتنا الذي خرّبته الحرب، والآن فقد قتلت ذلك الأمل، أيجوز ذلك؟!
وابتسم عمي قائلاً لي:
يا بنيّ .. يا عبد الرحمن! إن الحكومة تعطينا راتباً كبيراً، وليس لي أن أخذ منه إلا كفاف العيش، أما ما زاد على ذاك فيجب إعادته إلى بيت المال، لذلك فإنني قمت بإعادته…، ولا أعتقد أنك ستفهم هذا، ولكن اعلم بأن الله- إن شاء- سيعطيك بيتاً في أي مكان من هذا الوطن الحبيب”.
إلى الجبل ثانية!
وخلال الحرب العالمية الأولى وقفت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، وتوالت هزائمها على معظم الجبهات، ودخلت جيوش الحلفاء تركيا، وشعر النورسي بالحزن العميق، وكانت القوات الإنكليزية قد احتلت العاصمة العثمانية إستانبول في 16 آذار/مارس (1920م)، وألّف النورسي كتابه (الخطوات الست) يهاجم فيه الإنكليز بعنف.
ونظراً لاشتهار النورسي بعدائه للمحتلين، دُعي أكثر من مرة إلى أنقرة، حيث مركز حركة المقاومة بقيادة مصطفى كمال (آتاتورك)، ووصل إلى أنقرة سنة (1922م )، وما لبث أن اختلف مع مصطفى كمال ونهجه، وقرر مصطفى كمال إبعاده عن أنقرة، وتعيينه واعظاً عاماً للولايات الشرقية (كردستان) براتب مغرٍ، لكن النورسي رفض ذلك.
ويعرف كل قارئ لتاريخ تركيا الحديثة أن الكرد خاضوا معركة المقاومة والتحرير إلى جانب إخوتهم الترك، ولولا كفاحهم البطولي لما تحقق النصر على الدول المحتلة، لكن سرعان ما تنكّرت القيادة الطورانية لتلك الجهود، وعادت إلى تكريس سياساتها الظالمة بحق الكرد والعرب وغيرهم، وتبيّن للنورسي أن موجة كبيرة من الفساد تتفشّى، وأن القيادة التركية الجديدة هي وراء تلك الموجة، لذلك غادر أنقرة إلى وان. وهناك قضى الكثير من أوقاته قرب إحدى الخرائب المهجورة على جبل (أرك)، معتكفاً ومنزوياً.
وبسبب تمسك القيادة التركية الجديدة بالمبادئ الطورانية، ومحاولتها تتريك الكرد والعرب وغيرهم، إضافة إلى اعتبار التركي مواطناً من الدرجة الأولى، واعتبار غيرهم مواطنين من الدرجة الثانية، نشبت ثورة كردية سنة (1925م)، تطالب بالحقوق القومية للكرد، وتنبذ القوانين التي فرضتها السلطات التركية على المجتمع بالقوة والإكراه، وتطالب بعودة دولة الخلافة.
وكان قائد الثورة أحد شيوخ الكرد المعروفين بمكانتهم الدينية والاجتماعية، وهو الشيخ سعيد پِيران، وقبيل اندلاع الثورة أرسل قائد الثورة رسائل إلى النورسي، يطلب منه الاشتراك في الثورة ضد القيادة التركية الطورانية، فلم ينضم النورسي إلى الثورة، ولم يشجّع أتباعه على المشاركة فيها، كراهية منه لاقتتال المسلمين فيما بينهم.
وانتهت الثورة إلى الفشل، وأُعدم الشيخ سعيد پِيران وثمانون من كبار زعماء الكرد، ورغم عدم مشاركة النورسي في الثورة فإنه لم ينج من غضب السلطات التركية، وبينما كان النورسي منقطعاً إلى عبادة الله على قمة الجبل في وان، أرسلت الحكومة مفرزة لاعتقاله، هذا علماً بأن عشائر وان لم تساهم أيضاً في الثورة بتأثير منه.
لما ذا لا تلبس قبّعتنا؟!
نُقل النورسي بعد اعتقاله إلى إستانبول، ثم إلى مدينة بوردور، ثم إلى إسبارطا، وأخيراً إلى ناحية بارلا النائية، وهي تابعة لإسبارطا، في غربي الأناضول، وقد وصلها شتاء سنة (1926م). وفي بلدة بارلا الصغيرة عاش النورسي ثماني سنوات ونصف السنة، ألف فيها معظم (رسائل النور)، هذا رغم أنه كان معتلّ الصحة، قليل الإقبال على الطعام، وقد صنع له أحد النجارين غرفة خشبية غير مسقوفة على شجرة الدُّلْب [بالكردية: چِنار] الضخمة المنصبة أمام بيته، فكان يقضي فيها أغلب أوقاته متعبّداً ومتأملاً ومؤلفاً لرسائل النور.
وفي سنة (1932 م) صدرت الأوامر أن يكون الأذان للصلاة بالتركية بدل العربية، لكن أصرّ النورسي ومريدوه على الأذان وإقامة الصلاة بالعربية، وما كادت السلطات تعلم ذلك من جواسيسها حتى ألقت القبض على القرويين، ونُقل النورسي إثر ذلك إلى إسبارطا، وكان ذلك سنة (1934 م)، ولم ينقطع النورسي عن تأليف (رسائل النور) ونشرها. وفي صباح باكر من أحد أيام نيسان/أبريل سنة (1935 م) هاجمت قوة من الجندرما (الدرك) بيته، واعتقلوه، كما اعتقلوا مئة وعشرين من طلبته ومريديه، وسيقوا جميعاً إلى سجن (إسْكي شَهِر) ووُجّهت إليهم تهم كثيرة.
ووُضع النورسي في سجن انفرادي، وسُلّطت عليه مضايقات كثيرة، ولم تُسفر التحقيقات عن شيء، فنُفي إلى مدينة قسطموني في ربيع سنة (1936 م)، وبقي فيها سبع سنين، متابعاً تأليف (رسائل النور) ونشرها، ليس عن طريق الطبع، وإنما عن طريق النسخ باليد، وتوزيع النسخ بوساطة (سعاة بريد النور)، وظل ينتقل من سجن إلى سجن آخر، ومن محكمة إلى محكمة، وكان يصف السجن بأنه (مدرسة يوسفية)؛ نسبة إلى النبي يوسف عليه السلام، وما حاد عن مبادئه قِيد شعرة، وما قدرت السلطات أن تحول بينه وبين الاستمرار في تأليف رسائل النور، وإرشاد الناس في تركيا إلى العقيدة الإسلامية النقية.
وفي الوقت نفسه كان النورسي يندّد في مرافعاته أمام المحاكم بالطغيان الذي تمارسه السلطة، وقد قال في دفاعه، حينما كان موقوفاً في سجن دنيزلي سنة (1944 م):
” وتقولون: لماذا لا تلبس قبّعتنا منذ عشرين عاماً مرة واحدة، ولم تكشف عن رأسك لمحكمتنا مرة واحدة، مع أن سبعة عشر مليوناً انسجموا مع هذا اللباس؟ إنني أقول: ليسوا سبعة عشر مليوناً ولا سبعة ملايين ، بل لا يوجد أقل من القليل لبسوها بمحض إرادتهم واختيارهم، اللهم إلا حفنة من الحمقى الذين يلهثون وراء الرذيلة وانحطاط أوربا.
إن مثلي ممن ترك الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة لا يقال عنه مخالف أو معاند، وافرضوا أنه عناد، فما دام مصطفى كمال بنفسه لم يقدر أن يكسر عنادي، وأن محكمتين وحكومات ثلاث ولايات لم تستطع التأثير فيّ، فما أنتم وخَطبكم حتى تضيعوا الوقت في هذا العبث”؟!.
ملاحقة.. حتى بعد الموت!
استبشر الناس في تركيا خيراً بمجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم سنة (1950م)، لا لشيء، وإنما لأنه أزاح (الحزب الجمهوري ) عن الحكم، وسمح ببعض الحرية، وأرجع الأذان بالعربية، وصحيح أن النورسي تمتع بحرية الحركة، فشرع ينتقل من مكان إلى آخر، ويلتقي بطلبته ومريديه، لكن نشاطه ظل محصوراً في غربي تركيا، ولا سيما في إستانبول، وزار المواقع التي أمضى فيها أعوام النفي والسجن، وخاصة شجرته المحببة في بارلا. على أنه لم ينج في الوقت نفسه من المحاكمات والمضايقات، وأُلزم أخيراً بالإقامة في أميرداغ شهراً وفي إسبارطا شهراً، وكان ذلك سنة (1960م).
وفي إسبارطا مرض النورسي وهو في السابعة والثمانين من عمره، وفي أحد الأيام فتح عينيه، وقال لطلابه الذين كانوا يتناوبون السهر عليه:
– سنذهب !
– يا أستاذنا، أين سنذهب؟!
– إلى أورفا .. فتهيؤوا.
وظن طلبته أن أستاذهم فقد وعيه بتأثير المرض، إذ ليس من المعقول أن يسافر وهو في هذه الحالة، إضافة إلى أن سيارتهم كانت معطّلة، وعرضوا عليه الأمر ليغيّر رأيه فقال:
-” هيّئوا سيارة أخرى، ألا نستطيع دفع مئتي ليرة؟! إنني مستعد أن أبيع جبّتي إذا لزم الأمر “.
واستأجر الطلبة سيارة أخرى، وانطلقت السيارة متوجهة إلى أورفا في جنوب شرقي تركيا، موطن الكرد، وهي تحمل النورسي وثلاثة من طلبته، وسرعان ما تطايرت البرقيات والهواتف والاتصالات بين مختلف مراكز الأمن في مدن تركيا، لكنهم لم يفلحوا في توقيف السيارة، ووصل النورسي إلى أورفا في 21 آذار/مارس مع طلابه، وهو يوم عيد نوروز، ونزلوا في أحد الفنادق، وسرعان ما طوّقت الشرطة الفندق، ودخل أحد المسؤولين يبلغ النورسي- وهو طريح الفراش- أن الأوامر صادرة من وزير الداخلية بضرورة مغادرة المدينة، والعودة إلى إسبارطا فوراً.
وانتشر الخبر في المدينة، وسرى الغضب بين الجماهير، وتدخلت الشخصيات ذات النفوذ، لكن أصرّ مدير الأمن على موقفه، ولم ينفع التقرير الطبي الذي أكّد أن من المستحيل لهذا الشيخ المريض الطاعن في السن أن يسافر. ودخل مدير الأمن يبلّغ الشيخ بالأوامر القطعية، فردّ عليه النورسي قائلاً:
” أنا الآن في الدقائق الأخيرة من عمري، ولا أستطيع الرجوع، وقد أموت هنا! إن وظيفتك الآن هي تهيئة الماء لغسلي بعد الوفاة”.
وخرج مدير الأمن ورجال الشرطة متأثرين منكّسين رؤوسهم، وتقاطر الناس أفواجاً ليحظوا باللقاء الأخير مع النورسي، وانهمر سيل من البرقيات على أنقرة، تستنكر بشدة موقفها غير الإنساني، وخلال ذلك قابل النورسي المئات والمئات، ودعا لهم واحداً وحداً، ومع فجر يوم 23 آذار/مارس (1960م) أسلم الروح، وانتقل إلى بارئه ليرتاح في كنف الرحمن من قسوة البشر.
على أن محنة هذا العالم لم تنته بوفاته، ففي 27 أيار/مايو (1960م) أطاح انقلاب عسكري بالحزب الديمقراطي، وأُعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس، وفي 11 تموز/يوليو (1960م) توجّه والي أورفا مع القائد العسكري بطائرة عسكرية إلى مدينة قونيه، حيث كان يقيم عبد المجيد شقيق النورسي، وقالوا له:
– سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد من أورفا، وسيتم هذا النقل على افتراض طلبك أنت. لذا وقّع على هذه الورقة.
– ولكني لم أطلب هذا!
– لا داعي للإطالة، وقّع على هذه الورقة.
ولم تنفع ممانعات عبد المجيد، بل أُخذ بطائرة عسكرية، وتم إخراج تابوت الشيخ سعيد من القبر سراً، ونُقل رفاته إلى تابوت آخر، واتجهت الطائرة بالتابوت إلى (أفيون)، ومن هناك نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى مدينة إسبارطا، ودفن هناك في مكان مجهول.
– – – –
ونخلص مما سبق إلى أن النورسي جمع في شخصيته خصالاً فذة، أبرزها: الذكاء الخارق، وحب المعرفة، والثقافة الموسوعية، والجمع بين العلوم الدينية والدنيوية، وغزارة التأليف، فبالإضافة إلى كتاب (المناظرات)، و كتاب (إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز)، و كتاب (الخطوات الست)، ومجموعة (رسائل النور)، ألف (رسالة الحشر)، و(المثنوي العربي)، و(الشيوخ)، كما أنه تميّز بالزهد في المناصب، والثبات على المبادئ التي آمن بها، وكرّس حياته لنشر رؤيته القائمة على تربية الإنسان من الداخل. وبعبارة أخرى: كان النورسي- حسبما تؤكد سيرته- رجل المبادئ الإنسانية والقيم الرفيعة، لا رجل المنافع الذاتية والمصالح الشخصية؛ وها هنا بالتحديد تكمن أهمية سيرته.
وقد يظل قبر العلامة النورسي مجهولاً.
لكن كيف يبقى مجهولاً من دخل اسمه في سجل التاريخ ؟!
المراجع
1 – إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان سعيد النورسي (نظرة عامة عن حياته وآثاره)، مطابع الوفاء، المنصورة، الطبعة الثالثة، 1988.
2- أديب إبراهيم الدباغ: سعيد النورسي، دار الوثائق، الكويت، الطبعة الأولى، 1986.
3- أسيد إحسان قاسم: ذكريات عن سعيد النورسي، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 1977.
4- بديع الزمان سعيد النورسي: الشيوخ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي:مطبعة الزهراء الحديثة، الموصل، 1984.
5- الدكتور محسن عبد المجيد: النورسي الرائد الإسلامي الكبير، مطبعة الزهراء الحديثة المحدودة، 1987.
ملاحظة: [تقتضي الأمانة العلمية أن أعرض الحقائق التاريخية كما هي، ولا يعني ذلك أنني متفق بالضرورة مع كل موقف أو رأي أعرضه].
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة.
[1]