مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الحادية عشرة ) أمير الشعراء أحمد شوقي ( 1869 – 1932 م ) من المسؤول؟!
د. أحمد الخليل
” عذراً يا دكتور أحمد!.. كنا نعتقد أن الأكراد مثل الغجر “.
هذا ما قاله زميلنا الأردني الدكتور محمد الشوابكة، بينما كانت السيارة تخبّ بنا الطريق الصحراوية في المنطقة الغربية من دولة الإمارات، وما زالت تلك العبارة ترنّ في أذني منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين انتصب أمامي سؤال هائل، سدّ عليّ الآفاق، وأحاط بي من كل جانب، وراح يطاردني في كل اتجاه، ويطالبني بإجابة شافية: (من المسؤول؟!).
بلى، فهذا مثقف عربي، يحمل من الشهادات درجة الدكتوراه، وبقي لا يعرف عن الكرد شيئاً؛ إلى أن التقى، وهو يدرس في أمريكا، بطالب كردي من إقليم كردستان في العراق، واكتشف حينئذ أن الكرد شعب، وليس شراذم متقطعة، وأنهم مثل سائر شعوب العالم، فيهم المثقفون من حملة الدكتوراه وغيرهم، وكان منهم الساسة والقادة، وعلماء الدين والدنيا. وإذا كانت هذه حال المثقف العربي إزاء الكرد – ولا أعتقد أن حال المثقف التركي والفارسي تختلف كثيراً- فكيف تكون إذاً حال المتعلم العادي وحال الأمي من هذه الشعوب؟!
وهاأنذا أضع السؤال أمامكم معشر القراء!
من المسؤول عن تغييب حقيقة الكرد من الذاكرة الشرق متوسطية؟! وليس هذا فحسب، بل من المسؤول عن تقديم الكرد إلى شعوب شرقي المتوسط، وربما إلى العالم أجمعه، بهذه الصورة المشوّهة التي تصل إلى حد الإهانة في تقديري؟! هل هم أولئك الذين يتحدّثون عن الكرد وكأنهم هبطوا خلسة، وفي ليلة ظلماء دامسة، على شرقي المتوسط، قادمين من كوكب مجهول؟! أم أنهم الذين يذكرون الكرد وكأنهم مجموعات مشرّدة، غير معروفة الهوية ولا التاريخ؟! أم هم أولئك الذين احترفوا صناعة الأوهام، وتعمّدوا تضليل شعوبهم، وقدّموا تاريخ البيت الشرقي متوسطي على أنه لا وجود للكرد فيه أصلاً؟!
إن كل هؤلاء مسؤولون عن هذا التضليل التاريخي، وقد درجت العادة في بيتنا الشرق متوسطي هذا أن نحمّل الساسة وحدهم مسؤولية كل تقصير، وهذا ما لا أراه صواباً، وإنما يتحمّل المثقفون المسؤولية الكبرى، لأنهم لو قاموا برسالتهم التثقيفية خير قيام، وقدّموا الحقائق للجماهير، بعيداً عن الأنانيات سواء أكانت دينية أم مذهبية أم قومية أم قبلية، لأوجدوا المُناخ الذي يساعد السياسي على انتهاج السياسات الواقعية الحكيمة، ومع ذلك فإن المثقفين العرب والترك والفرس لا يحملون سوى نصف الوزر، أما النصف الآخر فيحمله المثقفون الكرد أنفسهم.
في رحاب التاريخ
أجل، فلنعد إلى التاريخ، إنه الفيصل، وبالاحتكام إليه يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولن نذهب بعيداً، وإنما نكتفي بالوقوف عند بدايات القرن السادس عشر الميلادي، فقد كانت كردستان حينذاك ميداناً للصراع بين الصفويين الفرس والعثمانيين الترك، وكانت الإمارات الكردية تنعم بالاستقلال، وحوالي سنة (1515م)، وبجهود الشخصية الكردية ملا إدريس بدليسي، أفلح السلطان العثماني سليم الأول في استقطاب الحكمداريات والإمارات الكردية، وعقد ملاّ إدريس معاهدات مع الزعماء الكرد باسم السلطان، فبعث لهم السلطان فرمانات (مراسيم) يعترف فيها بهم على أنهم (بَگْلَرْبك)، لهم سلطاتهم المبجّلة وحقوقهم المتوارثة غير القابلة للتحويل، ولهم امتيازاتهم وملكياتهم لقلاعهم وحصونهم وأراضيهم بالكامل، ومُنحوا لقب الحكومات الكردية المسؤولة قانونياً فقط عن جزية سنوية اسمية، وتجنيد عدد محدّد من المسلحين والخيالة أثناء الحروب؛ وهذا ما يسمى في اللغة السياسة الحديثة باسم (الفيدرالية).
لكن مع بداية القرن التاسع عشر حدث التغيير؛ فقد عمد السلطان محمود الثاني، إلى إلغاء الإدارات الكردية الوراثية المتمتّعة بالحكم الذاتي، وفرض ولاة غرباء على الشعب الكردي، فراح هؤلاء يسومونه القهر والإذلال إضافة إلى الاستغلال البشع، ولاحظ الكرد في الوقت نفسه أن الإدارة العثمانية باتت تعمل لبسط سيطرة العنصر التركي في أرجاء الدولة، وزحزحة سائر المواطنين إلى المرتبة الثانية والثالثة؛ فكانت النتيجة أن الكرد نقموا على تلك السياسات، ونشبت الثورات الكردية المتلاحقة.
فمع بداية القرن التاسع عشر نشبت ثورة عبد الرحمن باشا الباباني (1804- 1813 م)، وتلتها ثورة كُور أحمد باشا راوندوز (1836 م)، ثم ثورة الأمير بدرخان بگ سنة (1842- 1847 م)، وثورة عثمان بك وحسين بك في الجزيرة سنة (1878 م)، ثم ثورة الشيخ عبيد الله نهري سنة (1880 م)، وتوالت ثورات كردية أخرى، لكنها أخفقت في الخلاص من السيطرة العثمانية، وكانت السلطات العثمانية تقوم، بعد القضاء على كل ثورة، بحملات القمع والتهجير القسري، فنزحت عائلات كردية كثيرة إلى عواصم بلاد الشام وإلى مصر وأوربا.
وبرز من أحفاد تلك الأسر الكردية شاعر ألمعي، ومثقف عبقري، له مكانة سامية في الأدب العربي الحديث، شنّف آذان معاصريه بقصائد رائعة، وأتبعها بمسرحيات شعرية خصبة، ينشر القصيدة فتصبح حديث الصحف والنوادي، ويرسل الحكمة فتجد لها مستقراً في القلوب قبل العقول، أقرّ له شعراء العربية في عصره بالعبقرية، ووضعوا راية الشعر في يده، ونصبوه أميراً عليهم، وما كان عصره بخيلاً بالشعر ولا عقيماً من الشعراء، بل كان فيه الجهابذة والفحول؛ فهذا حافظ إبراهيم في مصر، وخليل مطران في لبنان، وبدويّ الجبل في سوريا، وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي في العراق، وغيرهم وغيرهم.
الرجل هو أحمد شوقي.
فماذا عن نشأته وشخصيته وعبقريته الشعرية؟
آخر من ينثر الذهب!
نزح الشاب أحمد شوقي، جدّ شاعرنا لأبيه، من كردستان- العراق إلى مصر، وهو يحمل رسالة توصية من حاكم عكا الشهير أحمد باشا الجزّار، وكانت مصر آنذاك تحكم من قبل محمد علي باشا، فضمّ محمد علي باشا الشاب الكردي إلى حاشيته، وكان يحسن العربية والتركية، وتتالت الأيام، فتنقّل في المناصب العالية، حتى أصبح أميناً للجمارك المصرية في عهد سعيد باشا، وتوفي عن ثروة واسعة عاش في ظلها عليّ والد شوقي، وشوقي نفسه.
أما ( جدّ شاعرنا لأمه فهو أحمد حليم النجده لي، نسبة إلى قرية (نجده)، ولعلها ( نگده )، وهي تقع في شمال شرقي كردستان قرب بحيرة أورميه، وإذا كان صح ذلك يكون أحمد النجده لي نفسه كردياً، لكن بما أنه قدم من جهات تركيا عده بعض الباحثين تركيا ً، وقد دخل مصر في عهد إبراهيم باشا الذي أعجب به، وقرّبه منه، وزوّجه معتوقته اليونانية تمراز، وكانت قد أسرت في حرب الموره وهي بنت عشر سنوات، ونشأت في القصر بين وصيفاته، وتقلّد النجده لي العديد من المراتب السامية في الدولة، حتى أصبح وكيلاً لخاصة الخديوي إسماعيل، وتوفي وهو في تلك الوظيفة، فنقل الخديوي مرتّبه إلى أرملته.
وتزوج علي والد شوقي من ابنة النجده لي، وكانت الثمرة شاعرنا الكبير أحمد شوقي سنة (1869 م). وكانت جدته اليونانية تمراز شغوفة به حريصة على تربيته، وكانت منذ عصر إبراهيم باشا على صلة وطيدة بالقصر، ودخلت يوماً بحفيدها على الخديوي إسماعيل، وكان في الثالثة من عمره، ونظر إليه إسماعيل، فوجد بصره مشدوداً إلى السماء، فطلب بَدْرَة [كيساً صغيراً] من الدراهم الذهبية، ونثرها على البساط عند قدميه، فتحوّل شوقي إلى الدراهم، يجمعها ويلعب بها، فقال إسماعيل لجدّته: اصنعي معه ذلك حتى يتعوّد النظر إلى الأرض، فأجابته قائلة: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك! فقال: جيئي به إليّ متى شئت، حتى أنثر الذهب تحت عينيه، فإني آخر من ينثر الذهب في مصر.
سذاجة أم تجاهل؟!
وتتجلى الطريقة التي يتعامل بها بعض الباحثين مع الحقائق التاريخية، والتي تصل أحياناً درجة الخلط والسذاجة، في حديثهم عن أصول أحمد شوقي، فقد ذكر فوزي عَطْوي في كتابه (أحمد شوقي أمير الشعراء، ص 11) أن أحمد شوقي ذكر أصله في مقدمة الطبعة الأولى للجزء الأول من ديوانه (الشوقيات) الذي أُنجز سنة (1898 م)، فقال:
” سمعت أبي رحمه الله يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم إلى هذه الديار يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا، وكان جدي، وأنا حامل اسمه ولقبه، يحسن العربية والتركية خطاً وإنشاء، فأدخله الوالي في معيّته، …. “.
وهذا إقرار صريح من شوقي بأن نسبه كردي، أما قوله (إلى الأكراد فالعرب) فيرجع إلى الرأي الذي تناقله بعض المؤرخين القدماء، ومفاده أن الكرد ينتسبون في الأصل إلى العرب، ومنهم من نسبهم إلى القحطانيين، ومنهم من نسبهم إلى العدنانيين، وقد شاعت تلك الآراء بدءاً من ابن الكَلْبي محمد بن السائب (ت 146ﮪ) في كتاب له حول الأنساب، وأبي اليقظان سُحَيْم بن حَفْص (ت 190ﮪ) في كتابه (النسب الكبير)، ومروراً بالمؤرخ الشهير المسعودي (ت 346ﮪ) في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، ووصولاً إلى المقريزي (ت 845 ﮪ) في (كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك). غير أن الدراسات الحديثة تناقض تلك الآراء، وهذا موضوع شائك يحتاج إلى بحث مستقل، نأمل أن نقف عنده ذات يوم بعون الله.
وتعالوا نقرأ ما قاله بعض الباحثين عن أصل أحمد شوقي.
قارن الدكتور طه حسين في كتابه (حافظ وشوقي، ص 179) بين طبيعة حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، فلم يأت على ذكر الكرد مطلقاً، وقال:
” أما طبيعة شوقي فشيء آخر، معقدة ينبئنا شوقي نفسه بتعقيدها، فيها أثر من العرب، وأثر من الترك، وأثر من اليونان، وأثر من الشركس؛ التقت كل هذه الآثار وما فيها من طبائع، واصطلحت على تكوين نفس شوقي، فكانت هذه النفس، بحكم هذه الطبيعة أو الطبائع، أبعد الأشياء عن البساطة، وأنآها عن السذاجة “.
وتجاهل الدكتور محمد حمّود في كتابه (أحمد شوقي شاعر الأمراء، ص 5) النسب الكردي لأحمد شوقي، فقال:
” ولد عام 1868 م في قصر الخديوي إسماعيل، لم يكن آباؤه مصريين، جده لأبيه شركسي عربي، قدم مصر أيام محمد علي “.
وتناول كتاب (أعلام الشعر العربي الحديث، ص 37) أصل أحمد شوقي، فقال:
” فجدته لأمه جارية يونانية الأصل، سماها إسماعيل تمراز، وتزوّجت هذه الجارية اليونانية من رجل تركي فأنجبت أم شوقي. وأما أبوه وجده لأبيه فشركسيان “.
والباحث الوحيد الذي دقّق في الأمر إلى حد ما هو الدكتور شوقي ضيف في كتابه (شوقي شاعر العصر الحديث، ص 9)، إذ قال متحدثاً عن ربة الشعر وشوقي:
” فقد جاءت به من عنصر تركي وآخر شركسي، وعنصر يوناني وآخر عربي كردي، فتآزرت فيه العناصر، وأخرجت منه شاعراً ممتازاً، لعل مصر لم تظفر بمثله في عصورها المختلفة”.
ثقافة أحمد شوقي
تردّد شوقي منذ الرابعة من عمره إلى كتّاب الشيخ صالح، ثم انتقل منه إلى مدرسة المبتديان، فالتجهيزية، وأظهر نبوغاَ وتفوقاَ، فمُنح المجانية مكافأة له، وتخرّج فيها وعمره خمس عشرة سنة، وقد تفتّحت حينذاك موهبته الشعرية، وأخذ يصوغ بها بعض المواقع الجغرافية مثل أرجوزته:
إفريقيا قسم من الوجودِ في شكلها أشبه بالعنقودِ
وكان في مصر حينذاك نوعان من التعليم: التعليم على الطريقة التقليدية، والتعليم على الطريقة الحديثة، وبهذا النوع الأخير أخذ شوقي، وبعد أن أتمّ تعليمه الثانوي ألحقه والده بمدرسة الحقوق لدراسة القانون. ولنستمع إلى ما يقوله أحمد زكي في ذلك:
” كان في جملة الوافدين سنة (1885 م) فتى نحيف، هزيل ضئيل، قصير القامة، وسيم الطلعة تقريباً، فتى بعيون متألقة تحقيقاً، ولكنها متنقلّة كثيراً، فإذا نظر إلى الأرض دقيقة واحدة، فللسماء منه دقائق متمادية، وإذا تلفّت صوب اليمين فما ذاك إلا لكي يرمي ببصره نحو الشمال، وهو مع هذه الحركات المتتابعة المتنافرة هادئ ساكن وادع، كأنما يتحدث بنفسه إلى نفسه، أو يتلاغى مع عالم من الأرواح، ما كان يلابسنا فيما نأخذ فيه من اللهو والمزاح، ولا يتهافت معنا على تلقّف الكرة بعد الفراغ من تناول الغداء “.
وفي مدرسة الحقوق التقى شوقي أستاذه في اللغة العربية الشيخ محمد البسيوني، وكان شاعراً فصيحاً، يدبّج القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق كلما حلّ موسم أو أهلّ عيد، وكان يعرض قصائده تلك على شوقي، فيعدّل ويصلح، ويمحو ويُسقط، والأستاذ مغتبط بكل ذلك، وسار شوقي في الدرب الذي سار فيه أستاذه البسيوني، فراح ينشئ القصائد في مدح الخديوي توفيق.
وحين أنشئ في الحقوق قسم للترجمة انتسب إليه شوقي، وتخرّج منه سنة (1877 م) وهو يتصف بأنه شاعر الخديوي توفيق، فاستقبله الخديوي وهنأه بالتخرّج، وعيّن والده علياً- وكان مبذّراً متلافاً- مفتشاً في الخاصة الخديوية، ثم عيّن شوقياً من بعده في المنصب ذاته.
ورأى الخديوي توفيق أن يرسل أحمد شوقي في بعثة إلى فرنسا لدراسة القانون، وظل شوقي في فرنسا قرابة أربع سنوات، زار خلالها أصقاع ذلك البلد، واطّلع على آدابه، وشاهد مسارحه، وقرأ صحفه، كما زار إنجلترا والجزائر لفترات محدودة.
ورجع شوقي إلى مصر سنة (1892 م)، وكان الخديوي توفيق قد توفي وخلفه الخديوي عباس الثاني، فعُيّن شوقي في القصر بقلم الترجمة، وقرّبه الخديوي منه، وعيّنه رئيساً لقلم الترجمة، كما جعله موضع ثقته وموضع مشورته، وقدّمه على جميع رجال حاشيته في القصر، وبذلك كان نافذ الكلمة مسموع الرأي، يقصده طلاب الحاجات، ويتزلّف إليه الوزراء والكبراء والطامعون في الرتب والألقاب.
بعيداً .. في المنفى
ظل شوقي شاعر الخديوي عباس لفترة طويلة، ولم يكن عباس على وفاق مع الإنكليز الذين كانوا يهيمنون على مصر، وحينما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة (1914 م) كان عباس في تركيا، وأعلنت إنكلترا حمايتها على مصر، ومنعت الخديوي عباس من العودة إليها، وعيّنت السلطان حسين كامل بدلاً منه، ولم يخف شوقي وفاءه للخديوي عباس، وأوجس الإنكليز خيفة من تأثير شعره في نفوس المصريين، فأمروا بنفيه، فاختار إسبانيا مقاماً، وهناك في برشلونة تعمّق شوقي في قراءة الشعر الأندلسي، وأعجب بالشاعر ابن زيدون، ولما وضعت الحرب أوزارها، سمحت له السلطات المصرية بالعودة إلى مصر، فخرجت القاهرة لاستقباله، وبالغ أهلها في الحفاوة به.
شخصية شوقي
نقل الدكتور محمد حمّود عن كاتب أحمد شوقي قوله:
” كان شوقي الإنسان لا يقل رفاهة إحساس ومشاعر عن شوقي الشاعر، فقد كان براً بأبيه وأمه وأخته التي تنازل لها عن حقه فيما تركه والده…”. ولم يكن يغضب أحداً من أهله ” بل كان يقابل كبيرهم كما يقابل صغيرهم هاشاً باشاً، وكان في مجلسه كثير المزاح، كثير المداعبة معهم، إذا رأى أحدهم مقطّباً اهتم بأمره، وأخذ يستدرجه بغير ضغط حتى يعلم السبب، وعندما يعلم تسهل عليه المعالجة في بضع دقائق “.
ولم يكن كرم أخلاق أحمد شوقي مقتصراً على أهله، بل كان يعامل الآخرين على ذلك النحو، فلم يشعر خادم من خدمه بذل الخدمة مطلقاً، بل كان يعطف على الجميع، ويساعدهم ويجاملهم، وكان بشوشاً يقابل كل زائريه بابتسامة، ويقدم لهم السجائر بنفسه أحياناً، وكان كريماً مضيافاً، يبذل المال في سبيل الأصدقاء، ولا يمنعه عن طالب حاجة، ويتصدق كثيراً.
وذكر الدكتور زكي مبارك- وهو ممن عرف أحمد شوقي عن قرب- أول مرة يرى فيها شوقي، فقال: ” رأيته رجلاً خالياً من الأبّهة والوجاهة في ملبسه وهندامه “. وأضاف أن أحمد شوقي قلما يتحدث عن شعره، وقلما ينشده، وإنما يوكل بإنشاده من يتوسّم فيه حسن الفهم، وحسن الأداء، ومنهم فكري أباظة. على أنه كان في شبابه ولوعاً باللهو والخمر، ولولعه بالخمرة وبإمامها أبي نواس (الحسن بن هانئ) أطلق على بيته في المطرية (إحدى ضواحي القاهرة) اسم (كرمة ابن هانئ).
إمارة الشعر
بعد عودة أحمد شوقي من المنفى أصبح أكثر قرباً من جماهير الشعب، وكانت شهرته قد طبّقت الآفاق، فأينما حلّ كانت الاستقبالات في انتظاره، وكان بيته منتدى الأدباء والشعراء وكبار رجال عصره، وقد زاره سنة (1926 م) طاغور شاعر الهند الكبير، وقلما وفد على مصر زعيم عربي إلا زاره، واختير عضواً في مجلس الشيوخ، وأعاد طبع ديوانه الشوقيات في سنة (1927 م)، وأقيمت له بﮪذه المناسبة حفلة تكريم كبيرة اشتركت فيها الدول العربية، ووضع تاج إمارة الشعر العربي على مفرقه، وأعلن الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم البيعة باسم شعراء البلاد العربية، قائلاً:
أميرَ القوافي، قد أتيتُ مبايعاً وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وهكذا تحقق لشوقي ما كان يطمح إليه من مجد أدبي، وأصبح شاعر الشعب المصري، وشاعر العرب والمسلمين، بعد أن كان شاعر الخديوي وحده، وقد شارك بشعره في الثورة الوطنية السورية ضد الفرنسيين، فأنشد قصيدته الرائعة التي يقول فيها:
وللحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرّجة يُدقُّ
وأشاد بالكفاح في ليبيا ضد الطليان، فقال في رثائه للشهيد عمر المختار:
ركزوا رفاتك في الرمال لواءَ يستنهض الوادي صباحَ مساءَ
وأصبح شوقي أمل الشباب في مصر وسوريا وغيرﮪما من بلاد العرب، وأصبح شعره يردّد على ألسنة معظم المثقفين والمتعلمين، وظل متربّعاً على إمارة الشعر بقيّة حياته.
مكانته الشعرية وآثاره
عالج شوقي أكثر فنون الشعر، سواء أكان مديحًا أم غزلاً أم وصفاً أم رثاء، ثم حلّق، فتناول الأحداث السياسية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي، وهو أول من ألّف القصص الشعري التمثيلي بالعربية وأجاد فيها، وقد حاول قبله أفراد فتقذّمهم، ويزيد شعره على ثلاثة وعشرين ألف بيت، منها سبعة عشر ألف بيت وخمسمئة في أغراض الشعر المعهودة، وما يزيد على ستة آلاف في الشعر المسرحي، وﮪذا رقم يتجاوز الرقم الذي أمكن الوصول إليه لأي شاعر أنشد الشعر بالعربية، فالمقدر لشعر ابن الرومي- وهو مثال للخصب في النتاج الشعري- من ستة عشر إلى سبعة عشر ألف بيت، وهكذا يعدّ شوقي بحق أكثر شعراء العربية خصباً، سواء أكانوا قدامى أم محدثين.
ومن آثاره:
– الشوقيات في أربعة أجزاء.
– دول العرب (نظم).
– مسرحيات شعرية: (مصرع كليوباترا، قمبيز، علي بك الكبير، أميرة الأندلس، مجنون ليلى، عنترة، الست هدى).
وفيما يأتي قبسات من أشعاره:
قال في الغزل:
تأتي الدلالَ سجيةً وتصنّعا وأراك في حالََي دلالك مبدعا
تِهْ كيف شئتَ، فما الجمالُ بحاكمٍ حتى يطاعَ على الدلال ويُسمعا
لك أن يروّعك الوشاة من الهوى وعليّ أن أهوى الغزال مروَّعا
وقال في الظلم والظالمين:
زمانُ الفرد يا (فرعون) ولّى وولّت دولة المتجبّرينا
وأصبحت الرعاةُ بكل أرضٍ على حكم الرعية نازلينا
وقال داعياً إلى وحدة الصف:
إلامَ الخُلُفُ بينكمُ إلاما؟! وهذي الضجّةُ الكبرى علاما؟!
وفيمَ يَكِيدُ بعضكمُ لبعضٍ وتُبدون العداوة والخِصاما؟!
إذا كان الرماةُ رماةَ سَوءٍ أحلّوا غيرَ مرماها السهاما
وقال في أهمية الأخلاق:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهمْ ذهبُوا
وليس بعامرٍ بُنيانُ قومٍ إذا أخلاقُﮪمْ كان خرابا
صلاحُ أمركَ للأخلاق مَرجِعُه فقوّم النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ
وقال في ضرورة الجد وامتلاك القوة:
وما نيلُ المطالب بالتمنّي ولكنْ تؤخذُ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منالٌ إذا الإقدامُ كان لهمْ رِكابا
وقال في تعريف الشعر:
والشعرُ ما لم يكن ذكرى وعاطفةً أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزانُ
آراء النقاد
قال الدكتور طه حسين في كتابه (حافظ وشوقي، ص 90):
” … وإنما هو شاعر يحب الشعر للشعر، وينشئ الشعر لأنه يجد في نفسه عواطف يجب أن يصفها، وإحساساً يجب أن يذيعه، وهو شاعر لأنه يشعر، وليس بالشاعر لأنه يريد أن يتكلم “.
وقال الدكتور محمد مندور في كتابه (مسرحيات شوقي، ص 17، 18)، بعد أن تحدث عن تأثر شوقي بالأدب الغربي تأثراً كبيراً:
” والواقع أن شوقي لم يأخذ أصول الأدب المسرحي عن كاتب واحد، ولا عن مذهب بعينه، بل جمع بين عدة اتجاهات غربية، وأضاف إليها اتجاهات شرقية وعربية، … ونراه يود أن يتخذ من المسرح مدرسة لعزة النفس ونبل الأخلاق على نحو ما فعل كورني “.
وقال الدكتور شوقي ضيف في كتابه (شوقي شاعر العصر الحديث، ص 44)، متحدثاً عن دور الموسيقا الشعرية في قصائد شوقي:
– ” ولا أبالغ إذا قلت: إنني لا أستمع إلى قصيدة طويلة لشوقي حتى أخال كأني أستمع حقاً إلى سمفونية …، ولا أرتاب في أن ذلك يرجع إلى ضبطه البارع لآلات ألفاظه وذبذباتها الصوتية، وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة فحسب، بل هي أبعد من ذلك غوراً، هي نبوغ وإلهام، وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر “.
وقال في الكتاب نفسه (ص 44)، مشيداً بعنصر الخيال في شعر شوقي:
– ” … كان شوقي واسع الخيال، غني التصوير، وشعره من هذه الناحية متحف لصور وأشباح متحركة تفد عليك من كل جانب، … وإن الإنسان ليخيّل إليه أنه لم تكن تفوته لفتة أو حركة لشيء أو لصورة إلا اختزنها في ذاكرته، ووعاها في حافظته، ليُلقي بها عند الحاجة رسماً أو لوحة باهرة “.
وقال في الصفحة ( 84)، موضحاً قدرة شوقي على أن يجمع في شعره بين تيارين: تيار القديم، وتيار الجديد:
” فقد تثقّف بالثقافة الأوربية، ودرس الحقوق، واطلع على الآداب الفرنسية، واختلف إلى المسارح التمثيلية والغنائية في باريس، وإلى مقهى (داركور) حيث كان يجلس الشاعر الرمزي ڤرلين “.
الرحيل…
وقبل وفاة شوقي بسنتين تهافتت عليه الأمراض، فعكف على قراءة القرآن الكريم وكتب الحديث النبوي، وكان يُعجب على وجه خاص بالإمام أبي حامد الغزالي، وبالمؤرخ الجبرتي، وظل سمح النفس، مستبشر الوجه، خفيف الروح، وفي الهزيع الأخير من ليلة (14تشرين الأول/أكتوبر 1932 م) لبّت روحه نداء ربه، فارتفع النواح في مصر والأقطار العربية، وخرج الشعب المصري يشيّع شاعره بقلوب حزينة وعيون دامعة، وانبرى الكتاب والشعراء في مصر والشرق العربي يرثون الشاعر الكبير، وأقيمت له حفلات التأبين في كل مكان، وندبته الصحف بحرارة.
المصادر
1 – أحمد شوقي: الموسوعة الشوقية (الأعمال الكاملة)، جمع وترتيب وشرح إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1994.
2 – أحمد عبيد: ذكرى الشاعرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، عالم الكتب، بيروت، ط 2، 1985.
3 – الدكتور أحمد محمد الحوفي:
– الإسلام في شعر شوقي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر، 1972.
– وطنية شوقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978.
4 – إيليا حاوي: أحمد شوقي أمير الشعراء، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1977.
5 – الدكتور زكي مبارك: أحمد شوقي، دار الجيل بيروت، 1988.
6 – الدكتور شوقي ضيف: شاعر العصر الحديث، دار المعارف، القاهرة، 1953.
7 – الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1933.
8 – الدكتور طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1981.
9 – عِرفان شهيد: العودة إلى شوقي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1986.
10 – فوزي عطوى: أحمد شوقي أمير الشعراء، دار صعب، بيروت، ط 3، 1978.
11 – الدكتور محمد حمّود: أحمد شوقي شاعر الأمراء، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 2003.
12 – الدكتور محمد سلامة صالح: شوقي والمسرحية الشعرية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1986.
13 – الدكتور محمد صبري: الشوقيات المجهولة، دار المسيرة، بيروت، 1979.
14 – الدكتور محمد مندور: مسرحيات شوقي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1982.
15 – محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات الجامعة التونسية، تونس، 1981.
16 – المكتب التجاري (تقديم إيليا حاوي): أعلام الشعر العربي الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1970.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية عشرة.
[1]