مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي الحلقة العشرون الملك نصر الدولة ( ت 453 ﮪ / 1061 م) أمر غريب!
د. أحمد الخليل
لم يكن المجتمع الكردي على الدوام سليل الصمت وأسير الضياع.
ولم يكن على الدوام خارج التاريخ كما يحلو للبعض أن يصوّر.
ولم تكن كردستان على الدوام أرض الجهل والفظاظة كما صوّرها آخرون.
كانت كردستان، كلما سنحت الظروف، موطن العلم والعلماء والمفكرين.
وقامت فيها، على فترات مختلفة، ممالك ودول وإمارات مزدهرة.
وعجيب أمر كثيرين من المؤرخين المحدثين، إنك تجدهم يغربلون التاريخ الإسلامي وينخلونه، ويذكرون تفاصيل إمارات ودول مختلفة قامت هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي القديم، أما الدول والإمارات التي قامت في كردستان فيضربون عنها صفحاً، ولا يشيرون إليها لا من قريب ولا من بعيد.
وها أنا ذا آخذ كتاب (تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) الجزء الثالث، للمؤرخ القدير الدكتور حسن إبراهيم حسن، فأجده قد قام بمسح سياسي دقيق للعصر العباسي، في الفترة الواقعة بين عامي (232 – 447 ﮪ / 847 ﮪ / 1055 م)، وأفرد (الباب الرابع) لذكر (الدول المستقلة)، حسب تسميته هو، وأجده يذكر الدولة الغزنوية في أقصى شرقي العالم الإسلامي، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، في بلاد فارس، والدولة البُوَيهية في بلاد فارس والعراق، والدولة الحَمْدانية في شمالي سوريا، والدولة الطُّولونية في مصر، والدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا وفي مصر، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في مراكش، والدولة الأموية في الأندلس.
وأُبدئ النظر في الفهرس وأعيده، فلا أجد شيئاً عن الدول الكردية التي قامت في تلك الفترة، وفيما يلي أسماؤها: الحكومة الرََّوادية في أذربيجان (230 – 618 ﮪ)، والحكومة السالارية في أذربيجان (300 – 420 ﮪ)، والحكومة الحَسْنَويهية البرزيكانية في هَمَذان (330 – 405 ﮪ)، والحكومة الشَّدّادية في أَرّان (340 – 465 ﮪ) [ تقع أرّان في جمهورية أذربيجان وجمهورية جورجيا الحاليتين، ومن مدنها نَخْجوان، وتفليس، وقَرَه باغ ]، والدولة الدُّوستكية (المروانية) في كردستان الوسطى (350 – 478 ﮪ)، والحكومة العَنازية في حُلْوان بجنوبي كردستان (380 – 446 ﮪ).
وقد يقال: أتقيس هذه الإمارات والدول الكردية بالدولة الغزنوية، والدولة البويهية، والدولة الطولونية، والدولة الفاطمية، والدولة الأموية، وأنت تعلم المساحات الواسعة التي حكمتها تلك الدول، والأحداث الخطيرة التي جرت فيها؟!
وأقول: حسناً، ولماذا لا نقيس تلك الدول الكردية بكل من الدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الحمدانية، ودولة الأغالبة، ودولة الأدارسة؟! هذا مع العلم أنها لم تكن أقل شأناً، ولا أقصر عمراً، من هذه الدول.
أمر غريب حقاً أن تُرى كل (الدول المستقلة) في تاريخ الإسلام.
إلا الدول الكردية، فهي لا تُرى حتى بالميكروسكوب.
ومهما يكن فقد رأينا أن نقف عند سيرة أحد ملوك الكرد.
إنه الملك نصر الدولة أحمد بن مروان.
عهد التأسيس
وما دمنا بصدد الحديث عن الملك نصر الدولة، فلا بد لنا من رحلة إلى منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فهو – نصر الدولة – كان ملكاً يقود دولة، وكانت تلك الدولة في البداية إمارة صغيرة، ثم نمت وتطورت، فصارت دولة ذات مكانة، وذلك هو شأن معظم الدول عبر التاريخ، إن لم يكن شأن كلها.
وتسمى هذه الدولة باسم (الدولة المروانية)، وتسمى (الدولة الدوستكية) أيضاً، وقد نشأت سنة (372 ﮪ / 982 م)، وظلت قائمة إلى سنة (478 ﮪ / 1086 م)، وكانت عاصمتها مدينة فارقِين (مَيّافارقِين)، وشمل نفوذها ولايات: ديار بكر، وماردين، وسِعَرْد (سيرت)، وبَدْليس، وقسماً من ولاية مُوش، إضافة إلى قضاء أَرْجِيش من ولاية وان، وأجزاء من ولايات: آلَزِگ ( العزيز)، وولاية أُورفا (الرُّﮪا)، ونصيين وأطراف الموصل.
ويذكر الفارقي في تاريخه أن اسم مؤسس تلك الدولة باد بن دُوستك الحاربختي، وهو أبو عبد الله الحسين بن دُوسْتِك، والأرجح أن (باد) لقب للرجل، ويعني بالكردية (الريح)، ويسمى (باذ) أيضاً، وكان يمتاز بالحنكة وبرجاحة العقل وكرم الطبع، وقد التفّ حوله المعجبون به، فهاجم أرجيش، وكانت أول مدينة دانت لسلطانه، وأقام علاقات ودّية مع الملك البويهي عضد الدولة، بل إنه قدّم مساعدات قيّمة للجيش البويهي لكسر شوكة الأمير أبي تغلب الحمداني.
وحينما دخل البويهيون الموصل سنة (368 ﮪ) جاء أبو شجاع للقاء عضد الدولة، وما إن اجتمع بالملك البويهي حتى فطن إلى أنه لن يبقي عليه، وكان ظنه صائباً؛ وذكر ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ، ج 9، ص 35) أن عضد الدولة قال بعد أن خرج باد من مجلسه: ” له بأس وشدة، وفيه شر، لا يجوز الإبقاء على مثله “. وأمر بالقبض عليه، لكن كان أبو شجاع قد غادر المدينة سراً، ولحق بجيشه.
وسرعان ما تعاون البويهيون والحمدانيون للقضاء على أبي شجاع واغتياله، فخابت مساعيهم، ثم هاجم أبو شجاع الموصل، وخاض معركة ضارية ضد بني بويه والحمدانيين وبني عقيل، وجرح في المعركة إثر سقوطه حين قفز من على ظهر فرسه إلى ظهر فرس آخر، ثم قُتل، وكان ذلك سنة (380 ﮪ / 990 م)، قال ابن الأثير: ” وحُملت جثّته إلى الموصل… وصُلّي عليها بالموصل، ودُفنت، ولحق أهل الموصل من الحزن عليه والأسف لقتله ما لا يوصف، وعملوا عليه المآتم والنّدب والبكاء “.
عهد الازدهار
بعد مصرع أبي شجاع تولّى القيادة ابن أخته الأمير أبو علي حسن بن مروان، وكان شهماً جريئاً، ودارت معارك بينه وبين الحمدانيين جنوباً، وبينه وبين الأرمن شمالاً، هذا إلى جانب صراعه مع الدولة البيزنطية من ناحية الغرب، وكان ينوب عنه في شؤون الحكم سياسي كردي موهوب يدعى مَمْ، قال الفارقي: ” وكان شيخاً مقداماً مجرَّباً شهماً من الرجال، قد حنّكته التجارب، وبقي يسوس دولة أبي علي ويدبّرها أحسن تدبير”.
واغتيل أبو علي سنة (387 ﮪ / 997 م)، وتولّى الإمارة من بعده الأمير سعيد بن مروان، ولقبه ممهّد الدولة، وفي عهده نالت الدولة المروانية الاعتراف من قبل القوى السياسية الكبرى حينذاك؛ إذ أرسل الخليفة العباسي القادر بالله وفداً رسمياً لتهنئته، كما اعترف بها كل من الملك البويهي بهاء الدولة في العراق وفارس، والخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في مصر، واجتمع ممهّد الدولة بالإمبراطور البيزنطي باسيل سنة (390 ﮪ) في المنطقة الحدودية بين الدولتين، واتفقا على التفاهم والتحالف.
واغتيل ممهّد الدولة حوالي سنة (401 ﮪ) بمؤامرة دبّرها حاجبه شَيرُوه بن مَمْ، وتعرّض كيان الدولة للخطر، فقد حاول شيروه الاستئثار بالحكم والقضاء على الأسرة المالكة، لكن رؤساء العشائر الكردية وقفوا إلى جانب الأمير نصر الدولة أحمد بن مروان، فتولّى الملك بعده أخيه ممهّد الدولة، وبدأ معه عهد القوة والازدهار في الدولة المروانية.
رجل دولة قدير
ونصر الدولة هو أعظم ملوك الدولة المروانية، واستمر حكمه من سنة (401 ﮪ / 1011 م) إلى سنة (453 ﮪ / 1061 م)، إنه بدأ بتنظيم أمور دولته على قواعد متينة، فعيّن الولاة والموظفين على أساس من الكفاءة والإخلاص، ليعيد إلى الدولة هيبتها، ويوطّد حكمه على دعائم من العدل والمساواة، ويهيّئ لشعبه حياة يسودها الهدوء والاستقرار، وأعاد الأمور إلى نصابها بعد أن تزعزعت بشدة إثر اغتيال سلفه وأخيه ممهّد الدولة.
ولما انتهى نصر الدولة من تنظيم أمور الدولة، وإرسائها على العدل والرخاء، اهتم بتعزيز المكانة السياسية لدولته على الصعيد الإقليمي، وكان حصيفاً في بناء العلاقات الخارجية المتوازنة، فكسب ودّ الدول المجاورة واحترامها، وتجنّب الانضمام إلى التحالفات المتعادية، واستعان بعلاقات المصاهرة لتأمين سلامة بلاده، وتعزيز مركزها السياسي، فتزوّج بالفَضْلونية بنت فَضْلُون بن مَنُوجَهْر الكردي صاحب أرّان وأرمينيا العليا، كما تزوّج بالسيدة بنت شرف الدولة قِرْواش بن المقلّد العقيلي، وبنى لها بجانب القصر دار السيدة والبستان، وأكرمها غاية الإكرام، وتزوّج بنت سنخاريب ملك السناسنة الأرمن، وكانت قبل ذلك زوجة أخيه الأمير أبي علي.
واستطاع بهذا السياسة الحكيمة، وعبر هذه العلاقات المتوازنة، أن يجنّب بلاده كثيراً من الويلات، ويحقق لرعيته الرخاء والهدوء والسلام، رغم أن دولته كانت تقع في منطقة تتقاطع فيها مصالح سياسية إقليمية حادة (العباسيون، البويهيون، الأرمن، البيزنطيون، الحمدانيون، الفاطميون).
وأثمرت سياسته الحكيمة سلاماً ورخاء حقيقيين، فاعترفت الدول الشرق أوسطية الثلاث الكبرى في ذلك العصر بالدولة المروانية؛ وهي الخلافة العباسية، والخلافة الفاطمية، والدولة البيزنطية، ووطّدت علاقة الصداقة معها، وأرسلت كل دولة ممثّلها إلى العاصمة ميّافارقين سنة (403 ﮪ / 1013 م)، مصحوباً بالهدايا والتحف الثمينة، لإبلاغ الملك المرواني اعترافها بحكومته حسب منطق السياسة آنذاك، وهذا دليل واضح على أمرين اثنين:
· أولهما حنكة الملك الكردي في بناء علاقات سياسية متوازنة مع دول الجوار المتعادية.
· ثانيهما الأهمية الإستراتيجية التي كانت تحظى بها الدولة المروانية، وتأثيرها في التوازنات الإقليمية والحسابات العسكرية.
بلاط .. وسفراء
ومن الطريف أن ممثلي ﮪذه الدول وصلوا إلى العاصمة مَيّافارقين في يوم واحد، ومما زاد في سرور الملك نصر الدولة مصادفة وصول الوفود مع الانتهاء من بناء القصر الملكي، ومع إطلالة عيد الأضحى؛ ولندع الفارقي يصف طرفاً من الأحداث السياسية الﮪامة التي ازدانت بها الدولة المروانية:
” في ذي الحجّة من سنة ثلاث وأربعمائة…، قبل العيد بثلاثة أيام، وصل خادم [موفد] من خدم الخليفة القادر بالله، ومعه حاجب من سلطان الدولة ابن بويه يسمّى أبا الفرج محمد بن أحمد بن مَزْيَد، ووصل معهما الخُلَع والتشريف والمنشور بديار بكر أجمع من الخليفة والسلطان، ولُقّب بنصر الدولة وعمادها ذي الصَّرامتين “.
” وفي عشيّة ذلك اليوم وصل رسول من خليفة مصر، وهو الحاكم بأمر الله أبو علي منصور، وورد معه من الهدايا والتحف والألطاف شيء كثير، ولقّب نصر الدولة بعزّ الدولة ومجدها ذي الصَّرامتين، فخرج كل من في الدولة إلى لقائه، ودخل البلد. ومن بُكرة ذلك اليوم ورد رسول من ملك الروم باسيل الصقلّي وكان ملك القسطنطينية، فخرج الناس إلى لقائه، ووصل معه من القُود [الجياد الطويلة العنق] والجنائب [النُّوق] والتحف ما لا يوصف “.
” وكان اليوم الرابع للعيد، وجلس نصر الدولة لهناء العيد على التَّخْت [كرسي الإمارة]، وحضر رسول الخليفة والسلطان، فجلسوا على اليمين، وحضر رسول مصر، ورسول ملك الروم، فجلسا على الشمال، وحضرت الشعراء والقرّاء، وكان يوماً عظيماً وعيداً مشهوداً، وقرئت المناشير على الناس بحضور الرسل والأمراء، ولبس الأمير الخلع، وخلع على الرسل من الخلع ما لم يمكن أن يكون مثلها “.
ونفهم مما أورده الفارقي أن الدول المجاورة كانت تتعامل مع الدولة الكردية باهتمام، وتقدّر مناخ الأمن والاستقرار والعدالة والغنى الذي ساد في الدولة الكردية، فراحت تخطب ودّها، وتقيم معها أفضل العلاقات، ولا ريب أن السياسة الحكيمة التي رسمها نصر الدولة لدولته كانت سبب ذلك الاهتمام، فقد قامت سياسته على الحياد وعدم التدخل في الصراعات والنزاعات الناشبة في المنطقة، وتجنّب الحروب، والانصراف إلى الشؤون الداخلية، والسهر على مصالح الشعب الذي كان آنذاك أغنى شعب وأسعده في المنطقة؛ هذا إضافة إلى ترسيخ مبدأ التسامح الديني بين الأديان والمذاهب والقوميات.
نشاط حضاري
عُني نصر الدولة بالكثير من المشاريع العمرانية، منها بناء مدينة النصرية على ضفة نهر باطْمان، وصرف اهتمامه إلى بناء المساجد والجسور وقنوات المياه، والتحصينات الدفاعية، ولا سيما في المناطق المتاخمة للحدود البيزنطية. وقرّر تشييد قصر ملكي فخم في العاصمة ميّافارقين، يدل على أبّﮪة الملك، فحشد له المهندسين ورجال العمارة والفن، وأجرى في حيطانه وسقوفه الذهب، وعمل فيه ما لا نظير له، وزوّده بكل أسباب الراحة والعيش الرغيد، واشتمل القصر على قاعات للاجتماعات والاحتفالات، وأجرى إليه قناة الماء من رأس العين، وعمل فيه البرك والحمّام.
ولما ذاعت شهرة نصر الدولة، وتناقلت الألسن أخبار عدالته وجوده، أقبل عدد كبير من الشعراء على بلاطه، وتغنّوا بأمجاد الدولة المروانية، ومدحوا نصر الدولة بالقصائد الرفيعة، وحظوا منه بالهبات والجوائز؛ ومنها القصيدة التي قال فيها أبو الحسن علي بن محمد التهامي:
إنْ قال: لا، فهي آلاء مضاعفةٌ
وإن يقل نَعَماً أفضتْ إلى نِعَمِ
وكان لنصر الدولة شعراء عديدون يلازمون بلاطه، منهم ابن الظريف الفارقي، وابن السوادي، وابن الفطيري، والشاعر الكبير الأمير حسين بن داود البَشْنَوي، والمَنازي، ولم يكن الشعراء وحدهم هم الذين أعجبوا بنصر الدولة وعهده الزاهر، بل شاطرهم العلماء الشعور ذاته، وكذلك أصحاب الفن، يقول ابن الأثير:
” وكان [نصر الدولة] مقصداً للعلماء من سائر الأفاق، وكثروا ببلاده،… وقصده الشعراء، وأكثروا مدحه، وأجزل جوائزهم “.
رجل السلام
ولم يكن نصر الدولة محباً للحروب، إنه كان حريصاً على الأرواح من الهلاك، وعلى البلاد من الخراب، لذا اختار منهجاً سلمياً في علاقات دولته بالدول المجاورة، وحلّ المشاكل عن طريق التفاوض والتفاهم، قال ابن كثير (البداية والنهاية، ج 12، ص87) في ذلك:
” وكان [نصر الدولة] كثير المهادنة للملوك، إذا قصده عدوّ أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به فيرجع عنه “.
وقال ابن الجَوْزي (المنتظم، ج 16، ص 70):
” وكان إذا قصده عدوّ يقول: كم يلزمني من النفقة على قتال هذا؟ فإذا قالوا: خمسون ألفاً. بعث بهذا المقدار، أو ما يقع عليه الاتفاق، وقال: ادفعوا هذا العدوّ “.
أما على الصعيد الداخلي فقد شهد المؤرخون لنصر الدولة بنشر العدل، وبالعطف على الشعب، فهذا ابن كثير يصف انتشار الأمن والعدل في ربوع الدولة المروانية:
” وكانت بلاده آمن البلاد وأطيبها وأكثرها عدلاً “.
وقال ابن الأثير يشيد بسيرة نصر الدولة في رعيته:
” وسيرته في رعيته أحسن سيرة “.
وقال الفارقي يصف ابتعاد نصر الدولة في حكمه عن الطغيان:
” وعظُم شأن نصر الدولة، وكبُر أمره، وتقرّرت مملكته، وفَعَل الخير، وعَدَل في الناس،… وفَعَل من الخير ما لم يفعله أحد من بيته وأهله “.
وبتحقيق العدل وحسن المعاملة مع الرعية ،وتوفير الأمن، تحقّق الازدهار الاقتصادي، فأصبحت كردستان الوسطى واحة وارفة الظلال، يقصدها التجّار والصنّاع وأهل العلم؛ وهذا ما يؤكده الفارقي بقوله:
” وانعمرت ميافارقين أيام نصر الدولة، وقصدها الناس والتجار وجماعة من كل الأطراف، واستغنى الناس في أيامه، وكانت أحسن الأيام ودولته غير الدول “.
مواقف إنسانية
اشتهرت الدولة المروانية في عهد نصر الدولة بالعطف على الغرباء، وأصبحت ملاذاً آمناً لعدد غير قليل من اللاجئين السياسيين في ذلك العصر، فيهم الملك والأمير والوزير، فكان نصر الدولة يرحّب بهم، ويعطف عليهم، ويبالغ في إكرامهم، ويوفّر لهم العيش اللائق بمكانتهم، لقد لجأ إليه- على سبيل المثال- الملك العزيز البويهي، والوزير أبو القاسم المغربي، والوزير ابن جَهِير الموصلي، وابن خان التركي قال الفارقي في ذلك: ” وقصده الناس من كل جانب، وحصل كهفاً لمن التجأ إليه “.
وفي سنة(450 ﮪ) خرج البَساسِيري التركي (قُتل في 451 ﮪ) على الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وكان البساسيري من مقدّمي الأتراك ومن مماليك الملك بﮪاء الدولة البويهي، وخطب البساسيري للخليفة الفاطمي المستنصر بالله صاحب مصر، فهرب الخليفة القائم من بغداد إلى الحَدِيثة، وضاقت الدنيا بأسرته، فلم تجد أمّ ولي العهد الملاذ إلا في كنف الملك نصر الدولة، قال الفارقي:
” وخرجت السيدة ومعها أبو العبّاس محمد بن القائم – وهو الذخيرة أبو المقتدى- فقصدت السيدة ميّافارقين ومعها الذخيرة صغيراً، وخرج نصر الدولة إلى لقائهم، فأنزلهم واحترمهم وأضافهم، وأنفذهم إلى آمد، وأنزلهم في القصر، وتقدّم بما يحتاجون إليه “.
والطريف أن رعاية هذا الملك لم تقتصر على الناس، بل شملت الحيوانات أيضاً، وبكيفية لم نعهدها من سائر الملوك، فقد بلغه أن الطيور تجوع شتاء لكثرة الثلج، وأن الناس يصطادونها بسبب حاجتها إلى الحب، فأمر بفتح مخازن الحبوب، وإلقاء ما يكفيها من الغلات طوال الشتاء، فكانت الطيور في ضيافته طوال الشتاء مدة عمره.
أعياد.. وأعياد!
ومن تتبع سيرة الملوك المروانيين يجد أن الغالب عليهم هو النزوع إلى إشاعة الرخاء والهدوء والسلم، والشغف بالحياة الرغيدة، وإقبالهم على الترف واللهو، وذكر الفارقي أنه كان لنصر الدولة ثلاثمئة وستّون جارية حظايا، وكان لا تصل نوبة إحداهن في السنة إلا مرة واحدة، وكان في كل ليلة له عروس جديدة، وكان له من المغنيات والرقّاصات وأصحاب سائر الملاهي ما لم يكن لسواه من سائر الملوك والسلاطين، وكان كلما سمع بجارية مليحة أو مغنّية مليحة طلب شراءها، وبالغ في مشتراها، ووزن أضعاف قيمتها.
قال الفارقي يلخّص النعيم الذي عاشه نصر الدولة:
” واستقرّ نصر الدولة في الملك، وملك ما لا يملك أحد مثله، وتنعّم بما لا يتنعّم أحد غيره “.
وقال أيضاً: ” وكانت أيامه كالأعياد “.
وقال ابن الأثير في هذا الصدد:
” وتنعّم تنعّماً لم يُسمَع بمثله عن أحد من أهل زمانه “.
ولا نستبعد أن يكون في الأخبار المتعلقة بإقبال نصر الدولة على الملذات شيء من المبالغة، لكن مع ذلك يبدو أنه أسرف في الترف ورغد العيش، وأنفق كثيراً من المال في هذا الباب، في وقت كانت المخاطر تتربّص بدولته، ولا سيما من قبل السلاجقة الذين بسطوا نفوذهم على فارس والعراق، وكانوا يخططون لاحتلال كردستان الوسطى.
إن الأوضاع الإقليمية حينذاك كانت تتطلّب من نصر الدولة أن يشمّر عن ساعد الجد، ويتحلّى بالعزم والحزم، ويهيّئ لدولته من القوة الذاتية ما يجعلها قادرة على مواجهة الأطماع المتربّصة بها؛ فالتوازنات الإقليمية والعلاقات السياسية وحدها غير كفيلة بصيانة استقلال الدول، لأنها عرضة للاختلال في كل وقت، وهذا ما لم يأخذه نصر الدولة بالحِسبان، فشهد في أواخر عهده بأم عينيه كيف بدأ السلاجقة ينهشون دولته مرة بعد مرة.
في ذمة التاريخ
ولم يطل الأمد حتى بدأ السلاجقة بتنفيذ مخطط احتلال كردستان الوسطى؛ وذكر الفارقي أنه في سنة (434 ﮪ) أرسل السلطان طُغْرُلْبَگ أميرين من أصحابه: أحدهما بُوقا، والآخر ناصغلي، وكانا من كبار الأتراك، ومعهما عشرة آلاف فارس إلى ديار بكر، فأغاروا على البلاد، وأعملوا فيها النهب والسلب، وكان هذا أول ظهور الترك بهذه الديار، ولم يكن الكرد رأوا صورهم قبل ذلك.
ولم يقر السلطان طغرلبگ عيناً ببقاء الدولة المروانية خارج نفوذه، وذكر ابن الأثير أنه (طغرلبگ) ” أرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده. فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر “.
وهكذا خسرت الدولة المروانية استقلالها، وأصبحت تابعة للدولة السلجوقية، ومع ذلك تولّى السلطان السلجوقي طغرلبگ بنفسه الهجوم على الدولة المروانية، واحتل أجزاء منها، حسبما ذكر ابن الأثير في أحداث سنة (448 ﮪ).
وقد توفي نصر الدولة سنة (453 ﮪ)، وكان عمره نيّفاً وثمانين سنة، بعد حكم دام قرابة ثلاث وخمسين سنة، وخلف من الذكور نيفاً وعشرين ولداً، وتلاه في الملك من بعده ولده نظام الدين، ونافسه أخوه الأمير سعيد مستعيناً بالسلاجقة، وظل شأن الدولة المروانية يتناقص، تارة بفعل التناحرات الداخلية، وأخرى بتأثير أطماع السلاجقة، وسقطت العاصمة ميّافارقين بين أيديهم، وزالت الدولة المروانية سنة (478 ﮪ / 1086 م)، بعد أن عاشت مئة وست سنوات.
المصادر
1. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م، الجزء التاسع.
2. ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م، الجزء السادس.
3. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة ، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.
4. ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م، الجزء الأول.
5. عبد الرقيب يوسف، الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، مطبعة اللواء، بغداد، الطبعة الأولى، 1972م، الجزء الأول.
6. الفارقي: تاريخ الفارقي، تحقيق عبد اللطيف عوض، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1959 م.
وإلى اللقاء في الحلقة الحادية والعشرين.
[1]