مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الحادية والثلاثون ) شيركوه: أسد الجبل والقائد العبقري (ت 564 ﮪ)
د. أحمد الخليل
صانعو التاريخ
صانعو التاريخ ثلاثة: المثقف، والسياسي، والتاجر.
أما المثقف فهو صاحب (الفكرة) ومبدعها.
وأما السياسي فهو الذي يحوّل (الفكرة) إلى (موقف عملي).
إنه يجسّدها في نظام وإدارة، وفي بناء علاقات داخلية وخارجية.
وأما التاجر فيبقى وراء الستار، متربّصاً بجهود كل من المثقف والسياسي، حتى إذا أثمرت وآتت أُكُلها انقضّ عليها، واستأثر بها، مستغلاً في ذلك حقيقة أن الشعوب – وليست الجيوش وحدها- تزحف على بطونها.
وتعالوا نقلّبْ أسفار التاريخ قديماً وحديثاً شرقاً وغرباً.
سنجد أنه ما من دين انتشر، ولا مذهب ساد، ولا إيديولوجيا ترسّخت، ولا أمة نهضت، ولا دولة تأسّست، ولا إمبراطورية توسّعت، ولا قوة هيمنت، إلا كان صاحبها في البداية نبياً، أو فيلسوفاً، أو مفكّراً؛ أو عالماً؛ أي أنه كان مثقفاً، وقد يكون المثقف نفسه سياسياً، والأمثله على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث.
أقول هذا ليس تحيّزاً للثقافة، ولا تمجيداً للمثقفين، بل إقراراً بالواقع، ولفتاً للانتباه إلى الموقع الرائد للمثقف في المجتمعات، وتذكيراً للمثقفين أنفسهم بالمهمات الملقاة على كواهلهم؛ إنها مهمّات كبرى، ولذا فهي صعبة، ولا عجب، فالقابض على الثقافة الحقيقية كالقابض على الجمر.
جسور.. لا خنادق
ومن أعظم مهمّات المثقف الحقيقي- كائناً من كان- أن يكون صاحب مشروع إنساني، فيقيم الجسور بين الشعوب، ويجعل الطرق بين الأديان والمذاهب سالكة، لا أن يحفر الخنادق، ويقيم الحواجز، وينصب الأسلاك الشائكة. ومن أنبل إنجازاته أن يضيء الدروب، ويؤلّف القلوب، ويوسّع الرؤية، ويعمّق الودّ في النفوس، لا أن يبذر الأحقاد، ويوقظ الضغائن، ويثير العداوات، ويجدّد الخصومات.
وتلك هي مهمّات مثقّفي شرقي المتوسط، ولا سيما في عصرنا هذا.
وهذا ما أحرص عليه مخلصاً، وأسعى إليه جاهداً.
ومع ذلك أجدني مضطراً، في ترجمة القائد الكردي شيركوه، إلى ذكر بعض الصراعات الدينية القديمة؛ فتغييبها يكون تغييباً لحقائق تاريخية، واقتلاعاً للمعلومات من سياقاتها، هذا مع نفوري من إحياء مشكلات عفا عليها الزمن، أو تجديد التناحر حول قضايا أصبحت في ذمة التاريخ، فالمفروض – فيما يراه كل عاقل- أن تتجه البشرية نحو الأمام لا إلى الوراء، وأن تسعى الشعوب نحو علاقات أكثر ودادة وتكاملاً، ونحو حياة أوفر طمأنينة وسلاماً وسعادة.
فمن هو شيركوه؟
بل قبل ذلك: ماذا عن عصره؟
أحداث على تخوم القوقاز
أما الاسم فهو شيركوه؛ ويعني بالكردية (أسد الجبل).
وأما اللقب فهو أسد الدين؛ على عادة أعلام ذلك الزمان.
وأما كنيته فهي أبو الحارث، وكان العرب يطلقون الكنى على بعض الحيوانات، فالثعلب كنيته (أبو الحُصَين)، والضبع كنيته (أم عامر)، والأسد كنيته (أبو الحارث)، ولا بد أن شيركوه كان على علم بهذه الحقائق في التراث العربي، فاختار كنيته بشكل تتوافق فيه دلالة الأسد بالصيغة الكردية (شيركوه) مع الصيغة العربية (أبو الحارث).
وأما والده فهو (شاذي)، حسبما ورد في أغلب المصادر العربية الإسلامية، وهو تعديل للصيغة الكردية (شادي)، وتعني بالكردية: (السعيد) فيما أعلم.
وشيركوه هو عمّ السلطان صلاح الدين، ويبدو أن شهرة ابن الأخ غطّت على شهرة العمّ، والحق أنه كان وراء عظمة صلاح الدين مربّيان كبيران: أما في رجاحة العقل وحسن السياسة فوالده نجم الدين أيوب. وأما في البسالة والفروسية وقيادة الجيوش، وتحقيق الانتصارات، فعمه أسد الدين شيركوه.
وبداية لا بد من القيام برحلة عبر التاريخ زماناً ومكاناً.
أما زماناً فإلى القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي.
وأما مكاناً فإلى تخوم القوقاز (قفقاسيا) شمالاً وشرقاً، وتحديداً إلى حيث تقع اليوم دول ثلاث؛ هي جمهورية أذربيجان، وجمهورية جورجيا، وجمهورية أرمينيا؛ وقد مر بنا في حلقة سابقة أن وجود الكرد في تلك المناطق لم يكن طارئاً، وإنما يمتد إلى ما قبل الميلاد بأكثر من ألف عام، حتى إن البلاذري (فتوح البلدان، ص 203) يسمّي نهر كارني الذي عبره حبيب بن مسلمة الفِهْري سنة (22 ﮪ / 643م) باسم (نهر الأكراد)، وذكر ابن حوقل (صورة الأرض، ص 291) أنه كان في بَرْذَعة – وهي كبرى مدن الرّان (أرّان) – باب يسمى (باب الأكراد)، وكان ثمة تداخل كبير بين شعوب سمّيت بعدئذ كرداً وفرساً وأرمناً وآذريين وجورجيين، وكانت أسماؤها قبل ذلك: الميد، والأخمين، والبرث، والخالديين، واللان، والسكيث، والتات.
وقد وصلت الفتوحات الإسلامية إلى تلك المناطق في القرن الأول الهجري، وكان الأرمن والجورجيون وشعوب قفقاسية أخرى قد اعتنقت المسيحية قبل ظهور الإسلام، أما الكرد فكانوا زردشتيين، لكنهم تحوّلوا رويداً رويداً إلى الإسلام، وأصبحوا القوة القتالية الإسلامية الضاربة في جنوبي القوقاز، ووقع على كاهلهم – بفعل موقعهم الجغرافي- أن يقوموا بعبء الدفاع عن الدولة الإسلامية في الجبهة الشمالية الشرقية، ويدخلوا من ثَمّ في صراعات وحروب طويلة وعنيفة؛ شمالاً ضد الشعوب المسيحية التابعة للكنيسة الأرثوذكسية (الشرقية)، وغرباً ضد الدولة الرومية (البيزنطية) حامية الكنيسة الكاثوليكية، ومعروف أنه لما سقطت القسطنطينية – عاصمة الروم- تحت ضربات الترك العثمانيين سنة (1453 م) انتقل مركز الكنيسة الأرثوذكسية إلى روسيا، وما زال هناك.
وفي خضم تلك الصراعات الدينية، وصموداً في وجه الهجمات القادمة من الشمال والغرب، أقام الكرد كيانات سياسية جنوبي القوقاز، بدأها في أذربيجان قائد من أب عربي وأم كردية يسمّى ديسم بن إبراهيم الكردي، ودام حكمه (18) ثماني عشرة سنة (327 – 345 ﮪ / 938 – 956 م)، ثم ظهرت الدولة الرَّوادية– نسبة إلى مؤسسها محمد بن حسين الروادي- في أذربيجان على أنقاض الدولة السالارية الديلمية، واتخذ الرواديون تبريز عاصمة لهم سنة (343 ﮪ / 954 م)، وأفل نجمهم السياسي سنة (463 ﮪ / 1070 م)، بعد حكم دام قرابة (117) سنة.
وأقام الكرد الدولة الشدادية – نسبة إلى مؤسسها محمد بن شداد- سنة (340 ﮪ/951 م)، وحكم الشداديون المنطقة الواقعة بين نهر الكُر شمالاً، ونهر آراس (آراكس= الرسّ) جنوباً، ويسمّي الجغرافيون المسلمون تلك المنطقة باسم أرّان (الرّان)، وهي مقسّمة الآن بين أذربيجان وأرمينيا، وتقع فيها منطقة قره باغ ونشوى (نخجفوان) المتصارع عليها بين الدولتين، والتي قامت فيها جمهورية لاتشين الكردية في عهد الزعيم السوفييتي لينين، ثم قُضي عليها في عهد ستالين بتحريض من الآذريين. كما حكم الشداديون بعض أرمينيا، ومن مدنهم المركزية هناك دَبِيل وجَنْزَة (كَنْجة، ويُظن أنها دُوين)، وبَرْذَعة، وآني، وزال حكمهم سنة (468 ﮪ/1075 م).
وكانت هاتان الدولتان معاصرتين لدولة كردية أخرى ذات شأن، هي الدولة المروانية (الدوستكية)، والحقيقة أن هذه الدول الكردية كانت تحمي تخوم العالم الإسلامي- ولا سيما العراق دار الخلافة- من جهة الشمال، وقد سقطت جميعها تحت ضربات التركمان السلاجقة القادمين من الشرق، والذين هيمنوا على إيران والعراق، ودخل ملكهم طغرل بك بغداد سنة (447 ﮪ/1055 م)، وأزال الدولة البويهية، وفاز باعتراف الخليفة العباسي القائم بأمر الله ، ثم انطلق السلاجقة غرباً نحو بلاد الشام، وشمالاً نحو كردستان وبلاد الروم.
إلى تكريت
وإثر التصدّع الذي أصاب الدول الكردية في جنوبي القوقاز، على أيدي السلاجقة كما مر، تشردّت الأسر الكردية ذات الشأن، ومن تلك الأسر أسرة شادي الروادي، وقد مر في ترجمتنا لصلاح الدين الأيوبي، ضمن هذه السلسلة، أن الأسرة الأيوبية قدمت إلى العراق من دُوِين في أرمينيا، وأنها من أشراف العشيرة الروادية، وهذه العشيرة هي فرع من قبيلة هدباني (هذباني) الكردية الكثيرة الانتشار في مناطق جنوبي القوقاز (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا).
وبدأ أول ظهور لشيركوه في كتب التاريخ وهو يتوجّه مع والده شادي وأخيه الأكبر أيوب إلى العراق، وهناك التحقوا بمجاهد الدين بَهْرُوز، صديق شادي القديم، وكان بَهْرُوز شِحْنة بغداد (وزير الداخلية باللغة المعاصرة)، فعيّن صديقه شادي دِزْداراً (قائداً للشرطة) في مدينة تكريت، وكانت تابعة له، وبعد وفاة شادي أسند بهروز المنصب إلى نجم الدين أيوب بن شادي؛ إذ رأى فيه ” عقلاً ورأياً وحسن سيرة ” كما قال أبو شامة في كتابه (عيون الروضتين، 1/263).
ومر بنا أيضاً، في حلقة سابقة، أن حاكم الموصل السلجوقي عماد الدين زنكي كان قد اتفق مع السلطان السلجوقي مسعود سنة (526 ﮪ/1132 م)، على حصار بغداد، فاستعان الخليفة المسترشد بالله وأنصاره بحاكم فارس وخوزستان قراجا الساقي، ودارت معركة بين الفريقين، انتهت بهزيمة عماد الدين، فتقهقر بجنوده شمالاً، وساعده نجم الدين على اجتياز نهر دجلة بجيشه، والخلاص من انتقام خصومه الذين كانوا يطاردونه، وهذا ما أثار غضب مجاهد الدين بهروز.
وفي سنة (532 ﮪ/1137 م)- وهي السنة التي ولد فيها صلاح الدين- يظهر شيرگوه مرة أخرى، لكن في مشهد عنيف هذه المرة، فقد قتل أحد كبار الضباط أو الموظفين في حامية قلعة تكريت، لخصومة كانت بينهما، فطلب بهروز من نجم الدين وأخيه الخروج من تكريت، فتوجّها بمن معهما من الأتباع إلى الموصل، حيث يحكم صديقهما عماد الدين.
ومن الطبيعي أن يرحّب عماد الدين بأيوب وأخيه شيركوه ويكرمهما؛ أولاً لردّ الجميل، وثانياً لأنه صاحب مشروع سياسي كبير في شرقي المتوسط، يتمثّل أول ما يتمثّل في مقارعة الفرنجة، وتوسيع حدود دولته في الأناضول وبلاد الشام، وها هو ذا يجد بين يديه قوة قتالية كردية متمرّسة وفاعلة، يقودها قائدان يتميّزان بالخبرة والبسالة، وما عليه إلا أن يجيد توظيف هذه القوة في تحقيق مشروعه الطموح.
في جيش زنكي
وعمل نجم الدين وشيركوه في الجيش الزنكي، وحينما بدأ عماد الدين هجومه على جنوبي سوريا سنة (534 ﮪ) عيّن نجم الدين حاكماً على قلعة بعلبك في لبنان، ويبدو أن الأخوين أصبحا من القوى المؤثرة في الدولة الزنكية؛ إذ نجدهما، بعد اغتيال عماد الدين على أيدي بعض خدمه سنة (541 ﮪ)، يقفان إلى جانب ولده نور الدين محمود، وذلك في خضم التنافس على السلطة بين أبناء عماد الدين الأربعة، واستطاعا أن يحسما الأمر لصالحه، فحل محل والده في سدّة المُلك.
بل إن استعراضاً سريعاً لنشاطات عماد الدين جيوسياسياً وتعبوياً لا تدع مجالاً للشك في أن المناطق الكردية، جغرافياً وبشرياً واقتصادياً، كانت حصنه الحصين، كما أنها كانت نقطة انطلاقه لخوض المعارك ضد الفرنج شمالاً وغرباً نحو الأناضول، وجنوباً وغرباً في بلاد الشام، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/183 –185) في بداية تولّي عماد الدين ولاية الموصل؛ بعد مقتل والده قسيم الدولة آقسنقر خلال الصراعات السلجوقية الداخلية:
” فأخذ جزيرة ابن عمر [جزيرة بوتان] وإربل، وسنجار، والخابور، ونصيبين، ودارا، وبلاد الهكّارية، وبنى قلعة العمادية، وملك من ديار بكر، طَنْزة، وإسعرد [سيرت]، ومدينة المعدن، وحيزان، وحائي، وعانة، وغيرها، واستولى على قلاع الحميدية وولاياتهم من العَقْر، وقلعة شوش “.
وبعد أن بسط عماد الدين نفوذه على كل تلك المناطق- وهي كردية في غالبيتها العظمى- وأسس قاعدة متكاملة الموارد عسكرياً وبشرياً واقتصادياً، انطلق نحو بلاد الشام، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/185 –186):
” وعبر الفرات، فملك منبج، وحلب، وحماة، وحمص، وغيرها، وفتح شيزر، وبعلبك، وحاصر دمشق “.
واستكمل نور الدين تنفيذ مشروع والده الطموح، وهو توسيع دولته في كردستان وبلاد الشام والأناضول، وما كان ليتمكن من ذلك إلا بمقارعة الفرنج، وكان هؤلاء يسيطرون على منطقة شاسعة الاتساع في شرقي المتوسط، تبدأ من منطقة الرُّها (أورفه) شمالاً، وتنتهي بالعريش في مصر جنوباً، ومروراً بكل السواحل الشامية، وبعض مناطق الداخل حتى أبواب حلب.
الرجل الثاني
إن قدرات شيركوه العسكرية، من حيث التخطيط والقيادة والتنفيذ، إضافة إلى شجاعته وبسالته، جعلت منزلته ترتفع عند نور الدين، وقديماً قيل: إن الطيور على أشكالها تقع، وقد كان السلطان نور الدين زنكي متصفاً بالوقار والهيبة، وبحسن القيادة، وبالبسالة والشجاعة، ومن الطبيعي أن يكون أول من يكتشف عبقرية شيرگوه الحربية، وهذا ما تمّ فعلاً، فقد جعله كبير قوّاده.
بل كان نور الدين يسند إلى شيركوه المهامّ التي يعجز عنها الآخرون، ويعدّه كبير قوّاده (وزير دفاع بلغة عصرنا)، ويتعامل معه باعتباره الرجل الثاني في الدولة، ولا ننس أن شيركوه، وبالتعاون مع أخيه نجم الدين، أفلح في فتح دمشق، وضمها إلى الدولة الزنكية، ولا يجهل كل قارئ لتاريخ تلك الفترة مكانة دمشق الخطيرة في الصراع ضد الفرنج. وكان نور الدين يدرك أهمية ذلك الإنجاز، فكافأ كلاً من نجم الدين وشيركوه مكافأة كبرى، حسبما ذكر ابن الأثير في (التاريخ الباهر، ص 120)، وقال أبو شامة (عيون الروضتين، 1/264):
” وصارا عنده في أعلى المنازل، لاسيما نجم الدين، فإنّ جميع الأمراء كانوا لا يقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم، أو أحدهم بذلك، إلا نجم الدين، فإنه كان إذا دخل قعد من غير أن يؤمر بذلك “.
وذكر أبو شامة (عيون الروضتين، 1/244) أن نور الدين مرض ذات مرة، فحُمل في محفّة إلى قلعة حلب، ” وأوصى أن يكون أخوه نصرة الدين في منصبه مقيماً في حلب، وأسد الدين نائب عنه في دمشق، ثم عافاه الله تعالى “. وكانت حلب مركز القيادة العليا في الشمال السوري، وكانت دمشق مركز القيادة العليا في الجنوب السوري، وكان نور الدين قد اتخذها عاصمة لدولته، ونقطة انطلاق لمواجهة الفرنج في الساحل السوري.
ولنتأمل خبراً آخر ذكره أبو شامة (عيون الروضتين، 1/246)، إنه يقول:
” وسار نور الدين بعد أخذ شيزر إلى سرمين [بلدة في غربي حلب]، لأنه بلغه حركة الفرنج، فاعترضه هناك مرض أشفى منه [كاد يهلكه]، فأحضر شيركوه، وأوصاه بالعساكر، وأن يكون الأمر بعده لأخيه نصرة الدين أمير أميران، فسار أسد الدين إلى دمشق، وأقام بمرج الصُفَّر، خوفاً أن يتحرك الفرنج إلى جهة دمشق أو غيرها، ولم يزل هناك حتى تعافى نور الدين، فعاد إلى خدمته مهنئاً “.
ومعروف أن نور الدين تركماني سلجوقي، وكان جيشه يعجّ بمئات القادة والضباط التركمان البارزين، لكنا نراه في المواقف العصيبة يثق بشخصين اثنين، هما أخوه نصرة الدين وشيركوه، بل نجده يكل أمر القوة العسكرية الزنكية بأجمعها إلى شيركوه وحده، وهذا يعني أنه كان يثق بوزير دفاعه ثقة مطلقة، ويأتمنه على الأسرة الزنكية وعلى الدولة من بعده، ومرة أخرى قام شيركوه بالمهمة خير قيام، فتوجه إلى دمشق، ورابط قريباً منها، ليصدّ كل هجوم قد يقوم به الفرنج، مستغلين مرض نور الدين.
وكان نور الدين يجلّ كبير قوّاده، ففي سنة (556 ﮪ) قام شيركوه بالحج إلى مكة، ولما عاد خرج نور الدين إلى لقائه (عيون الروضتين 1/254)، وكان يندبه للمهام العسكرية الجسام، فعيّنه قائداً على الجبهة الغربية (منطقة حمص) في مواجهة الفرنج؛ يقول الفتح بن علي البُنْداري في كتابه (سنا البرق الشامي، ص 24):
“ ولما كان ثغر حمص أخطر الثغور تعيّن أسد الدين لحمايته وحفظه ورعايته، لتفرّده بجدّه واجتﮪاده وبأسه وشجاعته “.
وذكر ابن الأثير مكانة شيركوه عند نور الدين (التاريخ الباهر، ص 120) قائلاً:
” فقرّبه نور الدين، وأقطعه، ورأى منه في حروبه ومشاﮪده آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فزاده إقطاعاً وقرباً، حتى صار له حمص والرَّحْبة وغيرهما، وجعله مقدّم عسكره “.
الحملة الأولى على مصر
ومن أعظم إنجازات شيركوه العسكرية والإستراتجية حماية مصر من الوقوع في قبضة الفرنج، وضمها من بعد إلى الدولة الزنكية (توحيد مصر والشام)، والتمهيد بذلك لإقامة الدولة الأيوبية بقيادة ابن أخيه صلاح الدين.
وكانت مصر حينذاك مركز الخلافة الفاطمية، غير أن تلك الدولة كانت تعاني الضعف، وأصبحت ألعوبة بين أيدي الوزراء والقواد؛ الأمر الذي أحدث كثيراً من الاضطرابات، وأسال لعاب الأطماع الفرنجية. وقد جاء شاور وزير الخليفة الفاطمي إلى دمشق، مستنجداً بنور الدين على منافسه ضرغام الذي سلبه منصب الوزارة قهراً، فانتدب نور الدين قائده المحنّك شيركوه لﮪذه المهمة، قال أبو شامة في أحداث سنة (559 ﮪ) (عيون الروضتين، 1/265)، مؤكداً ما ذكره ابن الأثير في ( التاريخ الباهر، ص 120):
” فلما كانت سنة تسع وخمسين هذه، وعزم نور الدين- رحمه الله- على إرسال العسكر إلى مصر، لم يرَ لهذا الأمر الكبير أقوم ولا أشجع من أسد الدين، فسيّره “.
وأضاف أبو شامة قائلاً (عيون الروضتين، 1/266):
” واستصحب شيركوه معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعله مقدَّم عسكره، وصاحب رأيه، وكان لا يفصل أمراً، ولا يقدّر حالاً، إلا بمشورته ورأيه، لما لاح له من من آثار الإقبال والسعادة الصحيحة، واقتران النصر بحركاته “.
وهكذا بدأت حملة شيركوه الأولى على مصر سنة (559 ﮪ / 1164 م)، وانتصر على قوات الوزير ضرغام، وأعاد شاور إلى منصب الوزارة، لكن ما لبث شاور أن غدر بشيركوه، ونقض الشروط التي كان قد اتفق عليها معه، وأرسل إليه يأمره بالعودة إلى بلاد الشام.
ورداً على استفزازات شاور وغدره بسط شيركوه سلطته على بَلْبيس وشرقي مصر، فاستنجد شاور بالفرنجة، فزحف ملك الفرنج من القدس، وحاصر جيش شيركوه في بلبيس ثلاثة أشهر، ففتح نور الدين جبهة الحرب ضد الفرنج في بلاد الشام، وألحق بهم هزيمة نكراء في حارم (غربي حلب)، فاضطر ملك القدس الفرنجي إلى التفاوض مع شيركوه، مشترطاً عليه أن ينسحب من مصر، ويعود إلى بلاد الشام، فأجابه إلى ذلك، وعاد إلىالشام سالماً وفي نفسه من شاور وغدره حنقٌ شديد.
ووصف أبو شامة شجاعة شيركوه في خروجه من بَلْبِيس، بعد حصار الجيشين المصري والفرنجي، فقال (عيون الروضتين، 1/336):
” حدّثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس، قال: رأيته وقد أخرج أصحابه بين يديه، وبقي آخرهم وبيده لَتّ [فأس حربية كبيرة] من حديد يحمي ساقتهم [مؤخرة الجيش]، والمسلمون والفرنج ينظرون، قال: وأتاه فرنجي من الغرباء، فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المسلمون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك فلا يبقى لك معهم بقيّة؟! فقال شيركوه: يا ليتهم فعلوا! كنتَ ترى ما لم تر مثله، كنتُ والله أضع سيفي فلا أُقتل حتى أقتل رجالاً … فوالله لو أطاعني هؤلاء- يعني أصحابه- لخرجت إليكم أول يوم، لكنهم امتنعوا. فصلّب الفرنجي على وجهه، وقال: كنا نعجب من فرنج ﮪذه الديار ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن قد عذرناهم “.
الحملة الثانية على مصر
وفي سنة (562 ﮪ / 1166 – 1167 م) قاد شيركوه حملة ثانية على مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين أيضاً، وذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر ص 132) أن شاور “راسل الفرنج، يستغيث بهم ويستصرخهم، فأتوه على الصعب والذلول، فتارة يحثهم طمعهم في ملك مصر على الجد والتشمير، وتارة يحدوهم خوفهم أن يملكها العسكر النوري “، فوصلوا إلى مصر بعد وصول شيركوه، وهاجمت قوات شاور والجيش الفرنجي- وهم آلاف كثيرة- قوات شيركوه في صعيد مصر، وكانت لا تتجاوز ألفي فارس، لكن شيركوه وظّف حنكته القيادية ومهاراته الحربية أحسن توظيف، وألحق بأعدائه الهزيمة في موضع يعرف بالبابين، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/281) في ذلك الحدث:
” وهذه الوقعة من عجيب ما يؤرَّخ، وذلك أن ألفي فارس بعيدة عن بلادها، هزمت عساكر مصر في بلادها، وفرنج الساحل “.
وتوجه شيركوه من صعيد مصر إلى الإسكندرية في الشمال، وجبى الأموال في طريقه، وسلّم أهل الإسكندرية مدينتهم إليه، فعيّن فيها صلاح الدين نائباً عنه، وعاد إلى صعيد مصر، وأقام فيها باسطاً سلطته، فهاجم الجيشان المصري والجيش الفرنجي الإسكندرية معاً، وحاصروها، فتوجّه إليهم شيركوه، فراسله المصريون والفرنجة طالبين الصلح، وبذلوا له الأموال، فأجابهم إلى ذلك، مشترطاً عليهم ألا يقيم الفرنج في مصر، ولا يتسلّموا منها قرية واحدة، ثم عاد إلى الشام.
الحملة الثالثة على مصر
وفي سنة (564 ﮪ / 1168 م) قام شيركوه بحملة ثالثة إلى مصر بأمر من نور الدين، وكان الفرنج حريصون على ضم مصر إلى ممتلكاتهم، والاستقواء بمواردها على التصدي للسلطان نور الدين زنكي، كما أنهم كانوا يخافون أن تقع مصر في قبضة نور الدين، فتختل موازين القوى بين الجهتين المتصارعتين: القوة الفرنجية والقوة الإسلامية، ويصبح نور الدين هو الأقوى. وقال بعض قادة الفرنج- حسبما ذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 137):
” إن مصر لا مانع لها ولا حافظ، وإلى أن يصل الخبر إلى نور الدين، ويجهّز العساكر، ويسيّرهم إلينا، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنّى نور الدين منا السلامة فلا يقدر عليها “.
ونقض الفرنج الشروط التي كانوا قد اتفقوا عليها مع شيركوه، فهاجموا بلبيس، وسيطروا عليها، ونهبوها وسلبوا أهلها، ثم توجّهوا إلى القاهرة وحاصروها، وراسلهم شاور الفرنج طلباً للصلح، وبذل لهم الأموال، فاستنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين، وأرسل في الكتب شعور النساء، وقال: ” هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك، لتنقذهن من الفرنج، فقام نور الدين في ذلك وقعد، وشرع في تجهيز العساكر إلى مصر“؛ حسبما ذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 138).
وضيّق الفرنج الحصار على القاهرة، وأصبح الناس في كرب شديد، كان هوى شاور مع الفرنج، فألحّ الخليفة العاضد على نور الدين طالباً النجدة، وباذلاً له ثلث دخل مصر، وأن يكون شيركوه وعسكره مقيمين عنده في مصر، وأنه يتحمّل نفقات الجيش الشامي كاملة.
فأرسل نور الدين إلى شيركوه يستدعيه من حمص، وأمره بالتجهّز إلى مصر والسرعة في ذلك، فاختار شيركوه من الجيش ألفي فارس، وجمع من التركمان ستة آلاف فارس، وضم نور الدين إلى جيش شيركوه بعض كبار القواد، ومنهم صلاح الدين، وتوجّه شيركوه إلى مصر فوصلها، واجتمع بالعاضد، فخلع عليه وأكرمه.
وبدأ شاور يماطل في تسديد نفقات الحملة، إضافة إلى تواصله سراً مع الفرنج، ونيته الغدر بشيركوه ومن معه من كبار القواد في وليمة يقيمها لهم، لكن ابنه الكامل نهاه عن ذلك، قال ابن الأثير يوضّح ذلك (التاريخ الباهر، ص 140):
” فقال له أبوه: والله لئن لم أفعل هذا لنُقتلن جميعاً. فقال: صدقت. ولئن نُقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نُقتل وقد ملكها الفرنج، وليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً، ويملكون البلاد، ويظهرون الفساد. فترك ما كان عزم عليه“.
ولما رأىالجيش الشامي تلكّؤ شاور ومماطلته اتفق صلاح الدين وضابط آخر يدعى عز الدين جُرْديك على قتل شاور، وأعلموا شيركوه بذلك، فنهاهما وأنكر ذلك. لكن صلاح الدين وعز الدين قررا الاستمرار في الخطة، فاستغلا غياب شيركوه عن الجيش في زيارة إلى قبر الإمام الشافعي، وألقيا القبض على شاور بينما كان يقوم بزيارة المعسكر الشامي، وسجناه في خيمة، منتظرين عودة شيركوه.
وعلم العاضد بالأمر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه قتل شاور، ويحثه على ذلك، وألحّ في الأمر، فقُتل شاور، وحُمل رأسه إلى القصر، وعيّن شيركوه وزيراً بدلاً منه، ولُقّب بالملك المنصور أمير الجيوش؛ حسبما ذكر كل من ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 139 – 140)، وأبو شامة (عيون الروضتين، 1/289 – 291).
وقد مدح العماد الأصفهاني شيركوه بهذه المناسبة، قائلاً:
بالجدّ أدركتَ ما أدركت، لا اللعبِ
كم راحةٍ جُنيتْ من دوحة التعبِ!
افخرْ، فإن ملوك الأرض قاطبةً
أفلاكها منك قد دارت على قُطُبِ
فتحتَ مصرَ وأرجو أن يصير بها
ميسَّراً فتح بيت القدس عن كثبِ
_ _ _ _
وصحيح أن بقاء شيركوه في منصب الوزارة بمصر لم يطل، فقد فاجأه الموت بعد شهرين وخمسة أيام، وتوفي سنة (564 ﮪ / 1169 م)، وحلّ صلاح الدين محلّه، لكن ما أنجزه كان مهماً جداً بالنسبة إلى مستقبل شعوب شرقي المتوسط.
بلى، فلولا ضم مصر إلى الدولة الزنكية لما أصبحت بعدئذ قاعدة للدولة الأيوبية، ولما تمكّن صلاح الدين من تحقيق الانتصارات على الفرنج في بلاد الشام، واسترداد القسم الأعظم من البلاد التي سيطروا عليها، ولما استطاع المماليك بعدئذ استكمال مشروع التحرير الشرق متوسطي، والقضاء على آخر معقل من معاقل الفرنجة سنة (691 ﮪ/ 1291 م).
المراجع
ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، القاهرة، مكتبة المثنى، بغداد، 1963 م.
البلاذري: فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978 م.
ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.
أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
الفتح بن علي البنداري: سنا البرق الشامي، تحقيق الدكتورة فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي بمصر، 1979 م.
وانظر:
جمال رشيد أحمد: لقاء الأسلاف، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن، الطبعة الأولى، 1994 م، ص 208 – 220.
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت. 2/479 – 481.
خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م، 3/ 183.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والثلاثين.
د. أحمد الخليل في 05-01-2007
[1]