مشاهير الكرد في التاريخ ( الحلقة 51 ) أتروبات الميدي والإسكندر المكدوني (توفي بعد سنة 320 ق.م)
د. أحمد الخليل
شرق وغرب
منذ القرن (18 ق.م)- على أقل تقدير- ثمة ظاهرة غريبة في تاريخ (أوراسيا) تلفت الانتباه؛ إنها ظاهرة حروب الكر والفر بين الدول والإمبراطوريات في قارتي آسيا وأوربا، وتفيد المصادر أن الحِثّيين كانوا أول الشعوب الأوربية التي غزت آسيا الصغرى، وأقاموا فيها الدولة الحِثّية القديمة حوالي سنة (1750 ق.م)، واختفت دولة الحِثّيين حوالي سنة (1200 ق.م) تحت ضغط الشعوب الإيجية (شعوب البحر)، قادمةً من جزر بحر إيجه وجنوبي بلاد الإغريق، وكانت حرب طرْوادة من أحداث ذلك الغزو(وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/83، 84). وفي ذلك التاريخ أيضاً جاء الفِريجيون مهاجرين من تراقيا، واحتلوا وسط الأناضول غربي نهر هاليس (قزل إرماق). وتلاهم بعدئذ السِّيمِّريون والسكيث، وأصبح الحضور السكيثي في شمالي ميديا قوياً حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد(ﮪ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/346).
ثم جاء دور آسيا في الردّ، فكان الملك الفارسي دارا الأول (522 – 480 ق.م) أول من دشّن الهجوم على قارة أوربا، بحملته على بلاد السكيث الأصلية في شمالي البحر الأسود (أوربا الشرقية)، ثم طوّر ابنه أحشويرش وتيرة الهجوم، فغزا بلاد الإغريق براً وبحراً بقوات هائلة العدد، ودخل أثينا، وأحرق الأكروبول (مركز كبار آلهة الإغريق).
وفي سنة (334 ق.م) قام الإسكندر المكدوني بهجوم معاكس، وقاد حملة أوربية نحو الشرق، وحقق النصر على الملك الفارسي دارا الثالث في معركة جرانيكوس (334 ق.م)، ثم في معركة إسوس (333 ق.م)، وأخيراً كان النصر حاسماً في معركة گوگاميلا Gugamela قرب أربيل سنة (331 ق.م)، ” ثم توجّه إلى برسيپوليس حيث أمر – وقد بلغ انتشاؤه بالخمر في إحدى المآدب ذروته- بإحراق بيت ملك الملوك، ثم أعلن فيما بعد أن هذا هو انتقام بلاد الإغريق لإحراق إجزرسيس [أحشويرش] أثينا“(ﮪ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/436، 437).
وتوالت سلسلة الكر والفر بين القارتين في القرون اللاحقة، تارة بين الفرس الساسانيين والرومان، وتارة بين الساسانيين والبيزنطيين. ثم بين العرب المسلمين والبيزنطيين، وكان من نتائج ذلك فتح إسبانيا، ووصول العرب إلى جنوبي فرنسا، ثم بدأت الحملات الفرنجية (الصليبية) على شرقي المتوسط بدءاً من سنة (1095م). ثم تسلّم الشرق زمام المبادرة، فسيطر الترك العثمانيون على القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية سنة (1453م)، وكان الهجوم على أوربا الشرقية والغربية والوصول إلى أبواب ڤينّا عاصمة النمسا سنة (1683م). ثم جاء الهجوم الأوربي، في العصر الحديث، على آسيا عامة، وما زالت الكفّة راجحة للقارة الأوربية إلى يومنا هذا.
وقد تعددّت التفسيرات حول العوامل الكامنة وراء ظاهرة الكر والفر هذه بين أوربا وآسيا، والحقيقة أن السيطرة على الثروات وعلى طرق التجارة العالمية، هي العامل الأكثر فاعلية، بل لعلها كانت العامل الأول والأهمّ، وكانت الجغرافيا المستهدفة طوال ثلاثة آلاف عام هي المنطقة الواقعة بين جبال زاغروس شرقاً، وجنوبي أوربا غرباً، بما فيه البحر الأبيض المتوسط طبعاً، وإضافة إلى الثروات الاقتصادية (معادن منتجات زراعية وصناعية)، والثروات البشرية (عبيد، أسرى، مرتزقة)، كان الوصول إلى الأسواق التجارية في العمق الآسيوي والعمق الأوربي هو الهدف الأكبر.
وكان الوطن الميدي- جغرافياً وبشرياً واقتصادياً وسياسياً- حاضراً في صميم عمليات الكر والفر الكبرى بين آسيا وأوربا، شأنه في ذلك شأن بقية مناطق غربي آسيا وشعوبها، وكان موجوداً بقوة في الحسابات الجيوسياسية لدى الدوائر الشرقية والغربية المتصارعة، ونتناول في هذه الحلقة أبرز الأحداث التي جرت على أرض ميديا خلال الصراع الفارسي الإغريقي، وتحديداً خلال الغزو الذي شنّه الإسكندر المكدوني على إمبراطورية فارس، وكانت ميديا الأتروباتية هي الجزء الميدي الأكثر إسهاماً في أحداث ذلك العهد، وكانت حينذاك بقيادة حاكم ميدي يدعى (أَتْروبات).
فماذا عن ميديا الأتروباتية؟
وماذا عن أَتْروبات نفسه؟
الإسكندر في ميديا
لقد أفلحت السياسات الأخمينية – تنفيذاً لوصية قمبيز- في تقطيع أوصال الوطن الميدي، وكان التقطيع شاملاً، فلم تنجُ منه لا الجغرافيا الميدية ولا الهوية، وكانت النتيجة، مع منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، أن التكوين السياسي والإداري لميديا تقزّم واختُزل في (ميديا الصغرى فقط) باعتبارها واحدة من مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، ويسمّيها دياكونوف (ميديا الغربية)، وتسمّى الآن (أذربيجان الغربية) داخل إيران، وكانت السلطات الفارسية تعيّن عليها حاكماً ميدياً لتنفيذ سياساتها.
وصحيح أن الصراعات الداخلية كانت تنخر كيان الدولة الأخمينية، لكن سياسات تقطيع أوصال الجغرافيا الميدية، وتفريغ ذاكرة الإنسان الميدي من تاريخه وثقافته، وتجريده من الشعور بالانتماء إلى هويته، كانت قد أوصلت المجتمع الميدي إلى حالة من الضعف والتمزق الشديد، إلى درجة أننا لا نجد في تاريخ ميديا الكبرى حينذاك نشوب ثورة عارمة ضد السيطرة الفارسية، منتهزةً ضعف السلطة الإمبراطورية.
ومع إطلالة الصراع الفارسي الإغريقي، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، كان يحكم ميديا الصغرى ” رجل تاريخي” حسب وصف دياكونوف، اسمه أَتْروبات، ولم أجد في المصادر شيئاً عن ماضي أتروبات ونسبه، وذكر دياكونوف أن اسم أتروبات زردشتي الأصل بصيغة Atarapata، وكان هذا الاسم موجوداً في عائلة ويشتاسب الذي أيّد زردشت في دعوته الدينية (دياكونوف: ميديا، هوامش الفصل السابع، رقم 97). ويبدو أن هذا الحاكم الميدي كان على علاقة وثيقة بالملك دارا الثالث، والدليل على ذلك أن جيشاً ميدياً كبيراً كان مساهماً في معركة إسوس إلى جانب الفرس، (دياكونوف: ميديا، هوامش الفصل السابع، رقم 102). بل يبدو أن ميديا الصغرى كانت تتمتع بقوة قتالية لا بأس بها، حتى إن الملك الفارسي، بعد هزيمته أمام الإسكندر في معركة إسوس، كان ينتظر أن يساعده أتروبات بقوات ميديا في ردّ الهجوم الإغريقي، قال دياكونوف: “جمع داريوش الثالث جيشاً جرّاراً، وكان يأمل في مساعدة أتروبات له، لمنع جيش إسكندر من التحرك شرقاً أكثر في المناطق الشرقية من دولته“(دياكونوف: ميديا، ص 415).
لكن الإسكندر لم يدع الفرصة كي يلتقط دارا أنفاسه، وظل مستمراً في مطاردته عبر نهري الفرات ودجلة، ولم ير دارا بدّاً من المواجهة، فعبّأ جيشاً ضخم العدد، لملاقاة الإسكندر في گوگاميلا Gugamela كما مرّ، وفي تلك المعركة كان أبناء الشعب الميدي قد سيقوا، بقيادة أتروبات، للدفاع عن الإمبراطورية، كما جرت العادة في جميع الحروب الفارسية، قال دياكونوف:
” في تلك المعركة كان أتروبات قائد القوات الميدية، وكان الكادوسيون والألبانيون والسكسنيون (سكان سكسن) الشبه مستقلة [شعوب في جنوبي القوقاز]، يحاربون بجانب الميديين. وقبل هذا كان أتروبات على رأس فرسان الاستطلاع الذين بعثهم داريوش الثالث لجمع المعلومات “(دياكونوف: ميديا، ص 415).
وقد انهزم جيش دارا الثالث في النهاية، وتوجّه الإسكندر جنوباً، فاحتل بابل وعِيلام وفارس، ومن هناك هاجم بلاد الميديين، بما فيها ميديا الصغرى، فاحتلّها، ويُفهم مما رواه دياكونوف أن الإسكندر أخرج زعيماً يسمّى أُوكسودات Oksudat من السجن- كان دارا قد سجنه- وعيّنه حاكماً على ميديا الكبرى (المناطق الوسطى والجنوبية من ميديا). أما ميديا الصغرى (أذربيجان الغربية) فنصب عليها حاكماً مكدونياً يسمّى (بارمينون)، وكان بارمينون يعدّ الرجل الثاني بعد الإسكندر في الجيش الإغريقي، “وكان واجب هذا هو الحفاظ على الأمن في الجبهة الخلفية“(دياكونوف: ميديا، ص 415، 416).
واكتشف الإسكندر بعد حين أن فيلوت بن بارمينون كان من المشاركين في تدبير مؤامرة لاغتياله، فأمر بقتله وقتل أبيه بارمينون، ” وأوكل واجب مسؤولية بلاد ميديا إلى ثلاثة من قادة جيشه، وهم كلثاندر، ومينيدو، وسيتاليك“(دياكونوف: ميديا، ص 416).
سياسات واقعية
ويبدو أن أتروبات غيّر ستراتيجيته السياسية بعد هزيمة الجيش الفارسي في معركة گوگاميلا، ولعله أدرك أنه لا ناقة له ولا بعير في الحرب الدائرة بين الفرس والإغريق، وكل ما هنالك أن الوطن الميدي سينتقل من السيطرة الفارسية إلى السيطرة الإغريقية، ولعله أدرك أيضاً أن الملك الفارسي لن يستطيع ردّ الهجوم الإغريقي، فقرر البقاء على الحياد بين الفريقين المتصارعين، إنه لم ينضمّ إلى الإسكندر، ولم يساند دارا، “والدليل على هذا القول أن مدينة إكباتانا لم تدافع عن نفسها، والكادوسيون الذين كانوا حلفاء أتروبات لم يمدّوا يد المساعدة إلى داريوش الثالث” (دياكونوف: ميديا، ص 416). وكان دارا قد هرب إلى إكباتانا، لجمع جيش جديد، لكن الشعوب خرجت من طاعته، ففرّ من إكباتانا، واتجه شرقاً، وقُتل في الطريق بأيدي بعض كبار قادة الفرس سنة (330 ق.م) (دياكونوف: ميديا، ص 415 – 416).
ولم يفلح أُوكسودات في إدارة البلاد بالكيفية المطلوبة، فعزله الإسكندر، ونصب أتروبات حاكماً على ميديا سنة (328 ق.م)، وقد برهن أتروبات أنه أكثر نجاحاً من أُوكسودات في إدارة البلاد، ويمكن الاعتماد عليه بشكل أفضل، ومع ذلك لم يكن أتروبات رجلاً بلا طموح وطني، لكنه كان في الوقت نفسه سياسياً واقعياً؛ وكان يعرف أنه غير قادر على مواجهة جيش إغريقي عجزت جيوش الإمبراطورية الفارسية عن التغلب عليه، ويقول دياكونوف موضّحاً: ” في الواقع يظهر أن أتروبات لم يرغب أن يكون في صراع مع إسكندر من البداية، وحتى إن أراد ذلك فإنه لم يكن بإمكانه ذلك، ولكي يحقق طموحاته لم تكن لديه لا القوة ولا القدرة كي يُظهر رغبته في ذلك الوقت“(دياكونوف: ميديا، ص 416).
ويقول دياكونوف: ” لم يتوقّف أتروبات عن طموحاته “(دياكونوف: ميديا، ص 416)، ولا يذكر دياكونوف طبيعة تلك الطموحات، لكننا نخلص من جملة الأحداث الدائرة حينذاك في غربي آسيا عامة، وفي أرض ميديا وفارس خاصة، أن أتروبات كان يطمح إلى بسط سيطرته على الوطن الميدي كله، وإزاحة النفوذ الفارسي جانباً، فوثّق صداقته مع الإسكندر، وخاض الصراع ضد رجل اسمه (بارباكس) كان قد اتخذ لنفسه لقب (ملك فارس وميديا)، وأدخل بارباكس تحت سيطرته سنة (324 ق.م) (دياكونوف: ميديا، ص 416).
وبعد عودة الإسكندر من حملاته على شرقي فارس وعلى الهند انشغل بمعاقبة الحكام والقادة الذين تمردوا عليه، فقتل القادة الإغريق الثلاثة الذين كان قد أوكل إليهم السلطة في بلاد ميديا، وهم كلثاندر، ومينيدو، وسيتاليك مع جماعة أخرى. أما أتروبات فكان الإسكندر راضياً عنه، وأبقاه عنده مدة من الوقت، وإن سياسات أتروبات الحكيمة، وصداقته مع الإسكندر جعلته ” ينتقل بحرية تامة، ويلاقي الاحترام والطاعة في كل مكان يحلّ به“(دياكونوف: ميديا، ص 416 – 417).
وكان أتروبات سياسياً بعيد النظر في اختياراته، فزوّج ابنته من وجيه مكدوني بارز وشجاع وثريّ يسمى بيوني (پرديكا Perdika)، ومن المحتمل أنه كان من قادة الإسكندر المرموقين، قال دياكونوف: ” فيما بعد سار إسكندر إلى ميديا، وزار سهول نيستا المشهورة، والتي كانت مرعى لخمسين ألف حصان لجيش الملك… في ذلك العهد كانت انتصارات إسكندر السياسية والحربية المختلفة تعتبر أعياداً، وتقام لها الحفلات، وكان أتروبات يساهم في بعض الحفلات “(دياكونوف: ميديا، ص 417).
وبعد وفاة الإسكندر سنة (323 ق.م) لم يكن أتروبات من المشاركين في المجلس التحضيري للحكام والقادة العسكريين الذي انعقد في بابل، باعتبار أن ذلك المجلس كان وقفاً على القادة اليونان الكبار فقط، واتخذ المجلس قراراً بإسناد بلاد ميديا للمكدوني پرديكا صهر أتروبات، ويستفاد من دياكونوف أن أتروبات صار يقوم مقام نائب پرديكا في الدولة الجديدة، وأفاد دياكونوف أيضاً أن المجلس كلّف پرديكا بأن يكون مسؤولاً عن المستعمرات اليونانية في شرقي إيران وآسيا الوسطى، ونتيجة لذلك صارت ميديا الغنية بمواردها، القوية بجيشها، مهمة جداً، ويضيف دياكونوف قائلاً: “وفي الواقع أن صداقة الميديين مع المقدونيين كانت مهمة وذات قيمة؛ لأنهم [المكدونيون] لو تخلّوا عن أرض ميديا لكانت علاقتهم انقطعت مع الولايات الشرقية” (دياكونوف: ميديا، ص 420).
وظل أتروبات مقرَّباً من المكدونيين، وفي سنة (323 ق.م) كان هو واكسيارت (نسيب الإسكندر) الحاكمَين الوحيدين اللذين بقيا في منصبيهما من بين سائر الحكّام، ما عدا المكدونيين واليونانيين طبعاً، ويبدو أن أتروبات كان حاكماً على ميديا الصغرى فقط، في حين كانت سلطة صهره پرديكا المكدوني تشمل ميديا الكبرى، وإن واقعية أتروبات السياسية جعلته ينأى بنفسه عن الصراعات والاضطرابات التي ثارت بين القادة المكدونيين واليونانيين في ميديا الصغرى، كما أنه لم يشترك في النزاعات التي دارت بين القادة العسكريين الإغريق، بعد وفاة الإسكندر حول ميراثه، ” وحافظ على استقلاليته التامة“(دياكونوف: ميديا، ص 421، 422).
أتروباتيا مستقلة
وبعد وفاة پرديكا اجتمع قادة الإسكندر سنة (321 ق.م)، وقسّموا الولايات والبلدان من جديد، فلم تكن ميديا الصغرى (ولاية أتروبات) ضمن ذلك التقسيم، واستطاع أتروبات ببراعته السياسية الاحتفاظ بميديا الصغرى مستقلة عن اليونانيين والمكدونيين والفرس، حتى إن دياكونوف يتساءل:
” كيف استطاع أتروبات، في بداية تلك الأيام المملوءة بالصراعات، وبين تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين ورثة وخلفاء إسكندر، أن يؤسس دولة ميدية مستقلة“(دياكونوف: ميديا، ص 422).
ويجيب دياكونوف قائلاً:
“دون شك كان أتروبات رجلاً شجاعاً وعاقلاً، ولو لم تكن الأيام والظروف الداخلية بين الأقوام الميدية مؤاتية، ولو لم يكن جيشه قديراً، لما استطاع في ذلك الوقت أن يؤسس دولة جديدة مستقلة ويحافظ عليها مهما كان عاقلاً ومدبّراً“(دياكونوف: ميديا، ص 422).
وأشار دياكونوف إلى ثلاثة عوامل مهمة، ساعدت على احتفاظ أتروبات باستقلالية ميديا الصغرى، بعكس ما جرت عليه الأمور في ميديا الكبرى:
o العامل الأول: أن ميديا الصغرى لم تكن تقع في نقطة تقاطع الطرق التجارية، ولم تكن سبيلاً للجيوش الغازية بين المناطق المهمة في غربي آسيا وآسيا الوسطى. أما ميديا الكبرى فكان يمر فيها طريق الحرير الرئيسي، مما جعلها محطّ أطماع جميع مراكز القوى المتصارعة على ميراث الإسكندر.
o والعامل الثاني: أن ميديا الصغرى كانت تتمتّع باكتفاء اقتصادي وصناعي، بمقاييس تلك الأيام، جعلها في غنًى عن استيراد المواد الخام للصناعات الحرفية، وجعلها من ثَمّ في غنًى عن الدخول في صراعات أو في تحالفات إقليمية غير مأمونة الجانب.
o والعامل الثالث: أن أتروبات وظّف حنكته القيادية في السيطرة على القبائل الرعوية في ميديا الصغرى، وصارت تلك القبائل قوة مهمّة في دولته؛ إذ كانت الروح القتالية عند هذه القبائل عالية، وتقوم على المشاركة الطوعية في الحروب، ولم يكن أفرادها من المجنّدين قسراً أو من المقاتلين المرتزقة كما كانت عليه الحال لدى جيوش الإمبراطورية الفارسية، أو لدى المستوطنين العسكريين المكدونيين(دياكونوف: ميديا، ص 423).
وكانت أمجاد دولة ميديا الغابرة ما تزال حية في ذاكرة أتروبات، وكان حريصاً على أن يوصل الحاضر بالماضي، فأحيا النهج الحضاري والسياسي الذي أرسى دعائمه زعماء ميديا الأوائل، قال دياكونوف:
” إن المملكة الجديدة التي كانت تسمى رسمياً بدولة ميديا، يسميها المواطنون (ميديا الأتروباتية) أو يسمونها (أتروباتيا)، … إن الدولة الجديدة حافظت على النهج السياسي والحضارة الميدية لعهد أيام ديوك الماضية “(دياكونوف: ميديا، ص 423 – 424).
ولم نجد معلومات موثّقة حول تاريخ وفاة أتروبات، ويقتضي منطق الأحداث أنه توفي بعد سنة (320 ق.م).
وبعد وفاة أتروبات حتمت الضرورة الجيوسياسية على السلوقيين (ورثة الإسكندر) أن يسيطروا على ميديا من حوالي سنة (311 ق.م) إلى حوالي سنة (247 ق.م) على الأرجح، وكان على البارت (يسمّون: الفرث، الپرث، الأشگان، الأرشاك، ويقال: صنف من السكيث) أن يفعلوا الأمر نفسه.
وحينما بدأ النهوض الأرمني في عهد الملك الأرمني ديگران الثاني (ديگران الكبير توفّي سنة 55 أو 54 ق.م)، صارت ميديا مجالاً حيوياً للمملكة الأرمنية، سواء أكان ذلك في القوقاز شمالاً، أم في الجنوب أم في الغرب، بل ما كان باستطاعة الملك الأرمني تأسيس إمبراطوريته، والوصول إلى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، من غير أن يسيطر على ميديا المتاخمة لأرمينيا، حتى إنه بنى عاصمته الثاني (ديگرانا كيرتا) في الوطن الميدي، وذكر أرشاك سافراستيان أن (فارقين/ ميّافارقين) هي ديگرانا كيرتا (مجموعة من الباحثين: كركوك، ص 38).
وفي الربع الأول من القرن الأول قبل الميلاد صار الوطن الميدي ميداناً رئيسياً للمعارك الطاحنة بين ثلاث قوى إقليمية كبرى حينذاك: الرومان، الأشگان (الفرث)، الأرمن، واتخذ القائد الروماني لُوكُولُّس، وبعده القائد الروماني بُومْبى، مدينة نصيبين قاعدة للجيش الروماني في الشرق(مروان المدوّر: الأرمن عبر التاريخ، ص 155 – 156، 157. أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 48). وانجلت الصراعات الإقليمية عن معسكرين متنافسين متصارعين: الأول يضم الأشگان والأرمن. والثاني يضم الرومان والميد.
وكان الملك الميدي أردافست قد وقف إلى جانب القائد الروماني أنطونيو خلال ذلك الصراع، الأمر الذي جعله عرضة لنقمة الحليفين الأشگاني فرﮪاد الرابع والأرمني أرداشيس الثاني (حفيد ديگران الكبير، حكم بين سنتي 30 – 20 ق.م)، وشنّا معاً حملة ضد الميد في المنطقة الواقعة بين تبريز وﮪمذان، وتمكّن أرداشيس من قتل الملك الميدي، مما جعل له مكانة خاصة في البلاط الأشگاني. ولما سيطر الرومان على الأوضاع في أرمينيا، بين سنتي (1 – 2 م)، عيّنوا عليها حاكماً من أصل ميدي يدعى أريوبارزان، وعيّنت بعده حاكماً ميدياً آخر بين سنتي (2 – 11 م)، يدعى أردافست الخامس (مروان المدوّر: الأرمن عبر التاريخ، ص، 158 – 159، 160- 162).
وصارت ميديا الكبرى وميديا الصغرى تابعة للسلطة البارتية (البرثية) حوالي سنة (250/249 ق.م)، ثم صارت في قبضة الفرس الساسانيين حوالي سنة (224، أو 226م)، وانزوت في الجبال والوهاد، لتختفي رويداً رويداً وراء حجب التاريخ.
المراجع
أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة الدكتور أحمد الخليل، دار هيرو، بيروت، 2007م.
دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والنشر، دمشق.
مجموعة من الباحثين: كركوك ( بحوث الندوة العلمية حول كركوك)، دار آراس، أربيل، 2001م.
مروان المدوّر: الأرمن عبر التاريخ، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م.
ﮪ. ج. ولّز: معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف و الترجمة والنشر، القاهرة، 1967-1972م.
وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959م.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والخمسين.
د. أحمد الخليل في 01-02-2008
[1]