سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ ( الحلقة 16 ) مشروع أبلسة الكرد (الجذور والمقدمات)
د. أحمد الخليل
إشارات وعبارات
” من لم يطّلع على إشاراتنا لا تَهديه عباراتُنا “.
هذا ما قاله المفكر الصوفي أبو منصور الحَلاّج قبل حوالي ألف ومئة عام، وبما أننا مستمرون في التنقيب عن تجليات مشروع (أبلسة الكرد)، لا نجد مفراً من الدخول إلى المنطقة الحرام في تاريخ غربي آسيا، وهي المنطقة الأكثر إبهاماً وتعقيداً، ونضطر من ثَمّ إلى تسمية الأشياء بأسمائها، وتفكيك بعض الإشكاليات في العلاقة بين الكرد وجيرانهم، بغرض تفحّصها وتتبّع انعكاساتها في الذاكرة الغرب آسيوية جيلاً بعد جيل.
وبما أن بعض تلك الإشكاليات ما زال قائماً في بيتنا الغرب آسيوي، وهي مرشَّحة- على الأقل في حدود المعطيات المعاصرة- إلى التموضع في صميم مستقبلنا نحن شعوب غربي آسيا، وبما أننا جميعاً (فرساً وعرباً وكرداً وآشوريين وكلداناً وأرمناً وتركاً) حفدة الأجداد الذين عاصروا تلك الإشكاليات، وعاشوها بمستويات مختلفة، وكي تكون عباراتنا في هذا المجال مفهومة، نوضّح ما يلي:
1. ظاهرة تبشيع صورة الكرد ليست فرضية، وإنما هي حقيقة، وقد سقنا عليها عشرات الأدلة الصريحة والموثَّقة، فلا سبيل إلى تجاهلها، أو الالتفاف عليها، أو التعامل معها على نحو خجول ومُجامِل.
2. بعد إخضاع تلك الظاهرة للتحليل العلمي، اتضح أنها ليست ظاهرة عابرة، وإنما هي مشروع صمّمته جهات غرب آسيوية، وأشرفت عليه تأسيساً وتكريساً وتطويراً.
3. من الموضوعية عدم الخلط بين الشعوب والنُّخب بخصوص هذا المشروع، فالنُخَب هي التي أنتجته، وحرصت على تطويره وتسويقه واستثماره، أما الشعوب فكانت مطيّة لتحقيق أهداف النخب.
4. إن قسماً غير قليل من نُخبنا الغرب آسيوية لمّا يخرجوا بعدُ من عباءة ثقافة (إلغاء الآخر)؛ ولذلك هم حريصون على البحث في التاريخ عن مبررات يسوّقون بها مشاريعهم الإلغائية، فلا يرى الضحايا بداً من الاحتماء بالتاريخ ليصونوا وجودهم.
5. الفرق شاسع بين إعادة قراءة التاريخ لتوسيع شُقّة الخلاف بين الشعوب، وبين إعادة قراءته لتشخيص الأخطاء، وتوضيح الحقائق، تمهيداً لتصحيح المسارات، وسعياً إلى تأسيس (ثقافة الإخاء) بدل (ثقافة الإلغاء) في البيت الغرب آسيوي الكبير.
تلك هي منطلقاتنا في التعامل مع مشروع تبشيع صورة الكرد.
ودعونا نستكمل التنقيب فيه.
الجذور
إن ظاهرة تبشيع صورة الكرد لم تنشأ دفعة واحدة، ولم تتأسس بين عشيّة وضحاها، وإنما هي نتاج تراكمات وإرهاصات تتابعت خلال عشرات القرون قبل الميلاد، وتعود تلك التراكمات والإرهاصات إلى أزمنة الصراع الطويل بين (أقوام الجبال) و(أقوام الصحراء)، أو لنقل بحسب المصطلحات الدارجة: بين (الأقوام الآرية) و(الأقوام السامية)، وكانت المنطقة الممتدة من الخليج إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط هي موضوع الصراع، لكن المنطقة التي دار فيها القدر الأكبر والأطول من ذلك الصراع هي (بلاد الرافدين).
وبلاد الرافدين هي المنطقة الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، وأطلق عليها اليونان اسم (ميسوپوتاميا/ميزوپوتاميا) Mesopotamia، واستُخدم بداية للدلالة على المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات من الخليج حتى موقع مدينة بغداد الحالية، ثم اتسع مدلوله، وصار يدل على جميع الأراضي الواقعة بين دجلة والفرات من الشمال إلى الجنوب، واستُخدم في الكتب الأوربية الحديثة ليدل على العراق القديم. (جين بوترو وآخران: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ص 20. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 5. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 212).
إن بلاد الرافدين هذه، وامتداداتها الغربية في شمالي سوريا، كانت (المجال الحيوي) للأقوام الآرية القادمة من الشمال والشرق، وللأقوام السامية القادمة من الجنوب، ولذلك كان الصراع عليها ضارياً بين الفريقين، وفي خضم الصراع كان كل فريق حريصاً على تبشيع صورة الآخر، تبريراً للقضاء عليه وإلغاء وجوده، كما هي العادة، ويبدو أن الأقوام السامية (الأكاديون، البابليون، الآشوريون) كانت أكثر براعة في هذا المجال من خصومها الآريين (السومريون، الگوتيون، العيلاميون، اللولوبيون، السوبارتيون، الكاشيون، الحوريون، الميديون).
ونحسب أن جذور مشروع (أبلسة الكرد) تعود إلى تلك الأزمنة القديمة جداً، شريطة أن نأخذ في الحسبان أن التكوين الكردي في صورته النهائية هو نتاج تلك الأقوام الآرية المشار إليها، ومن المؤشرات الدالة على وجود تلك الجذور أن بعض المدوّنات الرسمية الأكّادية والبابلية والآشورية تُطلق على الأقوام الآرية المنافسة صفات الهمجية والبطش والتدمير، وبأنهم قساة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، وتشبّههم أحياناً بأفاعي الجبال.
وفي الوقت نفسه يمجّد بعض ملوك الأكّاديين والبابليين والآشوريين الفظائع التي ارتكبوها في مواطن جدود الكرد، بدءاً من عِيلام في الجنوب، وانتهاء بالشمال في منطقة أرارات، وامتداداً إلى مشارف الأناضول (وسط تركيا حالياً) في الغرب، وكانوا يعدّون البطش بأجداد الكرد وسفك دمائهم، وتدمير بلادهم، أمراً مشروعاً، تباركه الآلهة، وفيما يلي بعض الشواهد على ذلك.
إن الملك الأكّادي نارام سين سجّل بعض أمجاده في مسلّة، تظهر فيها سفوح جبال مشجّرة، والجبال مخروطية الشكل، مرتفعة جداً، يصعد إليها جواد الملك، وتنتثر في وديانها جثث القتلى، والملك يصعد مختالاً وهو مدجَّج بالسلاح (بلطة، قوس، سهام)، وعلى رأسه خوذة مُروَّسة لها قرنان؛ دلالةً على الربوبية والجبروت، وتحت أقدامه أعداؤه صرعى، أو يلتمسون منه العفو. (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 75).
وذكر ديورانت جانباً من قسوة ملوك أكّاد بأقوام الجبال، فقال:
” منشتوسو ملك أكّد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عِيلام، ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت، لتُصنع منه التماثيل التي تخلِّد ذكرَه في الأعقاب… وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذُبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يُقدَّم عُشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطّشة للدماء، فيُقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها “. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 27).
ووصف الملك الآشوري آشور ناصربال غزوة له إلى منطقة نهر الخابور في كردستان قائلاً:
” وبتأييد من آشور والإله أَدَد [حَدَد]، الإلهين العظيمين اللذين جعلا سيادتي مطلقة، حشدتُ عجلاتي وجندي، وانطلقت إلى نهر الخابور، … وجعلت آزي- إيلي حاكماً يمثّلني عليهم، وجعلت كومة من الرؤوس أمام بوّابته، وسلختُ جلود النبلاء الذين تمرّدوا عليّ، ثم نشرتُ جلودهم على الكومة، فبعضُها في داخل الكومة، وبعضُها علّقتها على أعواد مغروسة في الكومة، وبعضُها وضعته على أعمدة حول الكومة، وأتيتُ بالعديد منهم إلى بلادي، فسلختُ جلودهم هناك، ونشرتُها على الأسوار”. (ألبرت كيرك كريسون:الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني، ص 22).
وسجّل الملك الآشوري آشور بانيپال هجومه على عيلام قائلاً:
” لقد خرّبت من بلاد عِيلام ما طولُه مسيرُ شهر وخمسة وعشرين يوماً، ونشرتُ هناك الملح والحَسَك لأُجدب الأرض، وسُقت من المغانم إلى أشور أبناءَ الملوك، وأخوات الملوك، وأعضاءَ الأسرة المالكة في عيلام صغيرَهم وكبيرهم، كما سُقت منها كل من كان فيها من الولاة والحكام، والأشراف والصنّاع، وجميع أهلها الذكور والإناث كباراً كانوا أو صغاراً، وما كان فيها من خيل وبغال وحمير وضَأْن وماشية تفوق في كثرتها أسراب الجراد، ونقلتُ إلى أشور تراب سوسا، ومدكتو، وهلتماش، وغيرها من مدائنهم، وأخضعت في مدة شهر من الأيام بلاد عيلام بأجمعها؛ وأخمدت في حقولها صوتَ الآدميين، ووقْعَ أقدام الضأن والماشية، وصراخ الفرح المنبعث من الأهلين، وتركت هذه الحقول مرتعاً للحمير والغزلان والحيوانات البرية على اختلاف أنواعها”. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).
وقال ديورانت واصفاً الأهوال التي صبّها أشور بانيپال على عيلام:
” وجيء برأس ملك عيلام القتيل إلى أشور بانيپال وهو في وليمة مع زوجته في حديقة القصر، فأمر بأن يُرفع الرأس على عمود بين الضيوف، وظَلّ المرح يجري في مجراه؛ وعُلِّّق الرأس فيما بعد على باب نينوى، وظل معلَّقاً عليه حتى تعفّن وتفتّت. أما دنانو القائد العيلامي فقد سُلخ جلده حيّاً، ثم ذُبح كما يُذبَح الجمل، وضُرب عنق أخيه، وقُطّع جسمُه إرْباً، ووُزَّع هدايا على أهل البلاد تَذكاراً لهذا النصر المجيد”. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).
وعلّق ديورانت على أعمال الملك الآشوري بقوله:
” ولم يخطر قطُّ ببال أشور بانيپال أنه ورجالَه وحوشٌ كاسرة أو أشدّ قسوة من الوحوش؛ بل كانت جرائم التقتيل والتعذيب هذه في نظرهم عمليات جراحية لا بد منها، لمنع الثورات، وتثبيت دعائم الأمن والنظام بين الشعوب المختلفة المشاكسة المنتشرة من حدود الحبشة إلى أرمينيا، ومن سوريا إلى ميديا، والتي أخضعها أسلافه لحكم أشور، لقد كانت هذه الوحشية في رأيه واجباً يفرضه عليه حرصه على أن يبقى التراث سليماً “. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).
هذه شواهد قليلة على حدّة الصراع بين الساميين والآريين في بلاد الرافدين وجبال زاغروس، وإن هذه الشراسة على الصعيد العسكري كانت أحد تجلّيات مشاريع الإلغاء التي نفّذتها نُخب الأقوام السامية في بلاد الرافدين ضد أقوام الجبال (أجداد الكرد)، وفي تلك العهود القديمة جداً نبتت جذور مشروع تبشيع صورة أجداد الكرد، لكن تأسيس ذلك المشروع على نحو منهجي، وتكريسه بوعي، كان على أيدي نُخب آرية حلّت محلّ الدول المركزية الكبرى في غربي آسيا؛ وهي النُّخب الأخمينية الفارسية، وثمة مقدّمات سبقت ذلك التأسيس، فماذا عنها؟
تحوّلات إقليمية
تأسّس مشروع تبشيع صورة أجداد الكرد رسمياً سنة (522 ق.م)، وهو لم يتشكل من فراغ، إنه كان نتاج جملة من المعطيات الديموغرافية، والتقاطعات الثقافية والاقتصادية، والتحولات الجيوسياسية المتتالية في غربي آسيا، ونستعرضها فيما يلي بإيجاز.
أولاً- في الشمال: خلال الربع الثاني من القرن (14 ق.م)، قضت الدولة الحثية الحديثة على الدولة المِيتّانية (الحورية)، وكان نفوذها قد وصل- في أقصى امتداد له- من جبال أرارات شمالاً إلى كركوك جنوباً، وامتد غرباً ليشمل النصف الشمالي من سوريا، ولا سيما مملكة حلب. بل إن بعض الباحثين عدّ الهكسوس الذين حكموا مصر بين ( 1720 – 1570 ق.م ) من أصل حوري، وذكر آخرون أنهم من أصل كاشي، أما كونهم شعباً آرياً (هندو أوربياً) فمسألة مؤكدة، ولعلنا نستقصي هذا الموضوع مستقبلاً بتوسع. وانتهت الدولة الحثية نفسها بعدئذ إلى الزوال حوالي سنة (1200 ق.م)؛ بتأثير هجمات الشعوب الإيجية (شعوب البحر)، (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص51. فلايكوفسكي: عصور في فوضى، ص 83. إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 90. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج1، ص 84. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 121. سيد القمني: إسرائيل، ص 291، 386).
ثانياً – في الجنوب: كانت الدولة المصرية تخوض صراعاً طويلاً ضد الحثيين للسيطرة على سوريا، ووصل ذلك الصراع إلى القمة في معركة قادش على نهر العاصي سنة (1285 ق.م) بقيادة رعمسيس الثاني. وبعد وفاة رعمسيس الثاني سنة (1225 ق.م) دخلت مصر حالة من الفوضى قرابة عام (1200 ق.م)، عندما أمسك بزمام الحكم شخص آسيوي يكتنفه الغموض، يدعى أرسو (يرسو)، ولقبه (حارو) أي (حوري). (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 82. ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 182. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل ص 72، 94، 99).
ثالثاً – في الشرق: حوالي سنة (1168 أو 1162 ق.م) قضى العيلاميون على الدولة الكاشية التي حكمت بابل، وعُرفت باسم (سلالة بابل الثالثة)، وصحيح أن النفوذ الآشوري كان يزداد قوة في شمال شرقي بلاد الرافدين (شمال غربي إقليم كردستان- العراق حالياً)، ولا سيما بعد سقوط الدولة الكاشية، لكنهم لم ينتقلوا إلى الدور الإمبراطوري إلا ابتداء من عهد الملك تجلات بلاصر الثالث (745 – 727 ق.م). (عامر سليمان، أحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 134. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 116).
رابعاً- في الغرب: في سوريا وشرقي البحر الأبيض المتوسط عامة، تنفّس الآراميون والفينيقيون والكنعانيون الصُّعَداء، وازدهرت الدول الآرامية في سوريا الداخلية، ومن أبرزها في الشمال دولة سَمْأَل (شَمْأل) في كيليكيا، ودولة بيت آجُوشي وكانت تضم حلب وأرفد (أرفات/ تل رفات/ تل رِفْعت حالياً)، وفي الوسط دولة حماة، وفي الجنوب دولة دمشق. أما في الساحل فحكم الفينيقيون في الشمال (ساحل سوريا ولبنان حالياً)، والكنعانيون في الجنوب (فلسطين حالياً)، (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 178. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 74).
وفي هذه المرحلة ظهر العبرانيون في جنوبي سوريا (فلسطين)، وقد تعدّدت أسماؤهم، فهم (عَبِيرو) بالمصرية القديمة، و(خابِيرو) بالكلدانية. وتفيد المصادر اليهودية والمسيحية والإسلامية أن العبرانيين قبائل بدوية من أصل سامي، جدُّهم الأكبر هو النبي إبراهيم، وسمّوا (بني إسرائيل) بعدئذ نسبة إلى لقب جدهم الثالث يعقوب (إسرائيل) ابن إسحاق بن إبراهيم، وعُرفوا باسمهم الديني (اليهود) نسبة إلى سبط (يهوذا)، أو نسبة إلى مملكة يهوذا، وربما نسبة إلى إلههم القومي (يَهْوَه)، وحديثاً ثمة جدل كثير حول أصل العبرانيين، فمن الباحثين من يرى أنهم خليط من الآريين والساميين، ومنهم من يرى أنه لا علاقة لهم بالساميين، في حين يرى الباحث المصري سيّد القمني أن جد العبرانيين (إبراهيم) آري من الفرع الحوري، وليس الآن موضع البحث في ذلك. (أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 94. سيد القمني: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، ص 71. محمد قدوح: الكتابة، ص 56 – 57).
وتفيد الروايات الدينية أيضاً أن النبي إبراهيم هاجر من أُور الكلدان إلى حَرّان، ثم هاجر من حَرّان إلى أرض كنعان (فلسطين)، ثم رحل من هناك إلى مصر، ثم عاد ليستقر ثانية في أرض كنعان، وفي عهد النبي يوسف بن يعقوب هاجر العبرانيون مرة أخرى إلى مصر، وربط بعض المؤرخين هجرتهم تلك بالغزو الهكسوسي لمصر، وبعد خروج الهكسوس من مصر اضطر العبرانيون إلى الهروب شمالاًٍ نحو فلسطين، بقيادة النبي موسى حوالي سنة (1225 ق.م)، واستقروا في شرقي أرض كنعان، وحوالي سنة (1200 ق.م) عبروا نهر الأُردن بقيادة يوشع (يَشوع)، وغزوا أرض كنعان، ثم وسّعوا دائرة الغزو باتجاه الغرب، وشكّلوا قوة يُحسَب لها حساب في شرقي المتوسط (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 67. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 121).
وقد استغل قادة العبرانيين الفراغ الإقليمي الذي مر ذكره، فأسس زعيمهم شاوُل (شاؤول) أول مملكة عبرانية بين (1028 – 1013 ق.م)، ثم تولّى النبي داود قيادة المملكة بين (1013 – 973 ق.م)، أو بين (1004 – 965 ق.م)، واحتل العبرانيون جميع أرض كنعان، وباتوا يهدّدون الدويلات الآرامية في جنوبي سوريا؛ وهذا يعني أنهم سيطروا على الرأس الشمالي لطريق البخور والتوابل القادم من اليمن براً عبر جنوبي الحجاز، وبحراً عبر البحر الأحمر. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج1، ص 83- 84. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 72، 109 – 210).
ثم صار النبي سليمان بن داود ملكاً على العبرانيين بين (965 – 928 ق.م)، فأقام علاقات سلام وتحالف مع حِيرام ملك صور الفينيقي شمالاً، ومع فرعون غرباً، وأدار سليمان حركة تجارية كبرى بين مصر وجزر البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى وجنوبي شبه الجزيرة العربية، واتصف عهده بالثراء والترف والانفتاح الثقافي؛ الأمر الذي جعله شهيراً في عصره، ويبدو أن النُّخب العبرانية صوّرته بعدئذ على نحو أسطوري، وتلقّف بعض المؤرخين المسلمين تلك الروايات الأسطورية، وقدّموها إلى الأجيال على أنها حقائق لا شك فيها. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 68. إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 167. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 204، 216، 218).
لكن العهد الذهبي العبراني لم يدم طويلاً، وتغيّرت الأوضاع الإقليمية تغيراً كبيراً في النصف الثاني من عصر سليمان؛ ففي عام (945 ق.م) آلت السلطة في مصر إلى شِيشْنَق (مؤسس الأسرة المصرية الثانية والعشرين)، وكان شيشنق يعادي سليمان؛ لأن سليمان كان قد ارتبط بعلاقة مصاهرة مع الأسرة الحاكمة السابقة. ( أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 222).
وفي بلاد الرافدين دخلت الدولة الآشورية دور التوسع الإمبراطوري حوالي سنة (912 ق.م)، وفرض الآشوريون سيطرتهم على جميع بلاد الرافدين، وعلى مداخل جبال زاغروس وطوروس؛ أي أنهم أحكموا سيطرتهم على شبكة طريق الحرير في الشرق والشمال، لا بل إنهم اتجهوا غرباً وجنوباً نحو واحة (تَيْماء) في شمال غربي شبه الجزيرة العربية، للسيطرة على طريق البخور القادم من اليمن جنوباً، وكان من الطبيعي أن يتطلّعوا إلى السيطرة على سوريا، وعلى جميع السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، بما فيها فلسطين حيث تحكم المملكة العبرانية، وإلا فإن بقاء تلك المناطق خارج نفوذهم يعني عدم سيطرتهم الكاملة على الحركة التجارية في العالم القديم. (أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 222).
وحينذاك كانت المملكة العبرانية قد انقسمت إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في السامرة شمالاً، ومملكة يَهُوذا في أُورشليم جنوباً، وشنّ الملوك الآشوريون الهجمات عليها، وخاصة في عهد شَلْمانصّر الخامس وسَرْجُون الثاني وسَنْحاريب في الفترة (727 – 680 ق.م)، وقضوا على ثورات العبرانيين، وأخضعوا المملكتين للتبعية الآشورية، وسَبوا عشرات الآلاف من العبرانيين، وأسكنوهم في منطقة بابل وبعض مناطق جنوبي كردستان (إقليم كردستان- العراق حالياً)؛ وهذا هو سر استبشار الزعيم العبراني نَاحُومَ الأَلْقُوشِيّ بسقوط الإمبراطورية الآشورية على أيدي الميديين وحلفائهم البابليين (الكلدان) سنة (612 ق.م). (إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 249. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 116. العهد القديم، سفر ناحوم، الأصحاح الثالث، الآيات 18 – 19).
غير أن استبشار العبرانيين بسقوط الإمبراطورية الآشورية، وأملهم بالخلاص من الأسر، والعودة إلى فلسطين، وإحياء مجدهم السابق، لم يدم طويلاً، فقد مر أن الميديين وحلفاءهم البابليين (الكلدان) تقاسموا ممتلكات الإمبراطورية الآشورية، وكانت سوريا وأرض كنعان (فلسطين) من نصيب الدولة البابلية، وفي سنة (604 ق.م) وصل جيش بابل إلى سوريا وإلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وسيطر عليها جميعاً، وفي سنة (586 ق.م) استولى نَبُوخَذ نصّر (بُخْتُنَصّر) بن نَبُوبولاصّر على أورشليم، عاصمة مملكة يهوذا ودمرها تدميراً، وأجلى السكان إلى بابل، ولم تفلح جهود الدولة المصرية في إنقاذ حلفائهم العبرانيين. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 70. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 295. سيد القمني: إسرائيل، ص 106).
وماذا عن التحوّلات في جبال زاغروس وأطرافها؟
ميديون وأخمينيون
حوالي سنة (1100 ق.م) وصل شعبان آريان جديدان إلى غربي آسيا، قادمين من الخزّان الرئيسي للشعوب الآرية شرقي بحر قزوين، عُرف الشعب الأول باسم (ميد)، والآخر باسم (فُرس)، وكان كل واحد منهما يتألف من عدد من القبائل الكبيرة، ورجّح بعض المؤرخين أن فارس (فرسوا/برسوا) Parsua، وميديا (مادي) Madai اسمان جغرافيان، وليسا اسمين قوميين. (طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 37).
وبالنسبة إلى موطن الميديين كتب دياكونوف يقول:
” ماد (ميديا) كأرض تاريخية، وبمعنى أشمل لهذه الكلمة، هي تلك الأراضي التي كانت في العهد القديم تمتد حدودها من الشمال بنهر أراس وقمم جبال البُرْز جنوب بحر قزوين، ومن الشرق السهول المالحة لسهول كوير، ومن الجنوب والغرب متصلة بسلسلة جبال زاغروس”. (دياكونوف: ميديا، ص 85).
وقال هارڤي بورتر بشأن موطن الميديين:
” هذه البلاد شرقي آشور والشمال الشرقي منها، وهي القسم الشمالي والغربي من مملكة إيران المعهودة، ويحدّها شمالاً أرمينيا وبحر الخَزر، وغرباً جبال زاغرُس، وجنوباً بلاد فارس، ولم يتعيّن حدُّها شرقاً؛ لأن الأراضي هناك كانت سَبْخة لم تُسكَن “. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 82).
وأضاف هارڤي بورتر يقول:
” وكان أكثر أراضي مادي وأحسنها جبلياً، لامتداد فروع زاغرُس شرقاً إلى الصحراء، وسلسلة جبال على شطوط بحر الخَزَر تسمّى البُرز (أو البُرج) تحيط بالبحر على القرب منه جنوباً وغرباً، وتتشعّب جنوباً، … وفروع جبل زاغرُس تمتد شرقاً، … وبينها أودية مخصبة معتدلة الهواء، وهنالك أكثر السكان… وانقسمت مادي قديماً إلى: مادي أَتْرُوبَتِينة، وهي القسم الشمالي. ومادي الكبرى وهي القسم الجنوبي، وتسمّى اليوم العراقَ العجمي”. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 82).
وذكر دياكونوف أن المنطقة التي حلّ فيها الميديون (ميديا) وأطرافها (أورارتو وميتّانيا)، كانت تحمل، في الألف الأول قبل الميلاد، اسم غوتيوم (گوتيوم)، نسبة إلى شعب غوتي (گوتي/جوتي/جودي)، وبالنسبة إلى أغلبية الباحثين فالقصد من معنى (غوتيوم) هو (ميديا). (دياكونوف: ميديا، ص 268).
هذا بالنسبة إلى الميديين.
أما بالنسبة إلى الفرس فقال هارڤي بورتر:
” أمة الفرس جيل من الإيوانيين، قريب النسب من أمة الماديين، وأخبارها في أول أمرها قليلة جداً، فلا نعلم إلا قليلاً من أمرها من ذلك الوقت إلى أن ظهر كورش الكبير… فإن شلمناصر الثاني التقى بهم مع الماديين يوم غزا تلك النواحي في القرن التاسع قبل الميلاد، ولم يكونوا حينئذ إلا قبائل … يُقيمون ويَظعنون، يرأس كلاً منها شيخ “. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 154).
وذكر هارڤي بورتر أن بلاد فارس كانت ضيّقة:
” وكان يحدّها شمالاً مادي، وشرقاً الصحراء السَّبْخة، وجنوباً خليج العجم، وغرباً ذلك الخليج وسوسيانا، وكان نحو نصف البلاد صحارى لا تصلح لشيء، والباقي تُرَب بين الجبال، عدا ريف [ساحل] البحر، فإنه كان ضيقاً شديد الحر، غير أن بعضه يصلح للحراثة. أما الأراضي الجبلية فمثل ما يقابلها من أراضي مادي كما ذكرنا، ففيها أودية تجري منها أنهر صغيرة، والأراضي المجاورة لها مخصبة، وفيها عدة بحيرات صغيرة مالحة، … وخلاصة ما يقال في تلك البلاد أنه ما كان يُتوقّع أن تخرج منها أمة قوية كأمة الفرس، أو ينشأ فيها رجال يتسلّطون على جانب عظيم من الأرض كما وقع”. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 153 – 153).
وقال ديورانت يصف بلاد فارس:
” إقليم فارس (پارش لدى الأقدمين) يكاد يكون كله صحراوات وجبالاً، أنهاره قليلة، معرَّض للبرد القارس والحر الجاف اللافح؛ ولذلك لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكانه البالغ عددهم مليونيين من الأنفس، إلا إذا استعانوا بما يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق التجارة والفتح، وأهل البلاد الجبليون الأشداء ينتمون كما ينتمي الميديون إلى الجنس الهندو- أوربي”. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد1، ج 2، ص 409 – 410).
وخلاصة ما جاء في المصادر التاريخية بشأن ميديا وفارس أن الميديين استقروا في المناطق الكردية التي تقع الآن في شمال غربي إيران وشمالي العراق، وهي المناطق التي سمّيت بعدئذ (كردستان)، في حين استقر الفرس في جنوب غربي إيران الحالية، وظلت معروفة طوال القرون باسم (فارس).
وقد استعرضنا في الحلقة السابقة (عدد 15) أن الإمبراطورية الآشورية كانت قوة عظمى مهيمنة على جميع غربي آسيا ومصر، وكانت تتصف بالقسوة البالغة في التعامل مع الشعوب الخاضعة لها، وأن الزعيم الميدي دياكو وحّد القبائل الميدية، وقادها ضد الدولة الآشورية في إطار مشروع تحرري، وتابع ابنه فراورت (خشتريت) تنفيذ مشروع التحرير، وأوصلها حفيده كَيْخُسْرو (كَيْ أخسار) إلى الذروة، وأهم ما أضافه كيخسرو إلى ذلك المشروع أنه لم يجعله مقتصراً على الميديين، وإنما جعله مشروعاً تحررياً لجميع شعوب غربي آسيا، فبسط نفوذه على فارس جنوباً، وعلى أرمينيا وميتّانيا شمالاً، وأقام تحالفاً مع البابليين (الكلدان) غرباً، وكانت النتيجة إسقاط الإمبراطورية الآشورية، وخلاص جميع شعوب المنطقة من عذابات وويلات استمرت ثلاثة قرون (912 – 612 ق.م).
ومر في الحلقة السابقة أيضاً أن كيخسرو خاض الحرب ضد دولة ليديا (حليفة دولة آشور سابقاً)، وانتهت الحرب بعقد معاهدة سلام وصداقة بين ميديا وليديا، تكلّلت بزواج ولي العهد الميدي أستياگ (أستياجس) من ابنة الملك الليدي إلياتِّس، وأن السلام رفرف على غربي آسيا، ونشطت الحركة التجارية على امتداد شبكتي طريق الحرير وطريق البخور في المنطقة، وما كان يعكّر صفوها سوى المناوشات التي كانت تندلع بين حين وآخر بين دولة بابل ودولة مصر، للسيطرة جنوبي بلاد الشام، وفلسطين (أرض كنعان) على وجه التحديد.
العلاقات الميدية- الفارسية
توفي الملك الميدي كيخسرو حوالي سنة (584 أو 585 ق.م)، وخلفه على الحكم ابنه أستياگ (أستياجس)، وورث أستياگ دولة قوية، واسعة الأرجاء، وافرة الخيرات، تسيطر على طريق الحرير الرئيسي المار بالعاصمة إگبتانا (هَمَذان) وبالمدينة الشمالية الكبرى رِغَه (الطريق، وسمّيت الرَّي، وهي تقع قرب طهران)، وتصبّ في خزائنها واردات الإمبراطورية، وكان من المفترض أن يزيد هذا الملك دولته قوة على قوة، لكن جرت الأمور بخلاف ذلك، ونهج أستياگ نهجاً مختلفاً عن نهج أسلافه، وأبرز سمات نهجه هي:
1 – الاستبداد بالسلطة، والخروج على التقاليد التي أرساها أسلافه؛ ألا وهي الحكم اللامركزي الشبيه بالفيدرالية في عصرنا هذا، فدولة ميديا كانت تتألف في الأصل من اتحاد أقوام ميديا؛ وقد ذكر دياكونوف أن استياگ كان يتعامل بدون رحمة مع ” كبار الرجال من النبلاء والمتنفّذين والمستشارين الميديين؛ أي الرجال الميديين من الصنف الأول، والذين كانوا من بقايا الملوك “. (دياكونوف: ميديا، ص 389).
2 – الخروج على الستراتيجية التي اتبعها أسلافه أقليمياً؛ ألا وهي إقامة التحالفات الكفيلة بتحقيق التوازن بين القوى الإقليمية الرئيسة، فأثار ضده أتباعه الأرمن شمالاً، وحلفاءه البابليين (الكلدان) جنوباً.
3 – النزوع إلى الارتخاء وحياة الدعة، قال دياكونوف: “في عهد أستياگ لم تحدث أية معارك، ولا حملات عسكرية، ولا احتلال مناطق جديدة”. (دياكونوف: ميديا، ص 391).
4 – الميل إلى الترف والملذات ورخاء العيش، حتى إن ديورانت وصف استياگ بأنه “طاغية إگبتانا المخنّث “. ( ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 402). وقال دياكونوف: ” وفي الواقع إن سيول الثراء الفاحش شمل الإمبراطورية الميدية الكبرى فجأة، وهذا بحد ذاته أصبح سبباً للتناقضات الداخلية للمجتمع الميدي في ما بين أصحاب الثروة والأسياد من أصحاب العبيد، وهذه التناقضات أدّت إلى القضاء على الإمبراطورية الميدية”. (دياكونوف: ميديا، ص 368).
إن هذا النهج الذي سلكه استياگ أدّى إلى ما يلي:
1. تخلّي المجتمع الميدي عن حياة الجد والتقشف، وانشغاله بالترف والبذخ، وقد وصف ديورانت جانباً من ذلك الترف قائلاً: ” وحَذَت الأمة حَذْوَ مليكها، وفَنِيت أخلاقها الصلبة الشديدة، وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، … فلبس الرجالُ السراويلَ المطرَّزة المُوَشّاة، وتجمّلت النساء بالأصباغ والحُلِيّ، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تُزيَّن بالذهب”.(ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص401 – 402).
2. ظهور التناقضات الداخلية في قمة هرم السلطة الميدية، وحصول شرخ عميق بين زعماء اتحاد أقوام ميديا، وبروز الوصولية، وإسناد المناصب العليا إلى رجال غير أَكْفاء؛ الأمر الذي سهّل اختراق القيادة الميدية من قبل الناقمين عليها والمتربصين بها.
3. ظهور التناقضات الداخلية في المجتمع الميدي بين الأغنياء والفقراء وانقسام المجتمع على نفسه.
وإذا أخذنا في الحسبان أن النبي زَرْدَشت ميدي الأصل والموطن حسب أرجح الأقوال، وأنه عاش بين سنتي (630 – 553، أو 628 – 551، أو 618 – 541 ق.م)، حسبما ذكر صمويل نوح كريمر، فلا نستبعد أن تكون دعوته الدينية القائمة على ثنائية النور والظلمة (أهورامزدا وأهرمن) شكلاً من أشكال معالجة التناقضات الاجتماعية التي تفاقمت في عهد أستياگ. (صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ص 294).
ومر سابقاً أن إقليم فارس النصف صحراوي، القليل الخيرات، كان يقع جنوبي ميديا مباشرة، وفي خضمّ استعدادات الزعيم الميدي فراورت (خشتريت) للخلاص من سيطرة الدولة الآشورية هاجم إقليم فارس، وألحقها بدولة ميديا، قال هيرودوت: ” ولم يكن فراورتيس هذا ليرضى بمملكة من الميديين وحدهم، فأخذ بمهاجمة الفرس، ثم دخل بلادهم على رأس جيش عرمرم، وما زال يجدّ في قتالهم، حتى استولى على كل أرضهم، وأخضعهم للميديين”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 80).
ويُستفاد مما ورد بهذا الشأن في المصادر التاريخية أن نوعاً من الاتحاد الفيدرالي كان قائماً بين ميديا وفارس؛ إذ كان لإقليم فارس ملكها؛ وهو من الأسرة الملكية الهاخمينشية (نسبة إلى مؤسسها هاخمينش، ومنه جاء لقب: أخميني)، وكانت له سلطاته الخاصة في إقليمه، ويبدو أنه كان ذا مكانة رفيعة؛ حتى إن الملك الأخميني قَمْبيز الأول كان قد تزوّج ماندانا ابنة الملك الميدي أستياگ.
ويبدو أن الأمور سارت في البداية سيراً حسناً بين النُّخب الأخمينية والنُّخب الميدية؛ إذ لم يذكر هيرودوت (من مدينة هاليكارناسوس Halicarnassus في جنوب غربي آسيا الصغرى توفي سنة 425 ق.م) أيّ خبر يدلل على أن الفرس قاموا بثورات ضد ميديا في عهد الملكين الميديين خشتريت وكيخسرو، وقد صرّح ذلك المؤرخ أنه كان يستقي أخباره من بعض الفرس البارزين، ولو كانت ثمة ثورات فارسية ضد دولة ميديا، لما تردد أولئك الفرس في ذكر أخبارها، ولا سيما أن هيرودوت كان قد قام بجولته في بابل وفارس بعد مرور قرن على زوال الدولة الميدية.
ولعل سبب سكوت النخب الفارسية على الهيمنة الميدية هو القرابة الإثنية والثقافية بين الشعبين من ناحية، والرغبة في الخلاص من قهر الدولة الآشورية من ناحية ثانية، والرغبة في الاستفادة من الموارد الاقتصادية في ميديا وفي المناطق التي خضعت للدولة الميدية من ناحية ثالثة، إضافة إلى حسنات النهج اللامركزي الذي كانت تقوم عليه الرؤية السياسة الميدية.
سقوط دولة ميديا
يُفهم من روايات هيرودوت- وما كان يخلو من تحيّز للفرس باعتباره كان من الرعية الفارسية- أن الأمور تغيرت بعد مرور ثلاثة عقود من عهد أستياگ، وألقى نهج أستياگ الاستبدادي، والانقسام بين النخب القيادية الميدية، بظلالهما على العلاقة بين أستياگ والنخب الأخمينية، فزادت الأمورَ سوءاً، وكان الزعيم الأخميني الذي قاد الثورة ضد أستياگ هو كورش Kursh الثاني ابن قمبيز الأول، أي حفيد أستياگ من ابنته ماندانا، ولن أستعرض هنا تفاصيل أحداث تلك الثورة، إذ سبق أن تناولتها بالبحث في الحلقة (44) من سلسلة (مشاهير الكرد في التاريخ)، وهي منشورة على عدة مواقع إلكترونية، كما تناولتها في كتاب معدّ للنشر حول دولة ميديا، وأكتفي هنا بسرد الخطوط الرئيسة.
لقد وظّف كورش العوامل الآتية لكسب الحرب ضد جده أستياگ:
1. خبرته العسكرية والسياسية، فهو قد نشأ وترعرع في ظل الثقافة الميدية، وكان من القادة البارزين، وكان جده أستياگ يكلّفه ببعض المهمات العسكرية، ولا سيما في أرمينيا.
2. استثماره رغبة النخب الفارسية في الخلاص من التبعية لميديا، وتطلّعهم إلى السيطرة على (طريق الحرير)، ووضع اليد على ثروات ميديا.
3. صداقته مع بعض كبار رجال البلاط الميدي.
4. بناء علاقة خاصة وسرية مع هارپاگ Harpage (هارپاجوس) كبير القادة العسكريين الميد، وكان هارپاگ من أشد الناقمين على أستياگ، ومن أكثر المتظاهرين بالإخلاص للملك في الجهر، ومن أشد الناشطين للتآمر عليه والخلاص منه في الخفاء، وقد كتب إلى كورش في إحدى رسائله السرية: ” هيّئ الفرس للثورة، وامضِ لملاقاة الميديين، ولا يضيرنّك إن كنتُ أنا أو أحدُ المقدَّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالفوز لك في كل الأحوال؛ لأن أشرف الميديين سيكونون أوّلَ من يهجرونه للانضمام إليك في جهدك للإطاحة به، ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فافعل ما أنصحك به، وبادر العمل سريعاً”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 90 – 91).
5. بناء علاقة سرية مع بعض كبار الموغ (رجال الدين)، وثمة احتمالان: إما أن هؤلاء كانوا من رجال الدين الأزدائي (اليزداني) الذي كان سائداً في المجتمع الميدي حينذاك. وإما أنهم كانوا من المتعاطفين مع زردشت، مع الأخذ في الحسبان أن زردشت كان قد أحدث انشقاقاً في الديانة الأزدائية، ولذلك وقفت النخب الميدية الدينية والسياسية ضده. وقال دياكونوف موضّحاً: ” إن قسماً من الكهنة الموغ عقدوا علاقات مع الفرس المتمردين. في الواقع إن الذي يدل على هذا أن الموغ كانوا يُستقبَلون باحترام كبير في بلاط كورش وابنه كمبوجيا الثاني [قمبيز الثاني] بعد الأحداث هذه مباشرة “. (دياكونوف: ميديا، ص 395).
6. صداقته مع ديگران ابن الملك الأرمني يروانت، وكان هذا الأخير ناقماً على سياسات أستياگ، ويرغب في الخلاص من التبعية لميديا.
7. استغلاله نشوب الخلافات بين الحليفتين (ميديا وبابل)، فقد كانت سلالة الملك البابلي نبوبولاصر (حليف كيخسرو) قد أزيحت عن الحكم في بابل، وتولّى السلطة نابونيد (نابونئيد) ابن الكاهنة العليا للإله (سين) في حَرّان، وكان الميديون قد ضمّوا حرّان إلى منطقة نفوذهم، لوقوعها على الطريق التجاري الرابط بين بلاد الرافدين وآسيا الصغرى وسواحل شرقي المتوسط، وكان نبونيد راغباً في السيطرة عليها، وقد هاجمها فعلاً حينما انشغل أستياگ بثورة كورش سنة (553 ق.م). (دياكونوف: ميديا، ص 394).
وهكذا فإن المعطيات الداخلية والإقليمية هيّأت المناخ لأن ينفّذ كورش خطته، وفي وقت متأخر عرف أستياگ خفايا ما كان يدور بين كورش والمتآمرين عليه بقيادة هارپاگ، فأراد وأد الثورة في مهدها، واستدعى كورش إلى إگبتانا، لكن كورش بادر إلى إعلان الثورة، والزحف نحو ميديا، فحشد أستياگ جيشه لملاقاة الجيش الفارسي، ونصب هارپاگ قائداً لذلك الجيش، وكان من الطبيعي والحال هذه أن تكون الهزيمة نصيب الجيش الميدي، وقال هيرودوت في هذا الشأن:
” وكان من أثر ذلك العمل أن قلة من جنوده لم تشترك في المؤامرة، هي التي صمدت في ساحة المعركة، حين اشتبك الجيشان ودار القتال، وأما البقية فكانوا بين فارّ إلى معسكر الفرس، ومتكلّف يصطنع القتال اصطناعاً؛ ليهرب بعدئذ من المعركة”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).
وقال دياكونوف:
” هارباگ الذي كان قائداً عاماً للجيش الميدي، فإنه مع النبلاء، وقادة قوات الجيش، انضموا إلى كورش، ودخلوا في صفوف جيشه”. (دياكونوف: ميديا، ص 392).
ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى أستياگ أصر على الدفاع عن عرشه، فبادر إلى إعدام بعض الخونة من الموغ، وسلّح سكان العاصمة إگبتانا، وعبّأهم للدفاع عن مدينتهم، واقتحم كورش العاصمة، وسقط المقاتلون الميديون المخلصون لملكهم صرعى، ووقع أستياگ في الأسر سنة (550 ق.م)، قال دياكونوف:
” إن الكتابات والمصادر المذكورة… تبيّن أن الميديين قاوموا بقوة شديدة في المعارك مع الفرس، ولولا خيانة كبار رجال ميديا، داخل الدولة الميدية، لما استطاع الفرس السيطرة على الحكم في الإمبراطورية الميدية “. (دياكونوف: ميديا، ص 394).
ولم يكتف هارپاگ بخيانة أستياگ، ومساعدة كورش على احتلال عاصمة الإمبراطورية، وإنما زار أستياگ في معتقله ساخراً ومتشفّياً، وأكد له أن هو الذي دبّر أمر الثورة عليه، فما كان من أستياگ إلا أن رماه بنظرة احتقار قائلاً له:
” إذنْ، فأنت لست الأشدّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء؛ فإذا كان هذا من تدبيرك حقاً كان الأجدر أن تكون أنت الملك،… وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، كان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي، لكن الحال الآن هي أن الميديين الأبرياء من كل جُنحة غدوا عبيداً بعدما كانوا أسياداً، وأصبح الفرس سادة عليهم، بعد ما كانوا عبيداً عندهم”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).
وعلى أية حال لم تكن سياسات أستياگ القاصرة هي السبب الوحيد لانقضاض النخب الأخمينية على دولة ميديا، كما أن الدافع إلى ذلك لم يقتصر على الرغبة في التحرر من السيطرة الميدية، ولو كان الأمر كذلك لاكتفى الزعيم الأخميني كورش بدحر الجيش الميدي، والعودة إلى فارس للاستقلال بحكمها، إن ما جرى بين فارس وميديا كان فصلاً آخر من فصول الصراع بين (جغرافيا الحرمان) و(جغرافيا الوفرة)، بين (البداوة) و(المدنية)، وقد لخّص ديورانت ذلك بقوله:
” من السُّنن التاريخية التي تكاد تنطبق على جميع العصور أن الثراء الذي يخلق المدنية هو نفسه الذي يُنذر بانحلالها وسقوطها، فالثراء يبعث الفن كما يبعث الخمول؛ وهو يرقّق أجسام الناس وطباعهم، ويمهّد لهم طريق الدَّعَة والنعيم والترف، ويُغري أصحاب السواعد القوية والبطون الجائعة بغزو البلاد ذات الثراء”. (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 194).
ومهما يكن فإن سقوط دولة ميديا، وسيطرة الأخمين الفرس على مقاليد الأمور في غربي آسيا، كان نقطة تحوّل كبرى في مصير البيت الغرب آسيوي عامة، وفي مصير الشعب الكردي بوجه خاص؛ إذ ثمة من الأدلة ما يؤكد أنه في كنف هذه الدولة وُضع حجر الأساس لمشروع أبلسة أجداد الكرد، وصار محتوماً على الكرد طوال خمسة وعشرين قرناً أن يرثوا تبعات ذلك المشروع.
أما تفاصيل التأسيس فستكون موضوعنا في الحلقة القادمة.
المراجع
1. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية، ترجمة وتعليق دكتور رشاد عبد الله الشامي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى، 2001.
2. إسرائيل فنكلشتاين، نيل أشر سيلبرمان: التوراة اليهودية منكشفة على حقيقتها ، ترجمة سعيد رستم، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2005.
3. البرت كيرك كريسون: الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني، ترجمة صلاح سليم علي، دار ادي شير للنشر والإعلام، أربيل، 2004.
4. إيمانويل فلايكوفسكي: عصور في فوضى (من الخروج إلى الملك أخناتون)، ترجمة الدكتور رفعت السيد، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995.
5. جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، 2000.
6. جين بوترو، أوتو إدزاد، آدام فاكنشتاين، جين فيركوتر: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ترجمة عامر سليمان، جامعة الموصل.
7. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
8. الدكتور سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، منشورات الجمعية التاريخية العراقية، بغداد، 1975.
9. سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.
10. الدكتور سيد محمود القمني: إسرائيل التوراة التاريخ التضليل، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.
11. الدكتور سيد محمود القمني: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990.
12. صمويل نوح كريمر (نشر وقدم له): أساطير العالم القديم، ترجمة دكتور أحمد عبد الحميد يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974.
13. الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد.
14. دكتور عامر سليمان، أحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، موجز تاريخ مصر وسوريا وبلاد اليونان والرومان القديم، بغداد، 1978.
15. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى (دراسة في التاريخ السياسي والحضاري القديم لبلاد الرافدين)، دار المعرفة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988.
16. الدكتور محمد قدوح: الكتابة (نشأتها وتطورها عبر التاريخ)، دار الملتقى للطباعة والنشر، قبرص – لبنان، الطبعة الأولى، 2000.
17. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.
18. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.
19. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957-1958 .
20. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.
وإلى اللقاء في الحلقة السابعة عشرة
د. أحمد الخليل في 01-06-2009
[1]