هناك سؤال يطرح نفسه، هل يمكن أن نجزم بأن قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن، بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ساهم في إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟ أم ينبغي علينا أن ننتظر بضعةَ أشهر أخرى؟ وهل علينا أن لا نأخذ ما قاله أحد الدبلوماسيين الخليجيين على محمل الجدّ، في مهرجان المصالحة العربي – العربي ، والعربي الإيراني، حينما قال: “الأجواء إيجابية جداً”.
دعونا نستكشف الأمور شيئاً فشيئاً.
ساحة الشرق الأوسط كانت تعيش على وتيرة واحدة منذ سنوات، لكن القرار الكبير الذي اتخذه بايدن بالانسحاب من أفغانستان، أعاد تحريك القطع على رقعة الشطرنج مرة أخرى، وأرسلت رسالة لكل زعماء المنطقة، مفادها: “أنتم الآن وحدكم، إذا كنتم تبحثون عنا، فإننا سنكون في مضيق تايوان. راسلونا كثيراً. ابعثوا لنا النفط. وداعاً”.
الأمر الثاني – بعد قرار بايدن – والذي يسهم في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، هو قوى الطبيعة، التي تعكسها موجات الحرّ والجفاف، والضغوط الديموغرافية، والانخفاض الذي شهدته أسعار النفط على مدى سنوات، وارتفاع الإصابات بجائحة كورونا في المنطقة.
حقيقةً، أنا الآن أتحدث عن شرق أوسط يعيش مرحلة التحوّل، من منطقة شكلتها القوى العظمى، إلى منطقة تعيد تشكيلها قوى الطبيعة. وما هو ملاحظ أن هذا التحول سيجبر كل زعيم على التركيز أكثر على بناء العلاقات المرنة، اللازمة للتكيف مع التغيرات البيئية، من أجل اكتساب الشرعية، بدلاً من اكتسابها من خلال مقاومة الأعداء القريبين والبعيدين. ما زلنا في بداية هذا التحول في النموذج الفكري؛ من المقاومة إلى المرونة، حيث بدأت المنطقة تصبح شديدة الحرارة، ومكتظة بالسكان، وتعاني نقصاً في المياه، بحيث لا يسمح لأي شكل من أشكال الحياة بالاستدامة.
والمزيد بهذه الخصوص، يمكن أن نختصره كما يلي: أولاً، دعنا نرجع لبايدن. لقد كان على حق: فإن وجود الولايات المتحدة في أفغانستان، والضمانات الأمنية الضمنية التي كانت توفرها أمريكا في كل أنحاء المنطقة، أدت إلى تحقيق الاستقرار، كما ساهم ذلك أيضاً في ظهور الكثير من التصرفات والسياسات الخاطئة، مثل مقاطعة بعض الدول في المنطقة لدولٍ أخرى، واحتلال بلدان، والمغامرات المتهورة، والتدخلات العسكرية الوحشية في المنطقة.
إن دعم الولايات المتحدة القوي لحلفائها التقليديين، بغض النظر عن سياساتهم الخاطئة، شجع البعض على الحصول على ما ليس في متناوله، دون خشيةٍ من العواقب. أتحدث هنا عن التدخل السعودي والإماراتي في اليمن، ومقاطعتهم لقطر، ومؤامرات تركيا المختلفة في ليبيا (أو ضد الكرد في سوريا والعراق)، والرفض غير المنطقي للحكومة الأفغانية المهزومة الآن للتفاوض مع حركة الطالبان، وقيام إسرائيل بتوسيع المستوطنات في عمق الضفة الغربية.
إن انسحاب الرئيس باراك أوباما من المنطقة، ورفض الرئيس دونالد ترامب الرد على إيران بعد الهجوم الذي تعرضت له منشأة نفطية سعودية رئيسية في عام 2019 بطائرات مسيرة، كلها كانت إشارات تحذير، تفيد بأن الولايات المتحدة قد سئمت من التدخل، ولعب دور الحكم في حروب الشرق الأوسط الطائفية، ثم جاء بايدن فأضفى صفة رسمية على ذلك.
وفي الوقت الحاضر، يمكن أن نشبه ما يجري بما يُذكر في أغنية أجنبية، حيث تقول: الجزء الأفضل في الانفصال هو المصالحة!.
ففي الأشهر الأخيرة، بدأت المملكة العربية السعودية في إصلاح علاقاتها مع إيران وقطر بعد القطيعة، وقامت بتقليص مشاركتها في اليمن. وانسحبت دولة الإمارات العربية المتحدة من الصراعات في ليبيا واليمن، وأصلحت علاقاتها مع إيران وقطر وسوريا. كان العراق يتوسط بين إيران والسعودية، ويدرك كلاً من الإمارات العربية المتحدة والسعودية بأنه مع انسحاب حليفتهم الولايات المتحدة، لا يمكنهم تحمل الأعمال العدائية مع إيران، ويدرك الإيرانيون بأنهم بحاجة إلى أكبر قدر ممكن من الانفتاح على العالم، في ظل استمرار العقوبات العديدة المفروضة على بلادهم. البحرين والإمارات العربية المتحدة، أقاما علاقة مفتوحة مع إسرائيل، في حين أن المملكة العربية السعودية أقامت علاقة سرية. في غضون ذلك، تعمل مصر وإسرائيل معاً لنزع فتيل التوتر مع حماس في غزة.
لكن للأسف، أصبح الانسحاب الأمريكي أيضاً بطاقة خروج مجانية من العزلة للرئيس السوري بشار الأسد، الذي كان منبوذاً منذ فترة طويلة، والمدعوم من إيران، والذي اُتهِمَ بارتكاب إبادة جماعية في قمع تمرد شعبه. لأول مرة منذ عقد من الزمان، تلقى الملك عبد الله ملك الأردن مكالمة هاتفية من الأسد مؤخراً. وذكر القصر الأردني في بيان له بأن الطرفين “بحثا العلاقات بين البلدين الشقيقين”.
تحاول مصر والأردن إبعاد سوريا والعراق، اللذان يمثلان دعامتان لنظام الدولة العربية، عن إيران الشيعية. ومصر أيضاً تريد تصدير غازها إلى لبنان، وتود الأردن إعادة العلاقات التجارية المربحة مع سوريا بسبب الضائقة المالية التي يعاني منها. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أخرجوا علاقاتهم مع تركيا من حالة الجمود العميق، على أمل إعادتها إلى الحظيرة الإقليمية، كقوة سنية موازنة لإيران.
لذلك، ربما تعتقد إيران بأن الولايات المتحدة ستبقي على العقوبات، ولكنها -أي أمريكا- فقدت أي استعداد للقيام بعمل عسكري، لكبح مساعي طهران لتخصيب ما يكفي من اليورانيوم، لتصبح دولة على عتبة امتلاك الأسلحة النووية.
يقول “مارتن إنديك”، مبعوث الولايات المتحدة لمدة طويلة في الشرق الأوسط، والذي يعد كتابه الجديد، بعنوان “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”، بأن “الولايات المتحدة لا تنسحب بالكامل، لكنها تتراجع، وجميع شركائها العرب السنة يعملون الآن لحماية أنفسهم -وتحقيق الاستقرار في المنطقة -في عصر لن تكون فيه الولايات المتحدة مهيمنة هناك”، الكتاب الذي يعد تاريخاً رائعاً لكيفية استخدام الولايات المتحدة صناعة السلام، لتحل محل الاتحاد السوفيتي كقوة أجنبية مهيمنة في المنطقة. مضيفاً “لكن ستظل الولايات المتحدة بحاجة لردع إيران، في حال طورت قدرتها النووية -ونزع فتيل صراعات أخرى.”
لكن القدرة على تشكيل هذه المنطقة تكون بأشكال عديدة.
وتماشياَ مع موضوع كتاب إنديك، سأقول بأنه مثلما حللنا محل السوفيتيين، بصفتهم القوة المهيمنة في المنطقة، فإن الطبيعة الأم تحل الآن محل أمريكا باعتبارها القوة المهيمنة.
في شرق أوسط الطبيعة الأم، لن يتم الحكم على أداء القادة، من خلال مقدار مقاومة بعضهم البعض أو القوى العظمى، ولكن من خلال مقدار المرونة التي يبنونها من أجل شعوبهم ودولهم، في وقت يتخلص العالم فيه من الوقود الأحفوري تدريجياً، وفي وقت يشهد فيه جميع الدول العربية والإسلامية زيادة في عدد سكان تحت سن ال30، مع تزايد التغير الذي يشهده المناخ.
في الآونة الأخيرة، ذكرت الأمم المتحدة بأن أفغانستان تعرضت لأسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 30 عاماً. إنها تسحق المزارعين، وتؤدي إلى رفع أسعار المواد الغذائية وتضع 18.8 مليون أفغاني -ما يقارب من نصف السكان -في حالة انعدام الأمن الغذائي، وتداعيات هذا الأمر برمته يقع على عاتق حركة طالبان الآن، وعليها تحمل مسؤولياتها.
شهدت إيران الصيف الماضي أعمال شغب مميتة، بسبب جفاف المياه في جنوب غربها، بالإضافة إلى الضغوطات التي تفرضها جائحة كورونا، ومن المتوقع أن يصبح مناخها أكثر سخونة وجفافاً. تحاول مصر مواجهة ارتفاع البحر المتوسط، الذي يدفع بمياه البحر المالحة إلى أنظمة الري في السلة الغذائية لدلتا النيل. في الواقع، يمكن نشوب حرب بين مصر وإثيوبيا، على خلفية احتجاز مياه نهر النيل بسبب السد الذي أقامته إثيوبيا عند المجرى الأعلى للنهر.
وقعت إسرائيل – مؤخراً – اتفاقية لمضاعفة المياه العذبة التي تزود بها الأردن، أحد أكثر دول العالم جفافاً. وقد تسبب رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بزوبعة نارية من خلال الادعاء-بشكل جنوني وبدون أي حقائق-بأن خَلَفَه، نفتالي بينيت، تعرض للخداع لأنه “في الوقت الذي يمنح الماء للملك عبد الله، فإن الملك عبد الله يمنح النفط -لمن؟ إلى إيران”.
هذه هي المرة الأولى في تاريخ اسرائيل، والتي ينتقد فيها نتنياهو منافسه، لتقديمه الكثير من الماء (مشكلة هذا العصر)، وليس الأرض.
في الواقع، قد يأتي ذاك اليوم الذي ستحتاج فيه الولايات المتحدة إلى العودة إلى الدبلوماسية الإسرائيلية-الفلسطينية النشطة، ليس على أساس الأرض مقابل السلام، ولكن على الشمس والمياه العذبة مقابل السلام. تضع منظمة “السلام البيئي في الشرق الأوسط” (EcoPeace Middle East) مثل هذه الاستراتيجية نصب عينيها، والتي سميت ب “الاتفاق الأخضر- الأزرق”، وهو تحالف يضم خبراء بيئيين إسرائيليين وفلسطينيين وأردنيين.
كيف سينجح هذا الأمر؟ أوضح لي “كيدون برومبرغ”، مدير منظمة “السلام البيئي في الشرق الأوسط” في إسرائيل. بأن الأردن، بمناطقه الصحراوية الشاسعة، يتمتع بميزة نسبية لإنتاج كميات كبيرة من كهرباء الطاقة الشمسية الرخيصة لتلبية احتياجاتها، والبيع للشبكات الإسرائيلية والفلسطينية أيضاً “لتوليد الكهرباء لمحطات تحلية المياه، التي يمكن أن توفر للأطراف الثلاثة المياه العذبة بوفرة.”
يمكن أن يوفر هذا النوع من دبلوماسية النظام الإيكولوجي، طريقة مستدامة للولايات المتحدة لإعادة الانخراط في شرق أوسط الطبيعة الأم: جميع الأطراف هناك مترابطة بيئياً، لكن لديهم ترابطات غير صحية بدلاً من تلك الصحية. يمكن لأمريكا أن تصبح الوسيط الموثوق به، الذي يصوغ ترابطات صحية، ليس كبديل عن اتفاق الأرض مقابل السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن كبديل ضروري لبناء الثقة.
أهلاً بكم في الشرق الأوسط الحقيقي الجديد، شرق الأوسط الطبيعة الأم.
…………………………………………………………………………………………………..
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية
مقال رأي ل توماس فريدمان: الحاصل على إجازة في الدراسات المتوسطية من جامعة برانديز، وعلى الماجستير في دراسات الشرق الأوسط الحديثة من جامعة أوكسفورد، وهو كاتب العمود المختص بالشؤون الخارجية في افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز. وقد انضم إلى الصحيفة في عام 1981، وفاز بثلاث جوائز بوليتزر. ومؤلف سبعة كتب، بما في ذلك “من بيروت إلى القدس”، والتي فازت بجائزة الكتاب الوطني.
ترجمة عن الانكليزية: مركز الفرات للدراسات – قسم الترجمة.[1]