نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين والعلاقة بينهم (49) – أسلاف الكورد: الميديون
د. مهدي كاكه يي
الحضارة الميدية (2)
على الرغم من قلة الآثار الميدية المُكتشَفة، إلا ان العاصمة الميدية (هكمتانه) لا تزال تحتفظ بِآثار ميدية كثيرة، تشهد على عظمة الحضارة الميدية. المدينة التأريخية للعاصمة الميدية تقع تحت التل المبنية عليه هذه المدينة التي كانت مدينة عظيمة بمقياس ذلك الزمن. كما أنّ تمثال (الأسد الصخري) الرابض في إحدى الساحات العامة بالمدينة، يُظهِر جانباً من الحضارة الميدية.
بُنيت العاصمة الميدية سنة 728 قبل الميلاد على يد مؤسس المملكة الميدية (دياكو) d
وتمت تسميتها بِ( جه مه زان)6 والتي تعني باللغة الكوردية (مكان الإجتماع)، وسُميّت أيضاً بإسم (هيكمەتانا)، إلا إنها إشتهرت أخيراً بإسم (أكباتانا)، وهذه التسمية أطلقها عليها اليونانيون. إشتهار المدينة بهذا الإسم يرجع الى أن معظم المصادر التي تتحدث عن الميديين، هي مصادر يونانية، مثل (هيرودوت) و(زينفون) وغيرهما. لقد جاء إسم العاصمة الميدية في الألواح الإيلامية أيضاً، وأنّ الاشوريين سموها (بيت دياكو) نسبة الى إسم مؤسس المملكة الميدية وباني عاصمتها. في الروايات الآشورية تمت تسمية العاصمة الميدية بِ(أمدانا) أيضاً، وفي الروايات الهيخامنشية جاءت بإسم (هنگمتانا Hangmatana).
تقع العاصمة الميدية في منطقة قريبة من مدينة همدان الحالية الواقعة شمال نهر نهاوند وشرق مدينة كرماشان. يقول المؤرخ اليوناني (هيرودوت) أن مدينة (هكمتانه) كانت مركزاً للامبراطورية الميدية، وبعد سقوط الميديين وإستلام الأخمينيين للحُكم، أصبحت مدينة (هكمتانه) عاصمة صيفية للمملكة الأخمينية.
تمّ بناء مدينة (هكمتانه) في هذه المنطقة نظراً لطبيعتها الساحرة، حيث تتواجد سلسلة جبال الوند المكسوة بالثلوج خلال فصل الشتاء، الى جانب وجود الأنهار والشلالات الكثيرة والمصايف الجميلة. قام (دياكو) ببناء المدينة فوق تلٍّ لتسهيل الدفاع عنها. كانت مدينة (هكمتانه) مدينة عظيمة، حيث كان طول محيط سورها الخارجي مساوياً لِطول محيط سور مدينة أثينا اليونانية وكانت محصنة تحصيناً قوياً من خلال إحاطتها بِسبعة أسوار دائرية، التي كانت ذات دوائر متتالية، يعلو كل سور الآخر بِشُرفات دفاعية محصنة. كانت جدران خمسة أسوار منها (الأسوار من الخارج نحو الداخل) مصبوغة بألوان مختلفة، حيث كانت جدران السور الخارجي بيضاء وجدران السور الذي يُليه كانت سوداء وجدران السور الذي بعدَه كانت بنفسجية وجدران السور الرابع والخامس كانت زرقاء و برتقالية اللون على التوالي، بينما كانت جدران السور السادس مطلية بالفضّة وجدران السور السابع (السور الداخلي) كانت مطلية بالذهب. في داخل السور الداخلي، تمّ بناء القصر الملكي ومعبداً رائعاً لِعبادة الشمس وبنايَتَين، إحداهما للإدارة والثانية للخزينة. كانت القصور التي بناها (دياكو) تحتوي على حوالي ألف غرفة. كان قصر الملك وخزانته يقعان في الطابق السابع ويحوي مائة غرفة. دعا الملِك (دياكو) مواطنيه الى بناء بيوتهم خارج القلعة وعلى أطرافها. في سنة 330 قبل الميلاد، في الموقع الذي تقع فيه العاصمة الميدية (إكباتانا)، تمّ قتل القائد العسكري المكدوني (پارمينيون Parmenion) بِأمرٍ من الأسكندر المكدونيe.
لاحقاً أصبحت (إكباتانا) عاصمة لملوك الپارثيين والتي خلال عهدهم تمت تسمية عُملتهم بإسم العاصمة الميدية (إكباتانا)، وكانت تتفرع منها عُملات نقدية أصغر إسمها (دراچم drachm) ذات فئة 1 دراچم وذات فئة 4 دراچم، بالإضافة الى مجموعات عُملات نقدية برونزية. لقد تمّ ذكر هذه العملة في التوراة بإسم (أچميثا Achmetha) وأيضاً مكتوبة (أهميثا Ahmetha) (عزرا 6.2). بالنسبة الى إستخدام العُملة النقدية (دراچم drachm) لأول مرة، يُحدّثنا (هيرودوت) في سرده لِتأريخ ظهور العُملات النقدية في العالم قائلاً بأنّ الليديين الذي كانوا يعيشون في آسيا الصغرى، إستخدموا (دراچم drachm) كعُملة نقدية خلال القرن السابع قبل الميلاد وأنهم أول شعبٍ إستخدم عُملات ذهبية وفضّية وقام بإنشاء حوانيت في مواقع ثابتة و أنّ اليونانيين تعلّموا إستخدام العُملات من الليديينf. في الحقيقة أنه عند أولى إبتكارات العُملة في العالم، كانت العُملات النقدية عبارة عن سبائك من الذهب والفضة مع كميات قليلة جداً من النحاس والمعادن الأخرى وكانت هذه العُملة تُسمّى (إلكتروم Electrom)g.
من الجدير بالذكر أنه الى وقتٍ قريب، كانت (دراخما Drachma) هي العُملة الرسمية في اليونان، إلا أنه عندما إبتكر الإتحاد الأوروپي عُملته النقدية والتي تمت تسميتها بإسم (يورو Euro) وتمّ إستخدامها كعُملة لِدول الإتحاد، قامت اليونان بِإلغاء العُملة اليونانية (دراخما) وإستخدام عُملة الإتحاد الأوروپي الموحدة (Euro)، حيث أن اليونان هي دولة عضوة في الإتحاد الأوروپي. كما أنّ العُملة العراقية (درْهَم) التي كانت متداولة في العهد الملكي، قد تكون لها علاقة أيضاً بِالعُملة الليدية (دراچم).
كان الفن متقدماً خلال فترة الحكم الميدي، حيث قام الميديون بإستخدام الرسوم والزخارف والكتابات على الألواح والجدران والقبور والأحجار والحديد والأنسجة. كما أنهم عرفوا خياطة الألبسة والغزل والنسيج والنقش على الخشب والحديد وصنعوا التماثيل وخاصة للآلهة وللمشاهير منهم. إكتشفت التنقيبات التي أُجريت في تل (هسار) الفن الميدي الرائع، حيث أنه تم العثور في كهفَين على نوع متقدم من الفن. الكهف الأول هو (كهف شهرزور) الذي يقع في محافظة السليمانية في جنوب كردستان ويضم قبر الملك (كَيخَسرَو) وكذلك يحتوي على رسومات عديدة تتناول مختلف جوانب الحياة السياسية. في هذا الكهف، تم العثور أيضاً على تمثال محفور على حجر لإنسانٍ له أربع أجنحة وعليه صورة كوكب الزهرة التي هي للإله (أناهيتا)، بالإضافة إلى صورة كاهن من الموغ (مجوس أو اليزدانيين) جالس أمام موقد نار. يقع الكهف الثاني في منطقة دوكان الواقعة في إقليم جنوب كوردستان أيضاً، حيث تم العثور فيه على قبر الملك الميدي (أستياگ) الذي كان آخر مَلِك ميدي ووجدت في هذا الكهف أيضاً رسوم عن الطبيعة وأشكالاً زخرفية للطبيعة على الصحون والكؤوس. إمتهن الميديون كذلك الزراعة وتربية الحيوانات وقاموا بِتدجينها و خاصة الحصان.
كان الميديون يهتمون بِتربية المواشي والخيول والجِمال. كانت الخيول الميدية من الخيول المشهورة في المنطقة بِجودتها وخاصة الأنواع البيضاء منها7، ولهذا السبب كانت المملكة الآشورية تأخذ الخيول الميدية من الميديين، كضرائب وجزية. كما أنّ الميديين كانوا يهتمون بالزراعة والتي كانت متطورة في عهدهم8.
يذكر نصٌّ بابلي الملِك الميدي (كَيخَسرَو) بإسم ملِك (أومانمانْده Ummanmande) والتي تعنيالقوة المُرعِبة، حيث يذكر دياكونوف بأنّ البابليين يطلقون هذا الإسم على الشعب الميدي9. كان الميديون يصنعون أسلحة حربية مثل القوس والنشاب والرماح والعربات الحربية10. يُشير (دياكونوف) الى شجاعة الميديين وكونهم كانوا يُشكّلون القوة الضاربة الرئيسية في جيش خشيارشاه11.
كان لإستخدام الميديين البارع للميليشيات أو القائمين بِحرب العصابات، دوراً كبيراً في توسيع إمبراطوريتهم والدفاع عنها. كانت تُسمى تلك الميليشيات ب (كاره Kara)، حيث تدل الكتابات المنقوشة في نصب (بيستون) في إقليم شرق كوردستان على ذلك. يعد ذلك أقدم سجل تأريخي لهذا النوع من الحروب، حيث أصبح منذ ذلك الوقت الأسلوب الحربي المفضل لدى الشعب الكوردي الى الآن للدفاع عن كوردستان.
لغة الكتاب الزردشتي المقدس (آڤيستا) قريبة من اللغة الميدية12، حيث أن زردشت إقتبس الكثير من مبادئ وفلسفة وطقوس دينه من الديانة اليزدانية التي كان الميديون يعتنقونها. كما أنّ الدين اليزداني أسهم بشكلٍ كبير في بلورة البُنية الفكرية والروحية للشعوب الهندو - الآريانية والشعوب السامية العائشة في الممالك المجاورة لمملكة ميديا.
المصادر
6. طه باقر واخرون (1979). تاريخ ايران القديم. جامعة بغداد،صفحة 40.
7. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 268.
8. دياكونوف (1998). ميديا. ترجمة وهيبة شوكت، دمشق، الناشر محمود أيوب، صفحة 137، 177، 178.
9. المصدر السابق، صفحة 83.
10. هيرودوت. تاريخ هيرودوت. صفحة 517.
11. دياكونوف (1998). ميديا. ترجمة وهيبة شوكت، دمشق، الناشر محمود أيوب، صفحة 412.
12. المصدر السابق، صفحة 68، 72، 146، 214، 272.
المراجع
d. Herodotus : the history of Herodotus . translated by Harry Carter ( London – 1962) book 1. Chapter 10.1, pages 96-101.
e. The Anabasis of Alexander; or, The history of the wars and conquests of Alexander the Great. Literally translated, with a commentary, from the Greek of Arrian, the Nicomedian, Published 1884.
f. Herodotus. Histories, I, 94.
g. Carradice and Price, Coinage in the Greek World, Seaby, London, 1988, p. 24
[1]