نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين والعلاقة بينهم (53) – الآشوريون.. اللغة والثقافة الآشورية
د. مهدي كاكه يي
الى ما قبل الألف الخامس قبل الميلاد، كانت المياه تُغطّي جنوب ميزوپوتاميا ولذلك كانت المنطقة غير مسكونة، بينما ِشمال ميزوپوتاميا (إقليم جنوب كوردستان الحالي) كان مأهولاً بالسكان بسبب إرتفاعه عن سطح البحر، حيث كان أسلاف الكورد الزاگروسيون يعيشون في هذه المنطقة على شكل جماعات، يسكنون الكهوف ويعتمدون في معيشتهم على الصيد وجمع الغذاء. مع تطور أدوات العمل، بدأوا بممارسة الزراعة وتأهيل الحيوان وتربية المواشي، الى جانب الصيد وقاموا ببناء القرى وإرتقت الثقافة فيه1. هذا يُشير الى أنّ الحضارة نشأت في كوردستان وفيما بعد، نقل السومريون حضارتهم معهم الى جنوب ميزوپوتاميا عند هجرتهم من كوردستان الى هناك بعد زوال المياه على سطحه وبروز اليابسة فيه.
في الحلقات السابقة، تمّ الحديث عن أنّه في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، هاجرت أقوام آرامية من جنوب بلاد ما بين النهرَين الى بلاد سوبارتو (جنوب كوردستان الحالي). بعد مرور حوالي 1000 سنة على تأسيس الدولة الآشورية من قِبل (شمشي أَدد الأول Shamshi- Adad 1) (1813 – 1781 قبل الميلاد)، أي في نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، كانت الأراضي التابعة للدولة الآشورية عبارة عن شريط ضيّق لا يتجاوز طوله 1600 كيلومتر، ولا يزيد عرضه عن 800 كيلومتر والى ذلك الوقت كانت القبائل الآرامية لا تزال تعيش في الخيام التي نصبتها في الممرّات الضيّقة في آشورa.
هكذا مرّ الآشوريون بِمرحلة مضطربة تقارب ألف سنة قبل تأسيسهم لدولتهم المستقلة. في البداية قاموا بإنشاء دويلات – مدن، يحكمها أمراء محليون2. كانت بلاد آشور حتى حوالي سنة 1100 قبل الميلاد، مؤلفة من عدة دويلات ضعيفة يتحكم بها أسلاف الكورد الزاگروسيين، حيث حكمَ أسلاف الكورد الزاگروسيون بلاد آشور لفترة طويلة من الزمن. الملك الآشوري (إشمي) الذي إستلم الحكم بعد الملك (شمشي أدد) الذي حكم من عام 1814 الى عام 1782 قبل الميلاد، إستطاع الإستمرار في حكم بلاد آشور، إلا أنه لم يستطع بسط نفوذه على شمال ميزوپوتاميا، حيث ظهرت في هذه المنطقة عدة سُلالات حاكمة من الخوريين، مثل أتَل شني3.
في الفترة الأخيرة للحُكم الآشوري تسلّم الساميون السلطة الذين كانوا يحملون ثقافة صحراوية قاسية، مبنية على الغزو والعنف ولذلك فرضوا طبيعة حربية في مملكة آشور والتي إنعكست على عقائد الآشوريين وعباداتهم الدينية وبدأت خلالها مرحلة الغزوات والحروب والتوسّع. كانت الصفة الحربية تغلب على آلهتهم، والتي تجسدت في كبير آلهتهم، الإله (آشور)، الذي كان إله الحرب، حيث يتجسد في صورة مُحاربٍ قاسي الملامح، يحمل عدّة حربية. وفي المرتبة الثانية تأتي زوجة (آشور) الإلهة (عشتار) في المنزلة الثانية، حيث أنّ صورتها ذات سمةٍ حربية، حاملةً السيف والقوس وواضعةً على كتفِها سهام مُعدّة للقتال. على سبيل المثال، خلال حُكم الملك الآشوري (آشور باليت الأول Assur ballet I) (1363 – 1328 قبل الميلاد) الذي كان ينتمي الى السلالة الأمورية، حصل تغيّر راديكالي في نظام الحُكم الآشوري، حيث تحوّلت آشور من دولة - مدينة تجارية مسالمة إلى عاصمة مملكة تمّ تأسيسها بإسم (مملكة آشور)، حيث تمّت عملية صهر سكّان أسلاف الكورد الأُصلاء، السومريين والسوباريين والگُوتيين والخوريين مع الأموريين. في هذا العهد بدأ إستخدام اللغة والكتابة الأكادية/البابلية، ومع ذلك فأنّ الأموريين تأثروا بحضارة السوباريين من لُغة ودين وعبادة الآلهة وإقتبسوا منهم الطقوس الدينية وأسماء بعض المواقع4. كما أنّ الثقافة الآشورية المبكرة ورثت الثقافة السوبارية وخلّفتها. إسم الإلهة (عشتار إيشتار) مُقتبَسٌ من إسم الإلهة السومرية – الگوتية (إينان). يذكر المؤرخ الروسي (صلوات گولياموف) أنه من الممكن جداً أن يرجع إسم الإلهة (إيشتار) الى الكلمة الهندو – الآرية (إيش – تار)، حيث أن كلمة (إيش) تعني (إله) وكلمة (تار) تعني (نجمة) وبذلك (إيشتار) تعني (إلهة النجوم)5. (إلهة النجوم) هي كوكب الزهرة وعند الرومان هي إلهة الحب والجمال ڤينوس. لا تزال كلمة (إيشتار) حيّة في اللغة الكوردية، حيث أنها تحوّرت الى (أستير) والتي تعني (نجمة).
كما أنهّ بِحلول منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أصبحت مملكة آشور تابعة للميتانيين و جزءاً من الإمبراطورية الميتانية لحوالي 140 عاماً (1500 – 1360 قبل الميلاد)، حيث قام الملك الميتاني (ساوشتّار Saushshattar) إبن (پارساشتّار Parsashatar) بإخضاع الآشوريين لِحُكمه6. خلال فترة خضوع آشور لِلحُكم الميتاني، سمِح الميتانيون أن تحتفظ آشور بنظامها الملكي خلال فترة تبعيتها للإمبراطورية الميتانية7، إلا أنّ الملوك الآشوريين كانوا ملوكاً بالإسم فقط، حيث أنهم كانوا أتباعاً للملوك الميتانيين. خلال فترة الحُكم الميتاني لِآشور، كان الملوك الآشوريون، آشور رابي وآشور نيراري الثالث وآشور بيلنيشيشو وآشور ريمنيشوشو، يحكمون آشور8.
في المنطقة الصغيرة نسبياً التي عاش فيها السومريون والسوباريون والخوريون الزاگروسيون والمهاجرون الأموريون والكلدانيون مع البعض لفترة طويلة جداً، إمتدت لأكثر من أربعة آلاف سنة وخلالها إنصهر الأَموريون الساميون في أسلاف الكورد الزاگروسيين الذين هم السكان الأصليون لِكوردستان، نتيجة الإختلاط والتزاوج، حيث على سبيل المثال، يذكر عالِم الآشوريات البريطاني الپروفيسور (هاري ساغزHarry Saggs) أنّ أحد أحفاد (شمشي أَداد) تزوّج سيّدةً أو أميرةً من إحدى القبائل القوية والتي اسمها يدلّ على أنها كانت فتاةً خوريةً9. كما أنّ الملك الآشوري (آشور أوبلاط الأول) أقدم على الزواج من إبنة الملك الكاشي الذي كان يفرض نفوذه على بابل10.
هذا الإنصهار الإثني للمجموعات العِرقية، خلقت لغةً وثقافةً موحّدة وديناً مشتركاً، كما مرّ في الحلقات السابقة من هذه السلسلة من المقالات، حيث أنّ الآشوريين تبنّوا الإله السوباري (آسور) كإلهٍ خاصٍ لهم و إستمدوا إسمهم وإسم دولتهم (آشور) من إسم هذا الإله السوباري.
يذكر الپروفيسور جمال رشيد أحمد أن اللغة التي دوّنت بها لوحات الملوك الأشورية، مكتوبة باللغة الميتانية التي هي لغة كوردية قديمة. يستطرد الپروفيسور جمال رشيد أحمد في حديثه قائلاً أنّ أغلب مفردات اللغة الميتانية التي كُتبت بها لوحات ملوك الآشوريين تُستعمل الآن في اللغة الكوردية الحالية وعلى نطاق واسع11. كما أنه من الجدير بالذكر أن الكورد هم أصحاب التراث اللغوي والتأريخي لسكان هذه المنطقة. كتابة لوحات ملوك الآشوريين باللغة الميتانية تُثبت حقيقتَين أساسيتَين، هما أن اللغة الميتانية كانت لغة الملوك الآشوريين و أن أسلاف الكورد كانوا يهيمنون على الحُكم الآشوري، وخاصة في الفترات المبكرة للدولة الآشورية، قبل هيمنة الأموريين على الحُكم التي حصلت في الفترات المتأخرة من عُمر الدولة الآشورية وهذا ما سيتم الحديث عنه بالتفصيل في حلقة مستقلة قادمة.
هكذا إستوعبت اللغة الآشورية كلماتها من لغات الأقوام الزاگروسية، وخاصة السوبارية والسومرية والكاشية والخورية بالإضافة الى اللغة الأكادية، حيث أنّ اللغة الآشورية هي خليط من اللغات الزاگروسية والسامية، تحوي الكثير من مفردات اللغات الكاشية والسومرية والخورية والأكادية.
كانت الكتابة المسمارية هي كتابة الآشوريين التي كانت تُكتب علي ألواح الطين، وكانت علومهم مرتبطة بالزراعة ونظام العد الحسابي السومري الذي عُرف بنظام الستينات. كانوا يعرفون كذلك أن الدائرة 60 درجة، كما أنهم عرفوا الكسور والمربع والمكعب والجذر التربيعي، وتقدموا في الفلك وتمكنوا من حساب محيط خمسة كواكب، وكان لهم تقويمهم القمري. قاموا بِتقسيم السنة الى أشهر والشهر الى أيام، وكان اليوم عندهم يساوي 12 ساعة والساعة تساوي 30 دقيقة.
يذكر الدكتور بهنام ابو الصوف أنّ مَن كان يتكلم ويتعامل باللغة الاشورية، لغة الحاكمين في الإمبراطورية الاشورية و في كل بلاد الرافدين وأطرافها الشمالية والجبال وشمالي سوريا، قد إنقرضوا تماماً في مطلع القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد وما بعدهما حتى مجئ المسيحية الى هذه البلاد بعد إنتشارها في بلاد الشام أولاً. يستطرد الدكتور ابو الصوف في حديثه قائلاً بأنّه في القرن الأول الميلادي، كانت اللغتان السائدتان هما الآرامية في بلاد الشام مع اليونانية (لغة المنتصرين في اليونان - بعد الاسكندر المكدوني) و اللغة الپهلوية في شرقي بلاد ما بين النهرَين وبلاد إيران الحاليةb.
ملاحظة: الرابط هو ڤيديو يحتوي على أنشودة خورية ألّفها أسلاف الكورد الخوريين قبل أكثر من 3400 سنة. أأمل أن تستمتعون بها خلال إستماعكم لها.
http://static.alarab.net/MMS_Files/MP3/mp3_files//M/Malek%20Jandali/Echoes%20From%20Ugarit/Alarab_Malek%20Jandali%20-%20Echoes%20From%20Ugarit.mp3
المصادر
1. برهان الدين دلّو. حضارة مصر والعراق. الطبعة الثانية، 2014، صفحة 237.
2. الدكتور فرج بصمه جي. دليل المتحف العراقي. مطبعة الحكومة، 1960، صفحة 31.
3. جرنوت فلهلم. الحوريون تأريخهم وحضارتهم. ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، عام 2000 م، صفحة 44.
4. طه باقر. مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. الجزء الأول، بغداد، 1973، صفحة 77.
5. صلوات گولياموف. آريا القديمة وكوردستان الأبدية (الكرد من أقدم الشعوب). ترجمة د. اسماعيل حصاف، متابعة وتدقيق مارگريت حصاف، مطبعة رۆژهەڵات ،هەولێر، الطبعة الأولى، 2011، صفحة 64.
6. جرنوت فلهلم. الحوريون - تأريخهم وحضارتهم. ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، عام 2000 م، صفحة 62.
7. المصدر السابق، صفحة 35.
8. الدكتور جمال رشيد احمد. ظهور الكورد في التأريخ. الجزء الثاني. دار ئاراس للطباعة والنشر. اربيل 2003، صفحة 251.
9. هاري ساغز. عظمة آشور. ترجمة وتحقيق خالد اسعد عيسى وأحمد غسان سبانو، 2011.
10. الدكتور عبد الحميد زايد. الشرق الخالد (مقدمة في تاريخ وحضارات الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967.
11. الدكتور جمال رشيد أحمد. دراسة لغوية حول تأريخ بلاد الكورد، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980، صفحة 99.
المراجع
a. Georges Roux. Ancient Iraq. Penguin books, third edition, 1992, page 282.
b. http://saotaliassar.org/01012013/BahnamAbuAlSuuf01.htm
[1]