الفيليون: أصالة و عَراقة و هموم و آمال (1)
د. مهدي كاكه يي
كان من المقرر أن تكون هذه المقالات جزءً من مشروع أكبر و أوسع، يتناول الواقع الكوردي في إقليم جنوب كوردستان، إلا أنني إرتأيت نشر هذا الجزء بشكل مستقل و باللغة العربية، حيث أنني أنوي نشر الأجزاء الأخرى من هذه الدراسة باللغة الكوردية، لذلك قررتُ كتابة هذا الجزء باللغة العربية، حيث أن غالبية الفيليين لا يجيدون القراءة و الكتابة بلغتهم الأم. كما أنني أشعر بأن غالبية كتاباتي تخاطب الجمهور الكوردي أكثر مما تخاطب الجمهور العربي، و أن الجيل الكوردي الناشئ لا يجيد اللغة العربية، و التي تًحتّم إيصال آرائي و أفكاري إلى قُرّاء الكوردية، و خاصة تلك الآراء و الأفكارالتي تتناول الشئون الكوردستانية الخاصة، و في نفس الوقت سأستمر في الكتابة باللغة العربية للتواصل مع قُرّاء العربية.
في هذه السلسلة من المقالات سأتحدث عن الفيليين في سياق تعريفين مختلفين لهم. التعريف الأول للفيليين يتم من خلال مفهوم تأريخي للسكان الكورد الذين تُطلق عليهم هذه التسمية و الذين يُشكّلون في هذه الحالة جميع الكورد القاطنين في المناطق السهلية ضمن الحدود التأريخية لكوردستان. حديثي عن الفيليين ضمن هذا التصنيف سيقتصر على الجانب التأريخي القديم و متابعة التغييرات السياسية الحاصلة لهم بعد إختفاء الدولة السومرية التي كانت تجمع شملهم. بعد ذلك أتحدث عن الفيليين ضمن تصنيف آخر مختلف و الذي يتم على أساس الواقع الحالي لهم، بعد تشتتهم، و الذي على ضوئه يتشكل الفيليون من الشريحة الكوردية التي تعيش خارج إقليم جنوب كوردستان و التي تتضمن التجمعات السكانية التي تعيش في العراق و في المهجر.
أ. لمحات من تأريخ الشريحة الَفيلية
قبل التحدث عن الموضوع، أحب أن أشير الى أنني لستُ مؤرخاً، و إنما أستعين بكتب التأريخ و بنتائج عمليات الإستكشافات لأضع قسماً من التأريخ الكوردي أمام القُرّاء الأعزاء بشكل موضوعي و بأمانة، بعد أن حجبه الأعداء و منعوا نشره لحرمان الكورد بشكل خاص و العالم بشكل عام من الإطّلاع على التأريخ العريق للكورد. كما أود أن أذكر بأن البحث في التأريخ الكوردي القديم تعترضه صعوبات كبيرة نتيجة قيام الشعوب المحتلة لكوردستان بسرقة و تزوير و تشويه التأريخ الكوردي بشكل بشع و فظيع، مما يتطلب الكثير من الجهد و الوقت للقيام بدراسات علمية في هذا المجال. هذا الإنكار لعَراقة الشعب الكوردي، يجعل الطريق أمام المؤرخين شائكاً و مليئاً بالصعوبات للوصول الى كشف الحقائق التأريخية حول الشعب الكوردي. الغالبية العظمى من المصادر التأريخية حول الكورد و التي تعود الى مؤرخين عرب و ترك و فرس، هي مصادر غير موثوقة، حيث تفتقر الى الموضوعية و الأمانة العلمية. إنّ تلك (الدراسات) مُسَيّسة و قائمة على العنصرية و العمل على إلغاء التأريخ الكوردي و طمس معالمه و سرقته. لذلك يجد المؤرخ نفسه أمام صعوبات كبيرة في بحثه عن مصادر تأريخية موثوقة و أمينة حول الكورد و غالباً ما يضطر الى الإلتجاء الى المصادر الغربية و الإستعانة بنتائج بحوث الغربيين لضمان أصالة المصادر التي يعتمد عليها.
يمكن ملاحظة التأثير السلبي لتزييف و سرقة التأريخ الكوردي من قِبل المؤرخين الترك و العرب و الفرس العنصريين، على الشعوب العربية و التركية و الفارسية، حيث أن تزييف التأريخ و الإدّعاء بوجود حضارات عريقة و فريدة لكل من الفرس و الترك و العرب، دون الشعوب الأخرى القاطنة في المنطقة منذ عشرات الألاف من السنين و القيام بإلغاء تأريخ تلك الشعوب الأصيلة من جهة و الحديث عن المنجزات الحضارية و التأريخية للشعوب الفارسية و العربية و التركية، و إخفاء الجوانب السلبية من مظالم و إخفاقات و بطش دولهم من جهة ثانية، أدت الى كارثة حقيقية تجابه هذه الشعوب. من جهة، تُلقّن كُتُب التأريخ الأجيال الفارسية و العربية و التركية بعظمة حضاراتها و المنجزات العظيمة التي قدمتها شعوبها لخدمة الإنسانية و الكمال الذي كانت حكومات تلك الشعوب تتصف به، حيث الإنجازات و العصور الذهبية الخالية من إخفاقات و سلبيات خلال المراحل التأريخية التي مرت بها، بينما من جهة ثانية، ترى الأجيال العربية و التركية و الفارسية تعيش في ظروف بائسة من تخلف و تأخر و فقر و مرض و جهل و ترى أن العديد من شعوب العالم أكثر تقدماً منها، بل تجاوزتها الدول المتقدمة بقرون. هذه الحالة جعلت هذه الشعوب أن تترك الحاضر و المستقبل و تعيش مع سراب الماضي و الحنين الى عودة عهود العصور الذهبية لحكمهم. كما خلقت هذه الحالة إزدواجية خطيرة في شخصية الإنسان العربي و التركي و الفارسي و التي جعلت من هذه الشعوب أن تشعر باليأس و الإحباط الذي يدفعه الى الكراهية و العنف و الإرهاب و التمرد و إلغاء الآخر و رفض الرأي الآخر. في رأيي، أن هذا العامل هو أحد العوامل المهمة المؤدية الى حالة الإرهاب و العنف و العنصرية المنتشرة بين الشعوب الفارسية و العربية و التركية التي نراها في الوقت الحاضر.
إن إهتمامي بتأريخ هذه الشريحة الكوردية يهدف الى تسليط الضوء على جانب من جوانب التأريخ الكوردي الذي حاول و يحاول أعداء الشعب الكوردي طمسه و سرقته و تشويهه. كما ترمي هذه الدراسة الى تبيان أصالة و عراقة الشعب الكوردي و عمق جذوره في المنطقة، الذي يبدأ قبل نشوء التأريخ نفسه. الهدف الثالث لهذه السلسلة من المقالات هو تعريف الفيليين بتأريخهم، الذي من المؤسف القول بأن معظمهم يجهلونه بسبب حجبه من قِبل محتلي كوردستان عن الشعب الكوردي و منع هذا الشعب من التعرف على تأريخه العريق. كما أرمي من وراء هذه الكتابة الى إعلام الفيليين بأنهم أصحاب إمبراطوريات عظيمة و حضارات عريقة و أن الأرض التي يعيشون عليها هي موطن آبائهم و أجدادهم و تمتد جذورهم في أعماقها منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، حيث أنهم أحفاد العيلاميين و السومريين و الميديين. عليهم أن يعرفوا بأن حضارتهم هي أصل الحضارات الإنسانية و أن أجدادهم السومريين هم أول مَن إبتكروا الكتابة و اللغة و الأرقام و أن يفتخروا بأن اللغة الإنكليزية التي أصبحت اليوم لغة العلم و و التفاهم و الإقتصاد و الكومبيوتر و الإعلام، التي هي اللغة العالمية الأولى بلا منازع في الوقت الحاضر، قد أخذت أكثر من 75% من مفرداتها من اللغة السومرية. من هنا يجب أن يعي الفيليون بأنهم ينتمون الى أمة عريقة لا تقل شأناً عن الأمم الأخرى و أنهم يعيشون على أرض آبائهم و أجدادهم و أنهم ليسوا بحاجة الى الحصول على تزكية و شهادة من أية جهة أو سلطة لإثبات أصالتهم في المنطقة و إمتداد جذورهم في أعماقها. على الغرباء الطارئيين على المنطقة أن يلتجئوا الى الفيليين لمنحهم شهادة المواطنة. آن الأوان للفيليين أن يتعرفوا على أنفسهم و يثقوا بأنفسهم و أن لا يرتضوا أبداً أن يكونوا فروعاً أو توابع لأحد لأنهم شريحة من شعب عريق. عليهم أن يجدوا مكانهم الطبيعي في صفوف شعبهم الكوردي و أن يحتلوا مواقعهم اللائقة بهم في المجتمع الكوردستاني في كافة مناحي الحياة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و الفنية. كما أود هنا أيضاً أن أشكر صديقي السيد محمد مندلاوي على مساعدته القيّمة لي في ترجمة نصوص المصادر الفارسية التي إعتمدتُ عليها في كتابة هذه الدراسة و بمساعدته تم نقل الحقائق في تلك المصادر بدقة و أمانة.
1. العيلاميون
قمت بالتطرق الى الحضارة السومرية في مقالتي المعنونة الفيليون هم السكان الأصليون لبلاد ما بين النهرين، حيث يمكن للقارئ أن يطلع عليها لمعرفة جانب من تأريخ هذه الشريحة الكوردية. العيلاميون ينتمون الى القبائل الكَوتية الكوردية و التي هي أقوام آرية قادمة من جبال زاكروس، التي كانت الموطن الأصلي لهم، كما يذكر العالم (هينز). هاجروا من جبال زاكروس الى منطقة الأهواز، حيث السهول الخصبة، و إستقروا هناك و إكتشفوا الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، حيث إستطاعوا بناء إمبرطورية كبيرة و قوية، ذات حضارة متقدمة قبل حوالي 5000 عام. كانت مدينة سوسة (شوش) مركزاً للعيلاميين، وكذلك مركزاً لتجارة بلاد ما بين النهرين. من خلال الحفريات التي قام بها فريق أمريكي لعلماء الآثار بقيادة الدكتور ( زامبز)، إكتشف الفريق خلالها آثار مدينة إنشان أو إنزان العيلامية والتي كانت تعد مركزاً لإحدى الأقاليم الاساسية لبلاد عيلام.
عندما كانت مملكة عيلام في أوج قوتها، كانت تضم اجزاءً من بلاد ما بين النهرين وشرق ايران، حيث كانت حدود الدولة العيلامية تمتد من أصفهان شرقاً وضفاف نهر دجلة غرباً والخليج جنوباً والطريق الموصل بين بابل وهمدان شمالاً. في زمن الملك كوير نهونته تمكن العيلاميون من الإستيلاء على بابل وإنهاء حكم الكيشيين ونصب إبن الملك كوير نهونته ملكاً على بابل، و الذي تم في عهده نقل أجزاء من مسلة حمورابي إلى مدينة شوش (سوسه).
يذكر البروفيسور (بوردا)، أنه نتيجة رُقي الحضارة العيلامية، فأن جوانب عديدة من حياة الامبراطورية الإخمينية، مثل شكل الألبسة وكيفية إدارة الدولة، قد تأثرت بالحضارة العيلامية، لدرجة أن الأخمينيين إستخدموا الأبجدية العيلامية. لغة العيلاميين تُسمى بلغة (اليافتي) و كانت لغة التحادث، الا انه مع ظهور الأبجدية، اصبحت اللغة والأبجدية العيلامية أكثر تطوراًً.
العيلاميون كانوا يسمّون (عيلام) بإسم هلتمتي TAMTI – HAL أو هاتمتي HATAMTI. الكلمة مركبة من مقطعين هما (هل) و الذي يعني ( الارض) و (تمتي) التي تعني ( المقدس) أو ( الآلهة)، و هكذا تعني هلتمتي (عيلام) الأرض المقدسة أو أرض الآلهة. تذكر مصادر أخرى بأن عيلام كانت تعني عند العيلاميين دولة سعيدة. كان هذا الإسم يُكتب بالخط السومري NIMKI. هذا الإسم يُلفظ (MA) ELAM باللغة السومرية و ELAMTU باللغة الأكدية، بينما الفرس كانوا يطلقون عليه إسم AJU، حيث أن إسم خوزستان متأتي من الإسم المذكور. في اللغة الأكدية تعني عيلام البلاد التي تقع في الاراضي المرتفعة و تعني أيضاً الاراضي المرتفعة. وُجد إسم عيلام لأول مرة على إحدى الرقع السومرية حيث يُذكر ان ملك السومريين (انمباركسي) قد غنم في حروبه مع العيلاميين الكثير من الاسلحة والغنائم.
الى يومنا الحاضر تحتفظ اللغة الكوردية بكلمات تحتوي على كلمة هل HAL، محافظة على معناها العيلامي الدال على الإرتفاع و الصعود. من الأمثلة على تلك الكلمات هي هَلبَركي -الرقص و هَلبَست - شعر، هَلو – النسر، هَلسان – القيام، هَلكَوت – ظاهر أو بارز، هَلات – ظهور أو بزوغ أو شروق، هَلهاتن – الهرب، هَلمت –الهجوم، هَلهَلَ – هلاهل، تيهَلدان – الضرب الخ). نرى أن معاني تلك الكلمات الكوردية الملحقة بها مقطع هَل كلها يدل على لإرتفاع، سواء عن طريق الحركة أو الصوت أو الرُقي و المنزلة. كما أنه من المرجح جداً أن كلمات عربية، مثل هلال و هلاهل و غيرها هي مأخوذة من اللغة العيلامية أو من اللغة الكوردية خلال التواصل بين حضارتيهما بعد إنقراض الدولة العيلامية.
دولة عيلام كانت تشمل كلاً من خوزستان و لورستان الحالية و بشتكوه و جبال بختياري (جميع هذه المناطق تقع ضمن كوردستان)، حيث كان يحدّها من الغرب نهر دجلة و من الشرق محافظة شيراز الحالية و من الشمال جبال بختياري و من الجنوب الخليج الفارسي. في الفترة التي كانت الإمبراطورية العيلامية في عنفوان قوتها، كانت المملكة تشمل على رقعة واسعة ذات حدود مترامية، تتكون من منطقة جبلية و أخرى سهلية. القسم الجبلي كان يقع في شرق البلاد و كانت مدينة NAZNA مركز هذه المنطقة، بينما القسم السهلي كان مؤلفاً من غرب عيلام و كانت مدينة شوش مركزاً له.
العيلاميون الكورد كان لهم كيانهم المستقل في الفترة ما بين سنة 2950 و 650 قبل الميلاد. بنى العيلاميون مدينة (سوسه) على نهر كارون. العيلاميون قاموا بإحتلال بلاد سومر و بابل لفترة من الزمن. تعلموا الكتابة من السومريين الذين كانوا من الأقوام الآرية أيضاً. كان العيلاميون من عبدة الطبيعة، وخاصة الشمس، بينما كان الآشوريون والبابليون من عبدة الأصنام.
كان نظام الحكم في الإمبرطورية العيلامية نظاماً فيدرالياً و مراكز المدن الكبرى كانت تُدار من قِبل حكومات مستقلة، إلا أن الحكومة المركزية كانت تقوم بإخضاع الحكومات المحلية لسيطرتها عندما تكون قوية. الأسرة الحاكمة لمملكة عيلام كانت من مدينة آفان AVAN التي إستمر حكمها من حوالى سنة 2500 ق.م. الى سنة 2200 ق.م. العلاقات التي كانت تربط مملكة عيلام بالدول القوية المجاورة لها، مثل سومر و أكد و لاحقاً بابل و آشور، كانت علاقات خصام و وئام، تبعاً لمدى تلاقي و تنافر مصالحها مع جيرانها و تبعاً لميزان القوى في المنطقة. هذه العلاقة ساهمت في بناء حضارة مزدهرة في المنطقة التي تدل عليها الآثار التي خلفتها هذه الشعوب وراءها.
عند بزوغ قوة بلاد أكد في حوالي سنة 2550، وقع قسم كبير من بلاد عيلام تحت الإحتلال الأكدي و الذي أدى الى سيادة و هيمنة اللغة و الكتابة الأكدية في دولة عيلام. هجوم الكوتيون في حوالي سنة 2120 ق.م. في بلاد ما بين النهرين أدى الى إضمحلال نفوذ و هيمنة الدولة الأكدية. نتيجة هذا الهجوم، قام ملوك سومر في أور بتوسيع رقعة سيطرتهم في عيلام، التي كانت آنذك تحكم بعض أجزاءها أسرة السيمشكي SIMISHKI و أصبح حكمها تحت الوصاية السومرية. في سنة 2006 ق.م. هاجم العيلاميون مدينة أور و أخضعوها لسيطرتهم و عندها تمكنوا من التمتع بالإستقلال لفترة من الزمن، إلا أن الصراع الطويل و المرير بين العيلاميين و السومريين كان عائقاً أمام العيلاميين لتحقيق أهدافهم. بعد ظهور الدولة العمورية في بابل، إضمحلت سلطة سومر و أصبح العيلاميون و البابليون نداً للآخر. في عهد الملك البابلي، حمورابي (1750 - 1792 ق.م.) إستطاع البابليون فرض سيطرتهم على عيلام. في حوالي سنة 1700 ق.م. رفض الملك العيلامي كوير نهونته النفوذ البابلي و قام بهجوم كاسح على مملكة بابل و التي إستطاع خلالها أن يحتل مدن بابلية عديدة. الحكم الكيشي في بابل و في بلاد ما بين النهرين (1595 -1160) كان يُشكّل تهديداً مستمراً للعيلاميين و سبباً لقلقهم و شعورهم بفقدان الأمن و الإستقرار في بلادهم. بعد إنحطاط الدولة البابلية عادت الإزدهار الى دولة عيلام و إستطاعت إعادة أمجادها و عظمتها و التي قادت الى إنعكاسات تأريخية كبيرة في تأريخ الدولة العيلامية، حيث أن ملوك عيلام تمكنوا خلال تلك الفترة الزمنية من بسط نفوذهم على الأقسام الشرقية و الغربية من بلادهم، التي كانت تشمل كلاً من مدينة إنشان و شوش على التوالي. كان القرن الثالث عشر قبل الميلاد عصراً ذهبياً في حياة الدولة العيلامية، حيث إستطاع حكام عيلام من إيصال بلادهم الى أوج عظمتها.
في سنة 1160 ق.م. أفلح ملك عيلام كوتير نهونته NAHHUNTE - KUTIR في إنهاء سلطة ملوك الكيشيين في بابل و بسط سيطرته على بابل و جعلها تابعة لإمبراطوريته وتم نقل الأشياء النفيسة و المقدسة من معابد بابل الى شوش. كان من بينها نفائس فنية رائعة مثل مسلة الملك الأكدي (مانشتوسو) و مسلة إبنه (نرام سين) كما أخذوا بعض النسخ الحجرية لمسلة حمورابي. بعد عودة كوتير نهونته إلى عيلام، نصب إبنه حاكماً على بابل ولكن أحد الأمراء البابليين واسمه (إنليل اخي) ظل يقاوم القوات العيلامية لمدة ثلاث سنوات، وفي عام 1157 ق. م. غزا العيلاميون بلاد بابل بقيادة ملكهم (شيلاك انشوشناكو). أخذ العيلاميون ضمن غنائمهم تمثال الإله (مردوخ) بعد إنسحابهم و تركوا هناك حامية عسكرية، إلا أن الملك البابلي (مردوخ كابت أخيشو) قام بطرد الحامية المذكورة التي خلفها العيلاميون بعد انسحابهم من بابل. يبدو أن العيلاميين لم يتمتعوا بالقوة الكافية آنذاك للقيام بعمل عسكري مضاد للسيطرة على بابل من جديد. في عهد الملك سيلهك إينشوشينك (1165 - 1151 ق.م.)، قام العيلاميون بفتوحات عديدة في مناطق مختلفة، حيث عبرت طلائع العيلاميين منطقة ديالى من الشمال و وصلت الى منطقة كركوك الحالية و تم إستبعاد الآشوريين من المنطقة و إبعادهم عن ضفاف نهر دجلة. القسم الأعظم من سواحل الخليج الفارسي و سهول غربي جبال زاكروس تم إحتلالها من قِبل العيلاميين و أصبحت الدولة العيلامية لأول مرة بهذه السعة و العظمة. ساهمت هذه الإنجازات العسكرية و السياسية في إزدهار الواقع الثقافي للعيلاميين و أدت الى رفضهم للثقافات الأجنبية الدخيلة و التي كانت مفروضة عليهم و بذلك إزدهرت و تطورت اللغة و الكتابة العيلامية و كذلك إزدهرالفن و الهندسة المعمارية، خاصةً في منطقة شوش.
في زمن الملك نبوخذ نصر الأول، تمكن هذا الملك من بناء جيش كبير و قوي و كانت معنويات البابليين مرتفعة، بينما كانت عيلام تعيش في حالة من الفوضى في أعقاب حكم ملكها شيلاك أنشوشناك، مما جعل المسرح السياسي مهيئاً أكثر من أي وقت مضى لقيام البابليين بأخذ الثأر من العيلاميين الذين خربوا معابدهم وسلبوهم أقدس ما عندهم وهو تمثال الإله مردوخ الذي كانوا قد أخذوه معهم إلى مدينة سوسة شوش.
بعد أن إستعادت بابل قوتها في حوالي 1110 ق.م.، دخل العيلاميون في صراع طويل مع البابليين في عهد ملكهم نبوخذ نصر. قام نبوخذ نصر الأول بوضع خطة للتخلص من التهديدات التي كان العيلاميون يُشكّلونها على البابليين ولإعادة تمثال الإله مردوخ إلى مكانه ا لسابق في معبد (آي ساكيلا) الواقع في بابل. قام نبوخذ نصر الأول بحملة عسكرية ضد الدولة االعيلامية، سالكة الطريق التقليدي إلى بلاد عيلام مروراً بمدينة (دير) القريبة من مدينة بدرة، إلا أن حملته هذه فشلت. تقهقر قوات نبوخذ نصر الأول كان يعود الى تفشي الوباء بين قواته العسكرية بعد وصول هذه القوات إلى نهر الكرخة، فتراجعت إلى مدينة (كار دور آبل سين) الواقعة في شرق نهر دجلة، لكنها إضطرت الى الإنسحاب من هذه المدينة أيضاً.
بعد فشل الحملة العسكرية البابلية على بلاد العيلاميين، إستمر العيلاميون في تهديد الأراضي البابلية. بعد أن إعتقد الملك البابلي نبوخذ نصر بأن الآلهة ستقوم بمساعدته للإنتصار على العيلاميين. جمع قوة عسكرية كبيرة لشن هجوم آخر على العيلاميين لتخليص البلاد من التهديد العيلامي، فجمع الكثير من العربات الحربية و كوّن قوة كبيرة زحف بها على العاصمة العيلامية سوسة في هجوم مباغت فاجأ به العيلاميين و الذي إستطاع خلاله من الإستيلاء على بلاد عيلام بعد أن إضطر ملك عيلام الى الفرار، حيث قام البابليون بنهب عيلام و فرض الأتاوى على العيلاميين.
ظهور دولتين قويتين في بلاد ما بين النهرين، دولة آشور من الشمال و دولة بابل من الجنوب، أدت الى نشوب صراعات مريرة بين هاتين الدولتين العظمتين في منافسة للحصول على النفوذ و السيطرة و الغنائم. في سنة 710 ق.م. دخل الملك الآشوري سركون في حرب مع البابليين، إضطر الملك البابلي على أثرها الى الإلتجاء الى عيلام و بمساعدة العيلاميين، إستطاع الملك البابلي كسر شوكة الآشوريين. في فترة حكم الملك الآشوري سنحاريب، كان العيلاميون و الآشوريون في صراع مستمر للسيطرة على بابل، إلا أن هذا الصراع لم يؤدِ الى أية نتيجة تُذكر. في النهاية، في سنة 689 ق.م. إستطاع الآشوريون إخضاع بابل و السيطرة عليها. في سنة 653 ق.م. نشب صراع مصيري بين جيش الملك الآشوري آشور بانيبال و جيش الملك العيلامي سميتي هومين إينشوشنيك. إنتهى هذا الصراع الى سقوط عيلام و قيام الآشوريين بتدميرها و نهبها و إبادة سكانها. لم تقُم بعد هذا التأريخ أية قائمة لدولة عيلام و بذلك إختفت عيلام كدولة موحدة.
بالرغم من تلك المذابح التي تعرض لها العيلاميون على يد الآشوريين، إلا أن العيلاميين إستطاعوا بعد ذلك تأسيس دويلات عديدة و لقرون عديدة على أرض عيلام و إستمروا يعيشون مستقلين بعيدين عن السيطرة الأجنبية.
بعد انتهاء عصر نبوخذ نصر الأول، شهدت العلاقات البابلية العيلامية ركوداً نتيجة المشاكل الداخلية التي عانت منها عيلام حيث بدأ الميديون يسيطرون عليها شيئاً فشيئاً، بينما كانت بلاد بابل في نزاع شديد مع الدولة الآشورية.
يمكن تقسيم الفترات الزمنية التي مرت بها الدولة العيلامية إلى ثلاث فترات أو عصور. الفترة الأولى بدأت قبل التاريخ (8 الآف سنة ق. م. الى سنة 2225 ق. م.). عاصرت هذه الفترة السومريون والأكديون و يُخُتتم هذا العصر بإنقراض الدولة السومرية والأكدية على يد العيلاميين، وقد تم ذكر فتوحاتهم في التوراة في مبحث خاص في الباب الرابع من سفر بيدايش، الآيات ( 1، 5، 9، 17 ) ويُذكر اسم ملك عيلام ( كدر عمر ) فيه. الفترة الثانية هي فترة معاصرة العيلاميين للبابليين التي إمتدت من سنة 2225 ق.م. الى سنة 745 ق.م. أما الفترة الثالثة فهي فترة معاصرة العيلاميين للآشوريين التي بدأت من سنة 745 ق.م. و إنتهت في سنة 645 ق.م.، حيث تم إنقراض الدولة العيلامية على يد آشور بانيبال سنة 645 ق.م. بدأ بعد هذه الفترة حكم الأخمينيين الذين كانوا البارسيين الفرس. إتحدت هذه الدولة مع الدولة الميدية الكوردية، مُشكّلةً دولة إيران التي حكمها كورش الكبير حتى سقوطها على يد أسكندر المقدوني في عام 331 ق.م في معركة أربيل.، حيث بدأت الدولة السلوقية. بعدها ظهرت الإمبراطورية الساسانية و كان الملك كسرى آخر ملوكها و الذي تم في عهده إسقاط إمبرطوريته بيد المسلمين بين عام 636 م و 640 م، حيث أصبحت جزءً من الإمبراطورية الإسلامية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب.
تشير التنقيبات الأثرية التي أُجريت في إقليم خوزستان، الى أن الدولة العيلامية كانت لها حضارة متقدمة خلال الألف الثالث قبل الميلاد. كشفت أعمال التنقيب عن مساكن لمجتمعات زراعية و أواني و أدوات مصنوعة من الفخار المستخدمة لأغراض عديدة. بعض هذه الأواني كانت ملونة و بعضها الآخر محلى بأعمال الزخرفة. كما تم إكتشاف لوحات طينية في مدينة سوسة تحمل سجلات مكتوبة بكتابة تصويرية. هذا النوع من الكتابة يُعرف بالعيلامية الأم أو الأصلية. إنتقل هذا النوع من الكتابة الى الهضبة الإيرانية، حيث ظل مستعملاً هناك لقرون عديدة.
المصادر
آميه، پير (1372 هجري). تاريخ ايلام. ترجمهي شيرين بياني، انتشارات دانشگاه تهران.
كمرون، جورج (1365 هجري). ايران در سپيدهدم تاريخ. ترجمهي حسن انوشه، انتشارات علمي و فرهنگي.
هينتس، والتر (1376 هجري). دنياي گمشدهي ايلام. ترجمهي فيروز فيروزنيا، انتشارات علمي و فرهنگي.
[1]