الفيليون: أصالة و عَراقة و هموم و آمال (2)
2. الإمبراطورية الميدية
أ. أصل الميديين و تأريخهم
المانيون هم أحد الشعوب القديمة التي إستوطنت أذربيجان الإيرانية الحالية في الفترة مابين القرن العاشر قبل الميلاد و القرن السابع قبل الميلاد و قد ورد ذكرهم في العهد القديم في الكتاب المقدس. كان المانييون مجاورين للآشوريين ودولة أرارات. لم يكونوا من الشعوب الهندو - أوربية ولم يكونوا خاضعين لسيطرة الإمبراطوريات المجاورة.
إستنادا الى العهد القديم من الكتاب المقدس، فأن الميديين ينحدرون من سلالة يافث إبن نوح. الميديون هم شعوب آرية (هندو- أوربية)، كانوا يتكلمون اللغة الهندو- أوربية. هاجرت هذه الشعوب من شرقي البحر الأسود في بداية الالف الثانية قبل الميلاد إلى المناطق الممتدة من كوردستان الى الهند، وإن كان نزوحهم للهند مؤرخ بنحو 1600 قبل الميلاد. الميديون كانوا يقطنون في إقليم بخار وسمرقند، وإنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً حتى وصلوا الى كوردستان الحالية، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي إتخذوها موطناً جديداً لهم. ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم فقد أخذوا يفلحون أرض السهول وسفوح التلال وعاشوا فيها عيشة رخية.
إن أول ذكر للميديين في السجلات الآشورية كان أيام الملك الآشوري شلمنصر الثالث في سنة 835 قبل الميلاد، حيث كان هذا أول إحتكاك بين الميديين و الآشوريين الذين كانوا آنذاك منشغلين بتوسيع إمبراطوريتهم. موطن الميديين حسب الجغرافية الحالية تشمل طهران و همدان و أصفهان و أذربيجان و منطقة كاردوخ. يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت بأن الميديين كانوا مؤلفين من ستة قبائل رئيسة وهم بوزا و باريتاك و ستروخات و آريا و بودي و موغي وأطلق هيرودوت إسم الآريين على القبائل الميدية.
من جهة أخرى، يذكر د .زيار في كتابه إيران...ثورة في إنتعاش، بأنه بحلول سنة 1500 قبل الميلاد، هاجرت قبيلتان رئيسيتان من الآريين من نهر الفولغا شمال بحر قزوين وإستقرتا في إيران وكانت القبيلتان هما الفارسيين و الميديين. أسس الميديون، الذين إستقروا في الشمال الغربي، مملكة ميديا. وعاشت الأخرى في الجنوب في منطقة أُطلق عليها الاغريق فيما بعد إسم بارسيس ومنها إشتق إسم فارس. بينما يرى المؤرخ محمد أمين زكي، بإن هناك إحتمالاً كبيراً بأن هذه المجموعة تشكلت من عدة قبائل مثل لولو و كوتي و كورتي و جوتي و جودي و،كاساي و سوباري و خالدي و ميتاني و هوري و نايري. يقول ابن خلدون بأن الكورد منحدرون من الميديين و يذكر حسن بيرنيا في كتابه المعنون تاريخ ( إيران باستاندا ) بأن الميديين هم من الشعوب الآرية و هم أجداد الكورد ولغتهم هي نفس لغة الكورد الموكريانيين و في كتابه عشق وسلطنة يقول بأن لغة الماديين هي لغة كردية. كما يشير مردوخ الى أن السلطان الأول للميديين هو آراماس و المعروف عند اليونانيين بديوكس. يقول دومركان بأن الميديين كانوا موجودين منذ أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد و أسسوا إمبراطوريات وسلطنات كثيرة و عُرفت عن حروبهم و شهرتهم وتفوقهم منذ سنة 700 قبل الميلاد. .يقول المؤرخ اليوناني كيتزياس بأنه تعاقب على حكم الإمبراطورية الميدية عشرة سلاطين وكان آخرهم (آستي كاس) و أن الإمبراطورية الميدية دامت لمدة 350 سنة. بهذه الأدلة يتأكد وجود الكورد تاريخياً منذ زمن طويل.
نستنتج مما تقدم بأن الشعب الكوردي ينحدر من مجموعتين من الشعوب، المجموعة الأولى (المانيون) التي كانت تقطن كوردستان منذ فجر التاريخ و ُيسمّيها المؤرخ الكوردي محمد أمين زكي بشعوب جبال زاكروس التي لم تكن شعوب هندو – أوروبية. إمتزجت الشعوب الأصلية في المنطقة مع أقوام آرية (هندو- أوربية)، مثل الميديين، التي تُشكّل المجموعة الثانية من الشعوب المكوّنة للشعب الكوردي والتي هاجرت من شرقي البحر الأسود إلى كوردستان واستوطنت فيها مع شعوبها الأصلية. كان هذا الشعب غير متنقل بل ثابتاً في بقعته الجغرافية وكان يعتمد في معيشته على الزراعة و تربية المواشي.
تعد الإمبراطورية الميدية من إحدى الإمبراطوريات العظمى في التاريخ القديم التي أقيمت على أرض كوردستان الحالية ولعبت دوراً كبيراً في نشوء الحضارة الإنسانية في المنطقة التي كانت تُعرف قديماً لدى اليونانيين بإسم ميزوبوتاميا التي كانت تُطلق على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات. مساحة كوردستان الحالية تقلصت كثيراً، مقارنة بالأراضي التي كانت تُشكّل الإمبراطورية الميدية.
إن مركز هذه الإمبرطورية العظيمة كان في مدينة همدان الإيرانية الحالية و التي تقع في موطن الفيليين. من هنا ندرك أن الفيليين هم المؤسسون لهذه الإمبراطورية التي كانت أعظم و أكبر إمبراطورية في المنطقة في ذلك الوقت و يعني أيضاً أن الشريحة الفيلية هي أحفاد الميديين و أن جذور الفيليين في المنطقة (في كل من العراق و إيران الحاليتين) هي جذور عميقة بعمق التأريخ نفسه.
حدود الإمبراطورية و عاصمتها
كانت تحد ميديا من الشرق أفغانستان، بل كان بعض أراضي أفغانستان جزء من ميديا، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط ومن الشمال مناطق كادوس فيما وراء نهر آراس ومن الجنوب الخليج الفارسي. كانت الإمبراطورية الميدية تضم كلاً من فارس و أرمينيا و آشور و عيلام و هيركاني و جزء من باكستان على المحيط الهندي و شمالي شرقي سوريا وكانت تعيش في ظل حكمها أقوام مثل سورميد و هوريون و أوراراتيون و ميتانيون.
العاصمة جه مه زان تعني مكان الاجتماع في اللغة الكردية وإستُخدمت أحياناً اسم هيكمه تانا، إلا أنها إشتهرت بإسم آكباتان وهذه التسمية أطلقها عليها اليونانيون وقد تم تثبيتها في المراجع اليونانية بهذا الإسم. كما أن كلاً من زينفون و هيرودوت وغيرهما، يشيرون إليها بهذه التسمية و أن موقعها يقع بالقرب من مدينة همدان الإيرانية الحالية. إسم همدان مأخوذ من إسم عاصمة الميديين (مصادر أخرى تذكر بأن مدينة همدان الحالية هي نفسها مدينة آكباتان الميدية). نجح علماء الآثار في العثور عليها وتمكنوا من إزالة الأتربة عنها وهي مدينة ضخمة ً وتتميز بأسوارها النادرة التي تتألف من سبع أسوار عالية وعريضة على شكل صفوف متراصة وهي تحيط بالمدينة. السور السابع هو أعلى من السادس والسادس هو أعلى من الخامس و هكذا بالنسبة الى الأسوار الباقية.
نشوء الإمبراطورية الميدية
بدأت قبائل الميديين تتجمّع لتؤسّس أول إمبراطورية معروفة لها في حدود عام 708 قبل الميلاد. وقع إختيارهم على رجل كان يتولى منصب العمدة في إحدى القرى الميدية و كان إسمه دياكو Diyaoku (كيقباد) (727 – 675 ق . م)، و كان الأغريق يُسمّونه بديوكس Deioces، ليكون ملكاً عليهم. هذا الإختيار تم نظراً لإشتهار دياكو بالحكمة والحكم العادل عند فصل المنازعات، حيث كانت القبائل الميدية تلجأ إليه لحل مشاكلها الإجتماعية و الإقتصادية. كان دياكو أول حاكم ميدي منتخب معروف (كان الميديون ينتخبون ملوكهم، كما يذكر هيرودتس). إختار دياكو آكباتان لتكون عاصمة لمملكته (وهى مدينة همدان الحالية و تعني محل الإجتماع، بينما مصادر أخرى تذكر بأنها تقع بالقرب من مدينة همدان الحالية)، حيث قام بتحصينها للتمكن من مقاومة أي غزو أجنبي. في آكباتان، أي في ملتقى الطرق الكثيرة الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال، أنشأ (دياكو) عاصمته وزينها بقصر ملكي يشرف عليها و الذي كانت تبلغ مساحته حوالي 1.73 كيلومتر مربع.
بدأ دياكو بتوحيد المملكة التي كانت تتألف من منطقة واسعة تقطنها القبائل الكوردية بوسيون و آريزانتو و بارتاكتي و بوديون و موغ و ميتاني و باشر ببرنامج لتوحيد جميع سكان ميديا ضد الهجمات المتواصلة للقوات الامبراطورية الآشورية الحديثة (745 – 606 ق.م.) التي كانوا يتعرضون لها. تم قتل الملك دياكو من قِبل الآشوريين، حيث تآمروا عليه بدعوته الى وليمة و تم قتله هناك خلال تلك الوليمة.
بعد دياكو، تسلم الحكم الملك خشتاريتي Khashtariti (675 -653 ق . م) أو خشاتريتا Khshatrita باللغة الأكدية، بينما يسمّيه المؤرخ اليوناني هيرودوت بفراورتيش (Phraortes. بدأ حكمه بسياسة المجاراة و المهادنة مع الحكومة الآشورية. هذه السياسة ساعدته في زيادة نفوذه بين الشعوب الآرية، حيث كانت شعوب آرية قد قدمت من الشرق و إنضمت الى الميديين، وجّه خشتاريتي أنظاره نحو قبائل الفرس الأخمينيين، فقاد حملة عسكرية لإخضاع مملكتهم و نجح في مسعاه، حيث أخضع الفرس للحكم الميدي و بذلك إستطاع توحيد الميديين والفرس. كما أن إنهاكْ سرجون لقبائل الأُورارتيين Ourartens و المعانيين Manens بحملاته وغزواته المستمرة عليهم، قد ساعدت الميديين على التوسّع نحو الغرب وإحتواء هؤلاء في مملكتهم الفتية بمساعدة السيمريين – Cimmerians، في عام 670 ق.م. كل هذه التطورات الإيجابية دعت الميديين الى الإمتناع عن دفع الجزية للآشوريين، التي كانوا يدفعونها مضطرين خلال فترة زمنية طويلة. بعد ذلك قام الملك الميدي بحملة عسكرية في هجوم كبير على مدينة نينوى عاصمة الآشوريين ولكنه مات أثناء محاصرتها ولم يتحقق حلمه في توسيع إمبراطوريته و إبعاد الخطر الآشوري عن شعبه.
بعد وفاة فراورتيش، إستلم الشاب وفاكشترا Ouvakhshatra أو كياكسارا Cyaxares (كيكاوس)، الذي كان حفيد الملك دياكو(، مقاليد الحكم في عام 632 قبل الميلاد. وإنتهج سياسة والده في تعامله مع جيران المملكة ونجح في تحقيق حلمه بحيث أصبح يمتلك أقوى إمبراطورية تحكم هذه المنطقة وتفرض شروطها على الآخرين. بدأ الملك كياخسارا بالعمل على لم شمل الشباب الميدي و بعض القبائل الميدية، مستفيداً من المصاعب التي كانت تواجه السيتيون (الاسكثيون)، بعد أن أصبحت دولتهم مترامية الأطراف ويلاقون صعوبات في القيام بإدارتها و حكمها، حيث كانت مملكتهم أصبحت تمتد الى فلسطين. كما أنه قام بإعادة تنظيم الجيش على أساس جديد، إذ قسّمهم الى أصناف الرماة و الرمّاحين و حاملي السهام والفرسان. ثارت الشعوب التي كانت ترزح تحت حكم الستيين. إستغل كياخسارا الظروف الصعبة التي كانت تمر بها المملكة الكيسية، فأعلن ثورته عليهم و إستطاع تحرير بلاده منهم.
بعث الملك الميدي بسفرائه إلى الملك البابلي نبوبولاصر ليعلن له صداقته وليقترح عليه التحالف ضد عدوّهم المشترك المتمثّل في المملكة الآشورية. تعمقت و توثقت العلاقات بين الإمبرطورية الميدية و الآشورية، خاصة بعد أن وقع نبوخذ نصر إبن نابوبلاصر البابلي في غرام إبنة الملك الميدي، أميتسا (أوميد)، عندما كان يصطحب والده في زيارته لمملكة ميديا، فتزوجها وقام ببناء حدائق بابل المعلقة لها، عندما وجد أن طبيعة بابل كانت غير ملائمة لأوميد لأن بلادها ميديا كانت ذات طبيعة ساحرة فأراد أن يخلق لها طبيعة جميلة كطبيعة مملكتها. أبرمت مملكة ميديا و بابل إتفاقيات سياسية و عقدتا تحالفات عسكرية، لتفادي الأخطار المتأتية من الأطماع و التهديدات الآشورية لمملكتيهما. التهديد المستمر الذي كان يُشكّله الآشوريون للدولتين، الميدية والبابلية و معاناة الشعوب الرازحة تحت الإمبراطورية الآشورية، دفعت الدولتين الى الإتفاق معاً للقضاء على الإمبراطورية الآشورية. حملات وغزوات السكيثيين المتكررة على الإمبراطورية الآشورية ساهمت الى حد ما في إضعاف الآشوريين. هيّأ كياخسارا جيشه إستعداداً للهجوم على نينوى ولكن بينما كان يتهيأ لتنفيذ خطّته، وردته الأخبار بأن السكيثيين Scythiques إنطلقوا من القوقاز ليهاجموا مملكته، فإضطر للعودة إلى ميديا لمجابهة الخطر القادم من السكيثيين. حطّم السكيثيون آسيا ودمّروا كل ما إعترض سبيلهم إلى أن وصلوا الى حدود مصر. يدّعي هيرودوت بأن السكيثيين إستقرّوا في المنطقة لمدة ثمانية و عشرين عاماً، في حين يؤكّد مؤرخون آخرون بأنّهم لم يبقوا في المنطقة لأكثر من سبعة أعوام. قامت الدولتان، الميدية و البابلية، بشن هجوم كبير على الآشوريين، حيث أن الميديين قاموا بالهجوم على العاصمة الآشورية، نينوى، من جهة الشرق و التقدم نحوها، بينما قام البابليون بالهجوم من جهة الجنوب. بعد أن دارت رحى حرب ضروس بين المتحاربين، سقطت نينوى في شهر آذار 612 قبل الميلاد بيد الميديين و البابليين. الملك الآشوري، الذي كان حليفاً للفرعون المصري بسامتيخ، هرب إلى حران للنجاة من الموت و إنتهاز فرصة مؤاتية له للعودة والانتقام من الميديين، إلا أن الميديين قطعوا عليه طريق العودة الى الحكم من جديد، حيث هاجموا حران وقتلوه هناك.
أمّا السكيثيون، فقد إستطاع الملك الميدي كياخسارا إستدراجهم في فخ من خلال دعوة رؤساء قبائلهم إلى وليمة أقامها على شرفهم وبعدما لبّوا دعوته قام بقتلهم. بعد هذه الحادثة، لم يبقَ أمام السكيثيين غير ترك المنطقة و العودة إلى بلادهم.
بعد إنهيار المملكة الآشورية والإستيلاء على نينوى، تقاسم الميديون والبابليون فيما بينهم ما تبقّى من مملكة آشور، وهكذا توسّعت المملكة البابلية إلى حدود مصر، بينما إحتفظ الميديون لهم بمنطقة دجلة العليا والفرات وإمتدّت حدودهم إلى البحر الأسود. لم يتوقف الملك كياخسارا عند هذا الحد، بل حاول بسط سيطرته على كل آسيا الصغرى، حيث المملكة الليدية Lydie و كانت عاصمتها سارد Sarde. إستمر صراع الميديين مع الليديين لمدّة ست سنوات. بعد توسُّط الملك البابلي نبوبولاصر أبرم كياخسارا معاهدة سلام مع ملك الليديين آليات Alyates و ذلك في عام 608 قبل الميلاد. وفقاً لهذه المعاهدة، تم تأشير مجرى نهر هاليس Halys (Kizil-Irmak)، الذي يصب في البحر الأسود و الواقع قرب مدينة أنقرة الحالية، كحدود بين المملكتين . بعد إبرام هذه المعاهدة، تميزت العلاقات بين الممالك الثلاث، الميدية والبابلية و الليدية بالهدوء والسلام في عهد الملك كياخسارا الذي إستمر حتى وفاته في عام 595 قبل الميلاد. تقول روايات أخرى أن الحرب بين الميديين و الليديين إنتهت بسبب حدوث كسوف الشمس أثناء فترة الحرب، إذ إعتقد الجانبان بأن هذه الظاهرة حدثت بسبب غضب الإله عليهم نتيجة تحاربهم، و لذلك قرروا إنهاء الحرب بينهم.
كانت الدولة الميدية قوية في عهد كياخسار التي ساهمت في نشر الأمن في منطقة ميزوبوتاميا وحولها وعاشت الشعوب في أمن وإستقرار، بعيدةً عن اعتداءات الآشوريين. يذكر المؤرخون بأن حرب المملكة الميدية على الآشوريين، لم يكن هدفها الطمع أو التوسع، وإنما كان للإنتقام و وقف إعتداءات الآشوريين و أن إنتصار الميديين في حربهم على الآشوريين كان لمصلحة جميع شعوب الشرق الأوسط في ذلك الوقت، إذ تميزت سياسة الآشوريين بالعنف والقتل والقسوة و الدمار تجاه شعوب المنطقة. كان الآشوريون ينظرون الى الإنسان كمخلوق خُلق للحرب، لذلك لم تكن للإنسان أية قيمة عندهم. بما أن النساء لم يكُنّ يشتركنَ في الحروب، لذلك كان المجتمع ينظر إليهن بإستخفاف و خاصة اللواتي كُنّ ينجبنَ إناثاً. لنفس السبب المذكور، كان يتم إهمال الأطفال المصابين بعاهة عقلية أو جسدية، بل كان يتم التخلص منهم. الآشوريون هم الذين أوجدوا الحجاب للنساء وجعلوهنّ أسيرات المنزل، حيث ينحصر عملهنّ على خدمة الرجل و البيت و الإنجاب.
بعد وفاة الملك كياخسارا، تولّى إبنه ووريثه أستياج Astyages شؤون الإمبراطورية الميدية و بقي ملتزماً بالمعاهدة التي أبرمها والده مع الليديين في عام 608 قبل الميلاد، حيث وثّق علاقاته مع الملك الليدي آليات بروابط عائلية خلال تزويجه من إبنته وفعل الشيء نفسه مع ملك بابل نبوخذ نصر، إبن و وريث نبوبولاصر عبر تزويج شقيقته منه. وهكذا توطدت علاقاته السياسية مع الليديين والبابليين وعاشت المنطقة خلال فترة حكمه بلا حروب أو قلاقل تُذكر. لم يكن الملك أستياج بمستوى سلفه من حيث القوة و الشخصية السياسية, لذلك كان حكمه ضعيفاً و التي أدت الى زيادة نفوذ رجال القبائل القوية في البلاد.
إنهيار الإمبراطورية الميدية
مرتّ على حكم أستياج للإمبراطورية الميدية خمسة و ثلاثون عاما، عندئذً إنقلب عليه سيروس Cyrius أو كوروش Kurush (كيخسرو الكبير) في عام 560 قبل الميلاد. يذكر هيرودوت في كتابه الأول ( Clio 107 )، أنّه بعد تفسير الكهنة Les Mages لرؤيا أستياج بخصوص كريمته ماندان Mandane، فضّل تزويجها من قمبيز الفارسي بدلاً من أحد النبلاء الميديين، لكي يقضي على أية محاولة يقوم بها نبلاء قومه لإزاحته عن الحكم في المستقبل. يتابع هيرودوت حديثه بأنّ ماندان أنجبت ولداً من قمبيز أسمته كوروش Kurush. عاش كوروش في كنف الشعب الميدي و تلقّى تربيته بينهم. عندما أصبح كوروش بالغاً، إستطاع الإطاحة بجدّه أستياج، بفضل أحد القادة الميديين الذي كان يُدعى هارباج Harpage و نصّب نفسه ملكاً على الميديين والفرس. من جهة أخرى، فأن المؤرّخ ستيسياس Stesias يذكر بأنه لم تكن هناك أية رابطة عائلية تربط كوروش بالملك الميدي. أمّا المؤرّخ كزينفون Xenophon فانّ له رأي مشابه لرأي هيرودوت في هذه المسألة، قائلاً بأنّ كوروش كان إبن ماندان الميدية وقمبيز الفارسي ويضيف بأنّه تربّى وأقام صباه بين الميديين في كنف جدّه أستياج إلى أن بلغ سنّ الرشد. التنقيبات الأثرية المكتشفة تدل بأنّ كوروش كان ينتمي إلى العائلة الأخمينية وأن والده كان ملكاً حيث يمكن قراءة الكتابة التي هي باللغة المسمارية على احد الألواح إبن قمبيز ، الملك القوي، يتبعه أنا كوروش، الملك الأخميني وهناك إشارة أيضاً إلى أنّه كان ملكاً على مملكة السوس Susiane بعد إطاحته بأستياج و إسقاط لإمبراطورية الميدية. إستطاع كوروش عن طريق جيشه المدرّب والمنظّم إحتلال آشور وبابل ومن ثمّ التقدّم نحو الغرب والدخول في معارك ضارية مع الليديين بقيادة ملكهم كريسوس Cresus الذي كان إبن الملك آليات. لعب الميديون دوراً حاسماً في صمود الإمبراطورية الأخمينية أمام أعدائها وإستمراريتها، حيث تظهر هذه الأهمية بوضوح في كتابات داريوس التي عُثر عليها في بيهيستون Behistoun و كذلك تتحدث عنها المصنوعات الفخارية التي عُثر عليها في كل من كودين تبه Godin Tepe في كوردستان و يوركان تبه Yorgan Tepe (موقع نوزي Nouzi قرب ملاير Malayer) و على القطع الأثرية الثمينة التي تم إكتشافها بين كنوز أُوكسوس Oxus و التي تعود للقرنين السابع والسادس قبل الميلاد.
إنتفاضات الميديين بعد إنهيار إمبراطوريتهم
بعد إنهيار الإمبراطورية الميدية، حدثت إنتفاضات عديدة من قِبل الميديين لتحرير بلدهم من الإحتلال. قامت إنتفاضة كؤماتا سنة 522 قبل الميلاد و التي كانت بقيادة كؤماتا التي كانت موجهة ضد الملك الأخميني دارا الأول و التي كانت تتمتع بتأييد و مشاركة الشعب الميدي، إلا أن هذه الإنتفاضة فشلت بسبب إفشاء خطة الإنتفاضة من قِبل إحدى النساء الميديات التي قامت بإخبار الملك الأخميني بها. بالرغم من فشل الإنتفاضة، إلا أنها أجبرت الملك دارا الأول على القيام ببعض الإصلاحات التي أدت الى تحسين أوضاع الناس.
إنتفاضة خشريتا و كان قائد هذه الإنتفاضة ينتمي إلى عائلة الملك الميدي كياخسار و كانت تهدف الى إعادة تأسيس الإمبراطورية الميدية، إلا أن هذه الإنتفاضة باءت بالفشل كسابقتها. إنهزم خشريتا في آخر معركة له و التي كانت تحمل إسم معركة كوندورا، حيث إضطر الى الفرار الى مدينة ري الحالية، إلا أن الجيش الأخميني طارده و إستطاع إلقاء القبض عليه. بعد إلقاء القبض عليه، قام الملك الأخميني بقتله بطريقة بشعة، حيث قام بقطع أُذنيه وجدع أنفه وفقأ عينيه وقطع لسانه و من ثم ربطه بشجرة في مدينة آكباتان و تم بعد ذلك تصويب السهام عليه الى أن فارق الحياة. قام الملك دارا بتدوين هذا القتل الوحشي على نقوش بهيستون، كأحد إنتصاراته، للإفتخار به و الذي باقٍ لحد الآن و يمكن للمرء الإطلاع عليه و مشاهدته هناك.
إنتفاضة جتران تخوما التي قادها جتران تخوما، إلا أن إنتفاضته باءت بالفشل. كان سبب فشله هو خيانة بعض الميديين له، حيث قبضوا عليه وسلّموه إلى الملك دارا في مدينة هولير ( أربيل )، و كان مصيره كمصير سلفه خشريتا، حيث تم تعذيبه وقطع أنفه و لسانه و أذنيه و من ثم تم قتله.
ميديا تحت حكم إسكندر المقدوني
بعد انتصار الاسكندر المقدوني وجيشه المؤلف من المقدونيين و الأغريق على الملك الأخميني، وقعت كوردستان تحت السيطرة المقدونية – الأغريقة. بعد وفاة الاسكندر سنة 323 قبل الميلاد، كانت كوردستان و العراق وسوريا وايران من حصة احد قادته المدعو سلوقس. يمكن القول بأن إسكندر المقدوني لم يكن عنصرياً، حيث كان مرناً في تعامله مع الشعوب التي قام بإحتلال بلدانها و لم يلجأ الى القضاء على ثقافة ولغة وحضارة شعوب منطقة الشرق الأوسط عندما وصل إليها، بل خلق حضارة ممزوجة كانت تحمل إسم الهلنستية (هلنستية متكونة من كلمتي هيلين و ايست، حيث أن هيلين هي إسم جدة اليونانيين و كلمة إيست تعني الشرق باللغة اليونانية). فيما يتعلق بأرض ميديا، عيّن الأسكندر المقدوني حاكماً ميدياً لها في سنة 350 قبل الملاد، كان يُدعى اكسودات ومن بعده، في سنة 348 ق.م، تم تعيين شخصاً ميدياً آخراً كحاكم جديد لمملكة ميديا، والذي كان إسمه أتروبات. في هذا العهد أُقيم حفل زفاف كبير ومشهور في التاريخ، إذ أقام الإسكندر المقدوني حفلة زواج كبرى له و لمائة من قواد جيشه، حيث تم زواجهم لفتيات شرقيات. تزوج الإسكندر المقدوني الفتاة الميدية روكسانا وتزوج قائده المقرب إليه سلوقس الفتاة الفارسية أباما وهكذا تم زواج القادة العسكريين لفتيات شرقيات آخريات. أرض ميديا أو المملكة التي كان يحكمها أتروبات أخذت تحمل اسم أذربيجان بمرور الوقت.
المصادر
إبن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (2004). العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. مطبعة دار الفجر في التراث، القاهرة.
الحموي، ياقوت بن عبدالله الرومي (1906) معجم البلدان. طُبع في مصر
الطبري، محمد بن جرير (؟). تأريخ الأمم و الملوك. طُبع في مصر.
بيرنيا، حسن (1921). ايران قديم. (باللغة الفارسية)
زكي، محمد أمين (1945). خلاصة تأريخ الكرد و كردستان- من أقدم العصور التأريخية حتى الآن. الجزء الأول، الطبعة الثانية. ترجمة محمد علي عوني.
زكي، محمد أمين (1948). خلاصة تأريخ الكرد و كردستان- تأريخ الدول و الإمارات الكردية في العهد الإسلامي. الجزء الثاني، الطبعة الثانية. مطبعة السعادة، مصر. ترجمة محمد علي عوني.
زيار، د. (2000)..إيران ثورة في إنتعاش. طُبع في باكستان.
كوردستانى، محه ه مه د مه رد ۆخى (1991). مێژووی كورد و كوردستان. وەرگێرانی عه بدول كه ريم محه مه د سه عيد. مطبعة أسعد، بغداد. (باللغة الكوردية)
Durant, W. (1954). The Story of Civilization. Vol. 1, part 2. Simon and Schuster, New York.
[1]