الفيليون: أصالة و عَراقة و هموم و آمال (6)
العقبات التي تواجه تفاعل الفيليين و تواصلهم مع شعبهم الكوردي
في المقالات السابقة من هذه السلسلة من المقالات، تحدثت عن الفيليين من منظور تأريخي و الذين بموجبه يكوّنون السكان الكورد القاطنين في المناطق المنبسطة من الأراضي التأريخية لكوردستان. إبتداءً من هذه المقالة، ستتناول كتاباتي في هذه السلسة من المقالات عن الفيليين كشريحة كوردية تعيش خارج كوردستان. سيكون موضوع حديثي الفيليون الذين يعيشون في العراق، خارج إقليم جنوب كوردستان و الفيليون العراقيون الذين يعيشون في المهجر. كنت أود أن أتحدث عن الفيليين في كل من العراق و إيران و إقليم شرق كوردستان الذين يشتركون جميعاً في الجغرافية و اللهجة و معظمهم ينتمون أيضاً الى المذهب الشيعي، (بإستثناء أهل الحق الكاكائيين الذين تُقدر نفوسهم بحوالي أربعة ملايين نسمة)، إلا أن مثل هذه الدراسة كانت ستتم على حساب الفئة التي أنا بصدد دراستها أو كان يتحتم عليّ أن أتناول الموضوع الفيلي بشكل شامل و مفصل لأعطي الموضوع حقه، و هذا كان يتطلب القيام بدراسة واسعة و شاملة و التي تحتاج الى الكثير من الجهد و الوقت و تستلزم تأليف كتاب كامل ليضمها لإعطاء الموضوع حقه. آمل أن أعود الى هذا الموضوع مرة أخرى في المستقبل لدراسة الشريحة الفيلية بشكل متكامل، بغض النظر عن المكان أو الدولة التي تتواجد فيها هذه الشريحة التي قد تصل نفوسها الى عشرة ملايين نسمة.
إن ظروف الكورد الذين يعيشون خارج كوردستان في كل من (تركيا) و إيران و سوريا، تشبه ظروف الفيليين الى درجة كبيرة، حيث أن مجاميع سكانية كوردية كبيرة تعيش في المدن الكبيرة، مثل إستانبول و أنقرة و إزمير و طهران و شيراز و همدان و دمشق و حلب و غيرها من المدن، و التي تركت كوردستان نتيجة تهجيرهم من قِبل الحكومات المحتلة لكوردستان أو بسبب إهمال تلك الأنظمة لكوردستان و الذي تسبب في إنتشار الفقر و البطالة التي أجبرت هؤلاء على الهجرة من كوردستان الى تلك المدن الكبيرة، باحثين عن العمل و الدراسة لكسب قوتهم و إعالة أُسرهم أو لمواصلة دراساتهم. إن تشابه ظروف هؤلاء مع ظروف الفيليين، مع بعض الإختلاف في ذلك، يجعل من هذه الدراسة مفيدة لمعالجة مشكلة إنقطاع تلك المجاميع السكانية عن الشعب الكوردي في كوردستان و صعوبة تواصلها معه.
إن التواجد الكثيف للكورد في المدن الكبرى للدول المحتلة لكوردستان، يمكن جعله مصدر قوة للأمة الكوردية بدلاً من مصدر ضعف حسب ما خطط له محتلو كوردستان، بتهجيرهم للكورد من كوردستان و تشتيتهم في مدن و بقاع عديدة في بلدانهم. أذكر هنا بأنه بعد صدور بيان 11 آذار في سنة 1970، الذي مرت ذكراه قبل أيام، عنده كنتُ أبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً فقط، حيث بدأتُ بكتابة موضوع طويل مؤلف من سبع و خمسين صفحة في دفتر مذكراتي، و الذي لا زلتُ أحتفظ بقسم منه، بعد أن أصاب التلف القسم الآخر نتيجة إضطراري الى إخفائه عن عيون أزلام السلطة البعثية و ذلك بدفنه في حديقة منزلنا مع العديد من كتب (ممنوعة) أخرى. تتضمن تلك الكتابة رأيي ببيان 11 آذار و كونه تكتيكاً بعثياً لإستغلال الوقت لتثبيت حكمهم، حيث كان قد مرّت أقل من سنتين على إنقلابهم العسكري و إستلامهم السلطة. من بين الخطط التي أشرتُ إليها في تلك المقالة الطويلة، هي إستغلال الطاقات الهائلة للشباب الفيلي في بغداد و وسط و جنوب العراق و تنظيمهم في خلايا سرّية مسلحة لنقل الحرب الى عقر دار العدو و جعل مدنه ساحة للمعارك بدلاً من كوردستان و العمل على هزيمته و إسقاط حكومته. لو كانت لمثل تلك الإستراتيجة و الخطط قُدّر لها أن تُطبق في حينه، لربما كانت تُحدث إنعطافة كبرى في مسار النضال و التأريخ الكوردي و العراقي و في مسار تأريخ منطقة الشرق لأوسط بأكملها. نقطة ضعف موقع كوردستان المحاصَر من قِبل المحتلين من كل الجهات و تعاون الأنظمة المحتلة مع بعضها لقهر إرادة شعب كوردستان و منع إستقلالها و تحررها، يمكن مواجهة هذا الضعف باللجوء الى نقل الحرب الى ساحة العدو في مدنه و بالتعاون مع القوى الديمقراطية و اليسارية في تلك البلدان و إحراز نصر حازم على المحتلين. مثل هذه الإسترالتيجة يمكن العمل بها من قِبل شعب كوردستان في الوقت الحاضر أيضاً، متى ما يضطر الكورد الى حمل السلاح و الدفاع عن أنفسهم و عن حقوقهم. مثل هذه الإستراتيجية تُظهر أهمية الشريحة الفيلية و المجاميع السكانية الكوردية الأخرى في مدن البلدان المحتلة للأقاليم الكوردستانية بالإضافة الى كون هذه الشرائح جزء مهماً من الشعب الكوردي و لا يمكن التخلي عنها أبداً، و هناك جوانب أخرى مهمة لهذه الشرائح الكوردية و التي لا مجال للتوقف عندها هنا و إنما سأتطرق إليها في المقالات القادمة المتعلقة بهذا الموضوع.
في البداية يجب الإعتراف بأن هناك حواجز عديدة وقفت و تقف أمام تواصل الفيليين و تفاعلهم مع شعبهم الكوردي و تعترض طريقهم للتكامل معه. في هذه المقالة أقوم بتشخيص أهم الحواجز التي تقف حجر عثرة في تحقيق هذا الهدف، حيث أنه بمعرفة تلك المعوقات يمكن وضع حلول و برامج واقعية و عملية لإزالة تلك المعوقات أو التقليل من آثارها و فتح الطريق أمام عملية الإندماج و التواصل بين مختلف الشرائح الكوردية و خلق شعب متجانس في الثقافة، تلتف مكوناته حول أهداف و مصالح مشتركة.
عدم تواجد الفيليين على أرض كوردستان و بُعدهم الجغرافي عنها، كانا من العوامل المهمة التي ساهمت في خلق حاجز يعيق تواصلهم مع الشرائح الكوردية التي تعيش في كوردستان. إن إشتراك مجموعة سكانية معينة في العيش معاً على بقعة جغرافية محددة، يفرض على ذلك المجتمع إيجاد نظام سياسي يضم مكوناته و سن قوانين و أنظمة تُنظم حياة أفرادها و تُحدد حقوقهم و واجباتهم. نتيجة هذا العيش المشترك، تتبلور أهداف مشتركة، من سياسية و إقتصادية و ثقافية و إجتماعية و غيرها لمكونات ذلك المجتمع التي تلتف حولها و تسعى جاهدة لتحقيقها و بلوغها لأن تلك الأهداف تعمل على تحقيق طموحات و آمال كل مكونات و أفراد ذلك المجتمع. كما أن العيش المشترك لمثل هذا المجتمع يعمل على إيجاد هوية خاصة به و خلق شعور الإنتماء الى ذلك الوطن الذي يعيش فيه و الدفاع عنه. العيش المشترك لمجموعة سكانية يربط أفراد ذلك المجتمع بمصير مشترك، حيث أنهم يتمتعون جميعاً بالمكتسبات التي يحققها ذلك المجتمع و يشتركون جميعاً في المعاناة و المشاكل التي يواجهها مجتمعهم. كما أن إشتراك المجموعات البشرية في العيش على بقعة جغرافية واحدة، يعمل على تكوين ثقافة مشتركة و نمط متقارب من الفكر لأفرادها و شرائحها و يخلق لغة مشتركة للتفاهم بها مع البعض و يزيل الفوارق اللهجوية و المناطقية بين مجاميع ذلك المجتمع و يؤدي أيضاً الى خلق نوع من الألفة و المحبة بين تلك المجاميع و الأفراد. إن البُعد الجغرافي الذي يفصل الفيليين عن الشرائح الكوردية التي تعيش في كوردستان، يُُحرّم الفيليين من التكامل مع المجتمع الكوردستاني و الإندماج فيه و يقف في طريق تقاربهم الفكري و الثقافي و الإجتماعي و يجعلهم أن يفتقدوا الى مصالح و أهداف تجمعهم مع الشرائح الكوردستانية و التي تشّد من أزرهم و تقاربهم.
عيش الفيليين في مناطق سكنية مثل مدينة بغداد و غيرها، التي يسود فيها العرب، يساهم في تعميق التباعد بينهم و بين إخوانهم الكوردستانيين، حيث أن عيشهم في بيئة تسود فيها الثقافة و اللغة العربية و نظام سياسي و إداري و تربوي عربي، يهمل الثقافة و اللغة الكوردية و التأريخ الكوردي، يفرض على الشريحة الفيلية الثقافة و اللغة السائدة و يعمل على إنسلاخ هذه الشريحة عن أمتها الكوردية عن طريق منعها من تعلم لغتها الأم و معرفة تأريخ شعبها لتكون قادرة على التواصل مع الشعب الكوردستاني و التفاعل معه. هذه الظروف خلقت أجيالاً فيلية تجهل التكلم باللغة الكوردية أو لا تتقنها، بالإضافة الى أنه يمكن القول بأن البيئة العربية التي يعيش فيها الفيليون حرّمت جميعهم من الكتابة و القراءة باللغة الكوردية. كما أن الثقافة العربية تركت آثارها عليهم بحُكم معاشرتهم للعرب و فرض الثقافة العربية عليهم. عدم إتقان أفراد الشريحة الفيلية للغة الكوردية، و خاصة الجيل الناشئ، و تأثرهم بالثقافة العربية، يخلق حاجزاً بينهم و بين شعبهم الكوردي في كوردستان و يمنعهم من التواصل معهم و يُحرّمهم من متابعة الكتب و الصحف و وسائل الإعلام الكوردية و الإستماع الى الأغاني و الموسيقى الكوردية و الإهتمام بالفن الكوردي و الثقافة الكوردية.
سيطرة الحكومات العروبية الدكتاتورية و العنصرية على الحكم في العراق منذ تأسيسه ككيان سياسي و (إستيراد) رجل من الحجاز و تنصيبه ملكاً على العراق، ساهمت مساهمة كبيرة في إضعاف التواصل الفيلي مع الشعب الكوردي. في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة، كان الفيليون و لا زالوا محرومين من تعلم لغتهم الأم و القراءة و الكتابة بها و مُنعوا من التعرف على تأريخ شعبهم الكوردي و تطوير ثقافته و التواصل اللغوي و التأريخي و الثقافي و الإقتصادي مع هذا الشعب. فرضت هذه الأنظمة العنصرية و الطائفية المستبدة الثقافة العروبية و اللغة العربية على هذه الشريحة في وطنها الذي هو أرضها التأريخية منذ فجر التأريخ و عملت على تغريبها و قطع صلتها بأمتها و ماضيها و حضارتها. الثقافة العروبية العنصرية الإستعلائية التي تعرضت الى سمومها الأجيال العربية في العراق، عملت على تخريب شخصية الإنسان العراقي و تأصل روح العنصرية و الإستعداء و إقصاء الآخر و إلغاء الرأي الآخر فيها. إن إصلاح الثقافة العراقية يحتاج الى تتابع أجيال عديدة مع توفر بيئة صحية يعيش الإنسان العراقي في ظلها خلال تلك الحقبة الزمنية. لذلك، ليس من المستغرب أن نسمع رئيس الوزراء العراقي، في كلمته التي ألقاها في المؤتمر الإقليمي و الدولي الذي أُقيم في بغداد مؤخراً، مستعملاً مصطلح العراق العربي الإسلامي الذي هو مصطلح عنصري و طائفي، حيث يلغي المكونات العراقية التي تُشكل أكثر من 30% من نفوس الشعوب العراقية، من كورد و كلدان و آشوريين و أرمن و تركمان و مسيحيين و إيزيديين و كاكائيين و شبك و غيرهم، و كأنما العرب المسلمون هم وحدهم يسكنون العراق. السيد المالكي الذي ينحصر حكمه في المنطقة الخضراء و بمساعدة أمريكية، يحمل مثل هذا الفكر العنصري و الطائفي، فيتساءل المرء ما يعمله مثل هذا الشخص بالأطياف العراقية غير العربية و غير المسلمة عندما يكون له جيش جرار كما كان للمقبور صدام حسين؟! إن العقل العروبي مشحون بالعنصرية المتأتية من تراكمات تأريخية بدأت منذ مئات السنين و التي إستطاعت تخريب القيم الإنسانية الحضارية في نفوس المجاميع و الشعوب التي تعرضت لمثل هذه الثقافة العنصرية الإلغائية المتخلفة. هكذا فأن الأفكار العنصرية لحكام العراق المتعاقبين ساهمت في إضعاف الوعي و الشعور القومي للفيليين.
الحروب و الفوضى التي مرت بها المنطقة و العراق الحالي لفترات طويلة، بدءً بالحكم العربى الإسلامي و مروراً بالدولة الأموية و العباسية و التركية و إنتهاءً بالحكومات العروبية، خلقت حالة من عدم الإستقرار التي حرمت شعوب المنطقة من النشوء و الولادة و الترعرع بشكل طبيعي و لم تسمح لها بالتمتع بالوقت الكافي و صفاء الذهن لتقوم بجمع شملها و التخطيط لنفسها و لمستقبلها و التفاعل مع بعضها. عاشت الشعوب العراقية في معمعة الحروب و في ظل الإستبداد و العنف و العبودية و الشمولية، منشغلة بالحروب و المعارك و الكفاح من أجل البقاء بتوفير مستلزمات الحياة لنفسها و بالعمل على إنقاذ نفسها من مخاطر الموت الآتية من الحروب أو من حشرها في زنزانات جلاديها أو المتسببة من الجوع و المرض و البرد. هذه الظروف المأساوية الفوضوية ساعدت بدورها في إضعاف التواصل بين الشريحة الفيلية و الشعب الكوردي.
نظراً للبُعد الجغرافي للفيليين عن كوردستان و فرض الثقافة العربية عليهم لعيشهم بين مجتمعات عربية تُشكّل الأكثرية السكانية في مناطق سكناهم، فأن اللهجة اللورية التي يتكلم بها الفيليون، أخذت تبتعد عن اللغة الكوردية و تدخل فيها الكثير من المفردات العربية. كما أن هذا البعد الجغرافي و إنعزال الفيليين في مناطقهم البعيدة عن كوردستان، خلق مشكلة التفاهم اللغوي بين هذه الشريحة و الشرائح الكوردستانية الأخرى. بإستثناء الإختلاط المحدود بين الفيليين و بقية الشرائح الكوردية عن طريق مساهمة بعض الفيليين في الحركات الكوردية المسلحة أو العمل في الأحزاب و المنظمات الكوردية أو الإحتكاك بين التجار الفيليين و أفراد الشرائح الكوردية، فأن الإتصال و التواصل الفيلي مع بقية المكونات الكوردية كانا ضعيفين و متواضعين.
الفيليون ينتمون الى المذهب الشيعي، بينما أكثرية المسلمين الكورد من سكان إقليم جنوب كوردستان يعتنقون المذهب السُنّي. إن الفيليين يقفون بين الإنتماء القومي و المذهبي. الإنتماء القومي و المذهبي لا يتعارضان مع البعض، حيث أن الأول يحدد قومية الفرد و الثاني يربط الإنسان بمذهب ديني معين. إلا أن الأمر يختلف بالنسبة للفيليين، حيث أن هناك وجود مرجعية شيعية (عربية) و أحزاب دينية شيعية في الساحة العراقية، تجعل الإنتمائين القومي و المذهبي تتعارضان الى حد ما بسبب إرتباطهم بالمرجعية الشيعية و إطاعة فتاوى مجتهديها و جذب الفبليين من قِبل الأحزاب الكوردية و الشيعية العربية على السواء لكسبهم و الإنخراط في صفوف تلك الأحزاب. هذه الحالة قسّمت الفيليين الى مجموعتين من حيث ولائهم المذهبي و القومي، حيث أن الشعور القومي يكون سائداً عند إحدى المجموعتين، بينما يسود الشعور المذهبي عند المجموعة الثانية. آثار هذا الإختلاف في إختيار الولاء للقومية أو المذهب كانت واضحة في الإنتخابات التشريعية التي جرت في العراق، حيث قام حاملو لواء القومية من الفيليين بالتصويت للجبهة الكوردستانية و حاملو لواء المذهبية منهم صوتوا للإئتلاف العراقي الموحد المؤلفة من الأحزاب الشيعية. يمكن رؤية نفس الحالة بالنسبة للمواطنين العرب و الفرس و الأفغان و الباكستانيين و الهنود، الذين ينتمون الى المذهب الشيعي أو السني و في نفس الوقت يتبعون قومياتهم العربية و الفارسية و الأفغانية و الباكستانية و الهندية على التوالي، حيث يعانون من نفس الإزدواجية نظراً لإزدهار كل من الشعور المذهبي و القومي لدى هذه الشعوب. نفس المشكلة يعاني منها الإيرلنديون، حيث ينتمي قسم منهم الى المذهب الكاثوليكي و القسم الآخر الى المذهب البروتستانتي، إلا أنهم جميعاً ينتمون الى القومية الإيرلندية و بذلك تتوزع ولاءاتهم بين المذهب و القومية، تبعاً لطغيان أحد الولائين على الآخر.
البُعد الجغرافي عن كوردستان و التشبع بالثقافة العربية و التهجير الهمجي الذي تعرض له الفيليون و سحب المواطنة العراقية منهم و الإستيلاء على ممتلكاتهم و أموالهم المنقولة و غير المنقولة، ساهم كلها في توزيع الولاء الفيلي بين القومية الكوردية و الوطنية العراقية. وجد الفيليون أنفسهم فجأةً يُرمون في العراء على الحدود العراقية – الإيرانية و يُجرّدون من حقوق المواطنة و يتم إغتصاب بيوتهم و ممتلكاتهم و تتم أنفلة شبابهم من قِبل النظام البعثي الفاشي. هذه الصدمة و المأساة الإنسانية التي لا يزالون يعانون من آثارها المدمرة، دفعتهم الى الإلتصاق بشكل أكثر بعراقيتهم و تقوية شعورهم الوطني العراقي من أجل إسترجاع حقوقهم المغتصبة و التمتع بحقوق متساوية مع كافة المواطنين العراقيين الآخرين و الإستقرار في وطن يؤمّن لهم و لأبنائهم حياة مستقرة و يضمن لهم مستقبل واعد. تشردّ الكثير منهم في إيران، حيث لا يُعترف بهم كلاجئين رسمياً ليتم التعامل معهم على الأسس التي جاءت بها المواثيق و المعاهدات الدولية و ذلك بالتمتع بحقوق الهجرة. معاناتهم في إيران من شظف العيش و ضبابية المستقبل لهم هناك، أجبرت الكثير منهم الى ترك إيران، قاصدين الدول الغربية، حيث إلتجئوا إليها و إستقروا فيها، و هذه أبعدتهم جغرافياً و ربما روحياً عن الكورد بشكل أكثر. هذا القلق من الضياع و الحرمان من الوطن، العراق، قد يكون ساهم في زيادة و نمو الشعور الوطني لدى الفيليين على حساب الشعور القومي.
القيادة و الأحزاب الكوردية ساهمت بدورها في عزل الفيليين عن الشرائح الكوردية الأخرى، حيث أن هذه القيادة لم تكن لها برامج و خطط لإحتضان الشريحة الفيلية و خلق مناخ جيد لتفاعلها و تكاملها مع المجتمع الكوردي و لا زالت تفتقر الى مثل هذه البرامج لإنجاز هذه المهمة. إن الشريحة الفيلية هي شريحة عريقة و كبيرة تتجاوز نفوسها أكثر من عشرة ملايين نسمة في الأقاليم الكوردستانية و خارجها. كما أن لأفراد هذه الشريحة خبرة طويلة في عالم المال و التجارة، حيث أنها كانت تُشكّل قوة إقتصادية و تجارية لا يُستهان بها في البنية الإقتصادية العراقية قبل إقدام النظام البعثي العراقي على تهجيرهم من البلاد و تجريدهم من ممتلكاتهم. هذه الشريحة عانت من الأنظمة العنصرية و الطائفية في العراق بشكل مضاعف، مقارنة بالشرائح الأخرى، حيث تم التنكيل بها و إضطهادها بسبب إنتمائها القومي و المذهبي معاً. الفيليون، كشريحة كوردية، لا يمكن إهمالهم و تركهم ينسلخون عن قوميتهم الكوردية و يستعربون أو السماح بتعريبهم، كما حصل للملايين منهم عبر الحقب التأريخية المختلفة. لذلك فأن تكامل الفيليين مع الشعب الكوردي، يحتاج الى كثير من العمل و التخطيط و البرامج من قِبل حكومة جنوب كوردستان. صحيح أن الكوردسانيين الجنوبيين، فُرضت عليهم الحروب و تعرضوا للإبادة و التعريب و التهجير و صحيح أن إقليم الجنوب كان ساحة للحروب المتواصلة من قِبل المحتلين، حيث تعرض للدمار و الخراب منذ مئات السنين، إلا أن هذا لا يعطي مبرراً لإهمال الشريحة الفيلية من قِبل قيادة الثورة الكوردستانية آنذاك، بل أنه بالإضافة الى كون الفيليين جزء لا يتجزأ من الشعب الكوردي، كما هو بالنسبة للشرائح الكوردية الأخرى، إلا أن هذه الشريحة، لكونها تعيش في المناطق العراقية خارج إقليم جنوب كوردستان و كونها خبيرة في عالم المال و الإقتصاد و التجارة، فأنها تكتسب أهمية إستثنائية للشعب الكوردي و الكوردستاني. بعد تحرير العراق من الحكم البعثي و مرور أربع سنوات على هذا التحرير، لم تهتم حكومة إقليم كوردستان بالشريحة الفيلية و تنظيمها و خدمتها و إحتضانها و مد يد المساعدة إليها لإستعادة حقوقها المغتصبة للمساهمة في تفعيل تواصلها مع أمتها.
النخبة الفيلية، من مثقفين و أكاديميين و سياسيين، يتحملون جزءً من المسئولية التأريخية في ضعف الشعور القومي للشريحة الفيلية و ضعف تفاعلها مع الشعب الكوردي. إننا يجب أن ندرك بأن كل شريحة كوردية هي جزء من النسيج الكوردي و بإندماجها و توحدها يتشكّل الشعب الكوردي. قسم من الفليين يتعاملون مع الوضع الكوردي و كأنما هم ضيوف لدى الشعب الكوردي أو غرباء عنه و لا يتصرفون كأصحاب البيت الكوردي. الشريحة الفيلية عليها أن تعي بأنها شريحة أصيلة من شرائح الشعب الكوردي و على أفرادها، و خاصة المثقفين منهم، تنظيم أنفسهم و القيام بالمبادرات الإيجابية لخدمة شريحتهم و تفاعلها مع شعبها، دون إنتظار الدعوة من قِبل الآخرين. معظم السياسيين الفيليين العاملين في الأحزاب الكوردية مصابين مع الأسف بداء الخمول و العزلة و اللامبالاة، حيث أنهم عاجزون عن لعب دور فعال في التنظيمات الكوردية و جذب الكثير من أفراد شريحتهم للعمل السياسي و وضع سياسة رشيدة في زيادة التفاعل الفيلي مع شعبه و ذلك بطرح مبادرات و خطط لخدمة هذه الشريحة العريقة بمساعدة التنظيمات الحزبية التي يعملون فيها و طرحها على حكومة إقليم جنوب كوردستان لتبنيها و تنفيذها، بالإضافة الى مطالبة الحكومة العراقية بالعمل على تمكن الفيليين من العودة الى وطنهم و إستعادة كافة حقوقهم المدنية و المادية و تعويضهم عن كل ما لاقوه من مظالم و إغتصاب حقوق و ممتلكات. على المثقفين الفيليين عدم التفرج و عدم إنتظار الآخرين لمد يد المساعدة إليهم و إنما هم أصحاب القضية و هم أولى بالمبادرة و العمل من أجل خدمة شريحتهم و أمتهم.
[1]