الفيليون: أصالة و عَراقة و آمال و هموم (10)
الفيليون في المهجر و مخاطر فقدان هويتهم و ذوبانهم في مجتمعاتهم الجديدة
1. التحديات التي يواجهها الفيليون في المهجر
لقد قام النظام البعثي الفاشي بتهجير مئات الآلاف من الفيليين من العراق الى إيران. آخرون هاجروا من بلادهم هرباً من جحيم النظام البعثي و قصدوا بلدان العالم، طلباً للأمان و العيش بكرامة. المُهجّرون الى إيران، لم يتم قبولهم كلاجئين رسميين، تبعاً للقوانين و المعاهدات الدولية، لذلك عاشوا هناك في ظروف سيئة، يعانون من الجوع و المرض و البطالة و يواجهون مستقبلاً مجهولاً، بعد أن إستولى النظام البعثي على ما ملكوا من ممتلكات و أموال و جرّدهم من كل شيئ، حتى من مستمسكاتهم العراقية الرسمية و ألقى بهم عراةً في حقول الألغام المزروعة على الحدود الإيرانية – العراقية. لكون غالبية الفيليين تنتمي الى المذهب الشيعي، فأن النظام الإيراني قام بإستغلال الكثير منهم، و خاصة الشباب، حيث قام بزجهم في أتون حروبه، و خاصة الحرب الإيرانية – العراقية، التي دامت لمدة ثماني سنوات، فجعل النظام الإيراني الكثير من أفراد هذه الشريحة الكوردية وقوداً لحروبه و أزهق أرواحهم. نتيجة هذه الظروف القاسية غير الإنسانية، التي عانى الفيليون منها في إيران، هاجر الكثير منهم الى البلدان الغربية، طلباً لحياة آمنة و مستقرة و بحثاً عن مستقبل جيد لهم و لأُسرهم. هكذا تفرقوا و توزعوا على بلدان العالم و إستقروا في أوروبا و أمريكا و كندا و أستراليا و غيرها من البلدان و بدأوا حياة جديدة هناك. آخرون منهم إستمروا في العيش في إيران و لا زال الكثير منهم يعيشون في هذا البلد. هكذا خسر الفيليون كل ما ملكوا و هُجّروا من بلادهم التي سكنوها منذ فجر التأريخ و التي بنوا فيها حضارات إنسانية راقية، أسهمت في خدمة البشرية جمعاء و التي يفتخر بها التأريخ الإنساني و يُشيد بعظمتها.
تشتت الفيليين في مختلف بقاع العالم و إستقرارهم في بلدان عديدة و العيش في ظل أنظمة حكم مختلفة و في مجتمعات ذات لغات و ثقافات متعددة و مختلفة، يتطلب إستراتيجيات و خطط و برامج و أعمال جبارة للحفاظ على لغتهم و ثقافتهم و التمسك بمشاعرهم القومية و الوطنية و روح الإنتماء الى الأمة الكوردية. في الحقيقة، أن مشكلة ذوبان المهاجرين في المجتمعات الجديدة التي إنتقلوا إليها في البلدان الأجنبية، لا تقتصر على الفيليين وحدهم، و إنما تواجه جميع المهاجرين و اللاجئين الذين تركوا بلدانهم الأصلية و إستقروا في بلدان أخرى، حيث تسود لغات و ثقافات البلدان التي ينتقلون إليها و بذلك ينقطعون عن التواصل مع لغاتهم و ثقافاتهم الأصلية و أنّ البُعد الجغرافي الذي يفصل المهاجر عن مجتمعه الأصلي و يمنعه من التواصل المستمر معه، يُزيد من سرعة و سهولة فقدان المهاجر لشخصيته الأصلية و لغته و ثقافته و الإنصهار في المجتمع الجديد. بالنسبة للمهاجرين الذين قضوا مرحلة من أعمارهم في أوطانهم و من ثم هاجروا الى بلدان أخرى في سن البلوغ، و الذين يُشكلون الجيل الأول في المهجر، فأنهم بمرور الوقت، سيعانون من إزدواجية الثقافة و يُصابون بالإرباك النفسي أو بالأحرى الصِدام الثقافي (Conflict Cultural)، حيث أنهم من جهة، يكونون قد قضوا فترة طفولتهم في بلدانهم الأصلية، فتكون ثقافتهم القديمة متأصلة فيهم، لا يمكن قطع جذورها و إزالتها كُلّياً، و من جهة ثانية فأنّهم يعيشون تحت تأثير الثقافات الجديدة المفروضة عليهم في بلدانهم الجديدة و بذلك يبدأ صراع الثقافات فيهم. أما بالنسبة للمهاجرين من الجيل الثاني، الذين هاجروا مع أُسرهم و هم أطفال أو الذين يولدون في المهجر من والدين ينتميان الى الجيل الأول، فأنهم ستيفاعلون مع مجتمعاتهم الجديدة بسرعة و بسهولة و يكتسبون لغاتها و ثقافاتها و يذوبون فيها و قد لا يختلفون عن السكان الأصليين و لا يتميزون عنهم سوى بملامحهم الخارجية. هكذا، بتعاقب الأجيال تنسلخ المهاجرون عن شعوبهم الأصلية و يصبحون منتمين الى المجتمعات الجديدة، لغةً و ثقافةً و إحساساً و موالاةً. بهذه الصورة، مع مرور الوقت يفقد الشعب الكوردي مواطنيه الذين يعيشون في المهجر و تنقطع صلتهم بكوردستان كلما تعاقبت الأجيال و يخسر الكورد الملايين من أبنائه و بناته.
بالنسبة الى المهاجرين الفيليين بشكل خاص و الكورد بشكل عام، فأن هناك وسائل مختلفة يمكن إتباعها للتواصل معاً و العمل على الإحتفاظ بهويتهم و ثقافتهم في غربتهم، و التي سأتحدث عنها في المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات التي أقوم بنشرها عن الفيليين. إتباع مثل تلك الوسائل قد تساعدهم في حمايتهم لشخصيتهم القومية و الوطنية لفترة قد تمتد لعدة أجيال، بعدها قد يذوبون في مجتمعات أوطانهم الجديدة و ينسلخون عن أمتهم و شعبهم و وطنهم.
إنّ الجاليات الكوردية في المهجر متخلفة كثيراً عن تحمل مسئولياتها القومية لخلق مجتمعات كوردية تتواصل مع بعضها و مع شعب كوردستان و تتفاعل أفرادها فيما بينها لإيجاد مجتمعات متجانسة و موحدة. هناك أسباب عديدة لظاهرة تشرذم و تفرّق هذه المجتمعات و تبرز عوائق كثيرة تقف بوجه تواصلها. يأتي في مقدمة تلك الأسباب ضعف الشعور القومي عند الكثير منهم، حيث أنه مثلاً هناك الكثير من العائلات الكوردية في المهجر تقوم بتعليم أطفالها اللغة العربية أو التركية أو الفارسية بدلاً من اللغة الكوردية (يعتمد ذلك على الإقليم الذي ينتمي إليه المواطن اكوردي، حيث أنّ الآتين من إقليمَي الجنوب و الغرب الكوردستاني يقومون بتعليم أطفالهم اللغة العربية في المدارس، هكذا التركية بالنسبة للكورد الشماليين و الفارسية للكورد الشرقيين) و حتى أنّه من المؤسف جداً أنّ هناك آباء و أمهات يتكلمون مع أطفالهم في البيت بإحدى تلك اللغات، التي هي لغة المحتل، بدلاً من لغتهم الكوردية. كما أن بعض الآباء و الأمهات يتكلمون مع أطفالهم بلُغة البلد الذي يعيشون فيه و يهملون اللغة الكوردية. في إجتماعات تُقام من قِبل منظمات و جمعيات كوردية و ندوات و محاضرات تقيمها تلك الجمعيات، تكون مداولاتها و مناقشاتها أيضاً بلُغة المحتل.
إحدى المعوقات الأخرى التي تقف حاجزاً بوجه توحّد كورد المهجر و تكاملهم و تكوين شخصية متميزة لهم، هي إنتماءاتهم الى جاليات الشعوب المحتلة لكوردستان من تركية و إيرانية و عراقية و سورية، حيث يساهم الكورد في منظمات و جمعيات و إتحادات و تجمعات جاليات الدول المحتلة لكوردستان. إن هذا التعدد في الإنتماءات و التبعية للمحتلين حتى في دول المهجر، تُشكّل شرخاً في وحدة كورد المهجر و عائقاً في طريق توحّدهم و تقاربهم و تجانسهم. تعدد الإنتماءات الحزبية للكورد الذين يعيشون في المهجر، هو مشكلة أخرى أمام توحيد كلمة الكورد و تعاونهم و حماية ثقافتهم و الإنخراط في العمل الكوردستاني الموحد لتحرير بلادهم المحتلة و توحيد شعبهم المجزأ و جمع شملهم. إنتماء هؤلاء الأفراد الى الأحزاب الكوردستانية يجعلهم ينفذون أيدولوجيات و سياسات و مواقف أحزابهم، بدلاً من حمل فكر قومي متحضر يجمع الجميع تحت خيمته و يعملون كخلية نحل، يجمعهم هدف واحد في تعاون و تآزر، يدبُّ فيهم النشاط و الهمّة لتحقيق أماني أمتهم في التحرر و الوحدة. نتيجة إحتلال كوردستان و سيادة أفكار و ثقافات الشعوب المحتلة لها، فأن الشعب الكوردي، كأفراد و أحزاب، قد وقع تحت تأثير تلك الأفكار و الثقافات، فتوزعت إنتماءات الكورد بين إنتماءات الى الشعوب المحتلة و الإنتماء الى أمتهم الكوردية، و بذلك تفرّق شملهم و إختلفت أهدافهم و تشتت و تخاذلت قواهم. هذا الوضع البائس خلق أعداداً لا يُستهان بها من أفراد الجاليات الكوردية الذين يُصرّحون بأنهم مواطنون أتراك أو إيرانيون أو سوريون أو عراقيون، بدراية منهم أو بدونها، و هذا الإقرار الخطير يعني إعترافهم بواقع تقسيم كوردستان و تشتت شعبها و الذي يؤدي الى ترسيخ إحتلال كوردستان و هذا الأمر يلتقي مع أهداف و أماني محتلي كوردستان. إنْ نعترف بذلك أم لم نعترف، فأننا بهذا الإقرار نخدم مخططات محتلي كوردستان، لتتريك و تفريس و تعريب كوردستان و شعبها و محو ثقافته و إنقراض لغته و نهب ثرواته.
من الأسباب الأخرى لإنقطاع التواصل الكوردي في المهجر هي إنشغال المجتمعات الكوردية بحياتها المعيشية اليومية و تغليب الإنتماءات الحزبية و اللهجوية و المناطقية و الدينية و الطائفية على الإنتماء الوطني القومي. إستقرار كورد المهجر في رقعة جغرافية كبيرة و واسعة، تغطي معظم دول العالم و إنتشارهم في مدن و قصبات عديدة متفرقة و متباعدة عن بعضها داخل الدولة الواحدة، هو سبب آخر لفشل كورد المهجر في خلق مجتمعات متجانسة و فعالة و إفتقادهم لإستراتيجيات و خطط و برامج للحفاظ على هويتهم و ثقافتهم و لغتهم في المهجر. كما أنّ تعدد اللهجات بين الكورد لا زال يُشكّل عاملاً من العوامل الذي يعيق تواصلهم مع البعض و تجانسهم و توحيد كلمتهم و تحقيق تفاعلهم و العمل الموحد من أجل تحقيق أهداف أمتهم. الإنتماء الديني و المذهبي و القبلي للكورد قد يكون عائقاً آخراً لجمع شمل الكورد الذين يعيشون في المهجر، حيث لا زالت هذه الإنتماءات متجذرة في نفوس قسم منهم. كذلك المصالح و الطموحات الشخصية الضيقة يمكن إضافتها الى أسباب تفرّق الكورد الذين يعيشون خارج كوردستان.
فيما يتعلق بإستقلال كوردستان، الموضوع الذي يُشكّل المحور الرئيس في كثير من مقالاتي، قد يتهمني البعض بالطوباوية و الخيالية، بحُجة أنّ الظروف الذاتية و الإقليمية و العالمية و الجيو- سياسية غير مؤاتية لإستقلال كوردستان، حيث أنّ كوردستان محتلة من قِبل أربع دول و هذه الدول تُشكّل طوقاً محكماَ حولها و أنّ كوردستان تفتقد الى منفذ بحري ليكون مصدر إتصال لها بالعالم الخارجي و أنّ الدول المحتلة تتعاون و تُنسّق فيما بينها لتكريس إحتلالها لها و الحكومات الإقليمية و العالمية تقف ضد تحرر كوردستان و توحدها و غيرها من المعوّقات. يُردد مثل هذه المبررات بعض المسئولين و الكُتّاب و المثقفن الكورد و غير الكورد، لتثبيط همم و معنويات شعب كوردستان و زرع اليأس في نفوسه و إضعاف ثقته بنفسه و لقهر إرادته و إرغامه على الإستسلام و الخنوع و القبول بالأمر الواقع و ذلك بالإبقاء على كوردستان مُقسّمةً و محتلة و أن يعيش شعبها تحت نير المحتلين كتابعٍ ذليل لهم، يحكمونه بالحديد و النار و يستمرون في نهب ثروات بلاده. صحيح أنّ كلُّ تلك المعوّقات موجودة لا يمكن نكرانها، إلا أنّنا لو نظرنا الى شعب كوردستان و طاقاته و قدراته الكامنة، لتوصلنا الى حقيقة مفادها أن تحرر هذا الشعب العريق و إستقلال بلاده ممكنان بكل تأكيد إذا ما قمنا بتطوير العامل الذاتي لشعب كوردستان و جعله ناضجاً. لا يخفى أن نفوس الكورد تبلغ حوالي خمسين مليون نسمة و تبلغ مساحة كوردستان أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع و كوردستان تحتوي على مخزون هائل من البترول و المعادن المختلفة و تقع منابع نهرَي دجلة و الفرات فيها و تضاريسها المتنوعة تؤهلها أن تصبح بلداً زراعياً كبيراً و قبلةً للسياح و المصطافين. الى جانب كل تلك المميزات و الإمكانيات البشرية و الطبيعية لكوردستان و موقعها الإستراتيجي الهام، فأننا بحاجة ملّحة الى تأصيل الفكر القومي الوحدوي المعاصر في نفوس الشعب الكوردستاني و ترببيته على ثقافة الإستقلال و التوحيد و مساعدته للعثور على ذاته و على هويته و صيانة ثقافته و تنقيتها من ثقافات الشعوب المحتلة و إيجاد لغة موحدة له و تطويرها و العمل على إطلاعه على تأريخه المجيد، الممتد في أعماق التأريخ. عندما ننجز هذا العمل، سيصبح الطريق أمام هذا الشعب ممهداً الى حيث حريته و إستقلاله و رفاهيته، و خاصة و نحن دخلنا في إنعطافة تأريخية مهمة، حيث العولمة و ثورة الإتصالات و المعلومات التي ستؤدي بدورها الى الإسراع في تحقيق الحلم الكوردي في كسر قيود العبودية و بزوغ شمس الحرية في سماء كوردستان.
هنا أحب أن أوضح بأنه فيما يتعلق بكتاباتي حول الأهداف و المطامح الكوردستانية، فأنني أهدف الى وضع إستراتيجية طويلة الأمد لشعب كوردستان لتحقيق حريته و إستقلاله. لا يهّم فيما لو تتحرر كوردستان غداً أو بعد عقود أو قرون، الأهم من ذلك هو خلق شعب يعرف نفسه و يؤمن بإستقلال وطنه و يتعرف على أمجاد حضارات أسلافه و يصون لغته و يطوّر نفسه. حينذاك لا تكون هناك قوة على كرتنا الأرضية قادرة على الوقوف أمام تطلعات هذا الشعب و منعه من تحقيق حلمه في الحرية و الإستقلال. لننظر الى الشعب الإسرائيلي الذي ظل يحلم بوطنه لأكثر من ألفين عاماً و ناضل و عمل من أجله بكل مثابرة و عزم و إرادة، دون أن تتسلل الى نفسه روح اليأس و التخاذل و دون أن يشعر بتعبٍ و كللٍ و ضعفٍ و تردد، الى أن تمكن من تحقيق حلمه الجميل و قام بتأسيس أول دولة ديمقراطية متحضرة في الشرق الأوسط و بنى أول دولة متقدمة في المنطقة، تضاهي تقدم الدول الغربية العملاقة. يجدر بالكورد أن يقرأوا تأريخ إسرائيل و يطّلعوا على مذكرات قادة إسرائيل، مثل بن غوريون و غولدا مائير و مناحيم بيغن و غيرهم، ليعرفوا كيف بُنيت إسرائيل و النضال الشاق و المضني الذي خاضه شعب إسرائيل و الحياة الصعبة و المريرة التي عاشها من أجل حريته و التضحيات الجسام و القرابين العظام التي قدّمها من أجل حياة حرة كريمة له و لأجياله القادمة. بقراءة مثل تلك المذكرات، سيتحقق القارئ بنفسه من مدى تفاني و نكران ذات القادة الإسرائيليين في سبيل حرية شعبهم و بلدهم و المخاطر و المشاكل و الصعوبات التي واجهتهم والتضحيات السخية التي قدموها و كيف بعد أن حققوا حلمهم في الإستقلال و أعلنوا تأسيس دولة إسرائيل، لم يتهافت القادة الإسرائيليون و لم يتشاجروا على الغنائم و المناصب، بل كلهم، بلا إستثناء، أعلنوا أنهم أدوا واجبهم الوطني و تحقق حلم شعبهم و بذلك إعتقدوا بأنّ دورهم السياسي قد إنتهى و يجب أن يعودوا الى بيوتهم و أُسرهم، إلا أنهم إكتشفوا أن دولتهم بدونهم ستبقى بدون حكومة تديرها و سينتج عنها فراغ سياسي في البلاد، مما دفعهم الى إجبار بن غوريون على قبول تولي رئاسة مجلس وزراء إسرائيل و بذلك أصبح أول رئيس وزراء لدولة إسرائيل. الإسرئيليون لم يرفعوا شعار الحكم الذاتي أو الفيدرالية و لا الكونفيدرالية، كما يرفعها الكورد، بل وضعوا هدف الإستقلال نصب أعينهم منذ البداية الى أن حققوا إستقلال بلادهم.
[1]