(تركيا) ..... الى أين؟ (2)
د. مهدي كاكه يي
الدولة العثمانية
1. تأسيس الدولة العثمانية و إنهيارها و بعض الحروب التي خاضتها
أواصل في هذه المقالة التحدث عن التأريخ التركي و الإلمام به ليكون لنا عوناً في رسم صورة واضحة عن الظروف التي مرّ بها الشعب التركي و دور تلك الظروف التأريخية في تكوين الثقافة و الشخصية التركية التي نراها اليوم. بعد أن ألقيت الضوء على تأريخ بعض القادة المغول المشهورين في مقالتي السابقة، حيث ينتمي الأتراك الى قبائل المغول، أتناول في هذه المقالة تعريف القارئ العزيز بالعثمانيين و الحروب المدمرة التي أشعلوها في منطقة شاسعة من العالم، شملت ثلاث قارات، بعد أن نزحوا من أواسط آسيا الى منطقة الأناضول في نهاية القرن الحادي عشر للميلاد. من خلال الغوص في أعماق التأريخ، نتمكن من مسايرة تطورات المجتمعات البشرية و ربط هذه التطورات بحاضر هذه المجتمعات و رؤية أفق و ملامح مستقبلها.
أدت الغزوات المغولية و التحارب بين القبائل المغولية في موطنهم، آسيا الوسطى، الى هجرة أعداد كثيرة من القبائل التركية من وسط آسيا إلى الأناضول. تعاظمت هجرات هذه القبائل بعد إنتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة ملاذكرت في عام 1071 الميلادي. مع تلك القبائل التركية التي هاجرت الى الأناضول، هاجرت عشيرة قايي التابعة لقبيلة الغز الأغوز التركية من موطنها الأصلي، في آسيا الوسطى، لتستقر في الأناضول، في كنف الدولة السلاجوقية، في حوالي عام 1123 الميلادي. كان رئيس تلك العشيرة رجل يُدعى سليمان. ظل سليمان يتنقل مع عشيرته من منطقة الى أخرى، حيث إنتقل الى أخلاط، ومنها إلى أرضروم، و ثم إلى أماسية في الأناضول. بعد ذلك إتجه نحو حوض الفرات و شرقي حلب. غرق رئيس القبيلة ااتركية سليمان أثناء عبوره نهر الفرات، ودُفن في قلعة جعبر داخل الحدود السورية، ولا يزال قبره يقع هناك إلى يومنا هذا. فيما بعد أسس أحد أحفاد سليمان المدعو عثمان بن أرطغرل الدولة العثمانية، حيث سُميت الدولة العثمانية بإسمه وبذلك أصبح مؤسس الدولة العثمانية و الذي سنأتي على ذكره.
تولى زعامة العشيرة بعد وفاة سليمان، إبنه أرطغرل سبيمان، حيث تحرك بعشيرته شمالاً مرة أخرى إلى الأناضول. إشترك أرطغرل في حروب السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الأول ضد المغول وأبلى هو و رجاله بلاءً حسناً؛ فمنحه السلطان علاء الدين السلجوقي منطقة قراجة طاغ القريبة من أنقرة في عام 1133 الميلادي. توفي أرطغرل في عام 1281 الميلادي. Sogud في بلدة سوكود
تولى بعده ولده عثمان رئاسة عشيرته وحاكماً للمقاطعة و الذي أسس الدولة العثمانية. أخذ عثمان يشن الغارات والحملات الهجومية على البيزنطيين، ويكسب منهم مناطق يضمها الى الدولة السلجوقية. منحه السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث مناطق يني شهر و إينونو في عام 1289 الميلادي. ولد عثمان بن أرطغرل في عام 1258 الميلادي في بلد سوكود و التي تُسمى أيضاً عثمانجق وتوفي في عام 1326 الميلادي. نشأت الدولة العثمانية كإمارة صغيرة في عام 1299 الميلادي على يد عثمان أرطغرل، حيث توسعتهذه الإمارة مع مرور الوقت توسعاً كبير،اً فشملت ثلاث قارات التي هي آسيا و أفريقيا و أوروبا، وأصبحت دولة قوية مترامية الأطراف. .إستمر الحكم العثماني الى عام 1924 الميلادي، حيث إختفت الإمبراطورية العثمانية في هذا العام وقامت على أنقاضها دولة (تركيا) الحالية بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى. بذلك يكون الحكم العثماني قد دام لمدة 661 سنة، و الذي خلال هذه الفترة، تمكنت الدولة العثمانية من إحتلال القسطنطينية، والهيمنة على أجزاء شاسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا. ظلت الدولة العثمانية تقوم على ثلاثة بحار هامة، وهي البحر المتوسط و البحر الأسود و البحر الأحمر وقد توالى على عرش السلطة فيها ستة وثلاثون سلطاناً و كانوا ينحدرون من سلالة واحدة.
من هنا نرى أن تأسيس الدولة العثمانية قد تمّ في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي. كان العثمانيون، بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي في منطقة طوران الواقعة في جمهورية أوزبكستان الحالية، عبارة عن قبيلة تركية تعيش على الساحل الشرقي لبحر مرمرة الى الجنوب من مدينة القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية. بدأت بداية تكوين الدولة العثمانية و نموها و توسعها بإستغلال هذه القبيلة التركية ضعف الدولة البيزنطية، فأخذت تشن عليها الغارات بإسم الإسلام و الجهاد في سبيل الله.
بعد أن أصبحت الدولة العثمانية مستقلة استقلالاً تاماً، توسعت جبهات القتال مع البيزنطيين. وكان من أهم أهداف الأمير عثمان هو فتح مدينة بورصا و إتخاذها عاصمة للدولة العثمانية. ظل هذا هدفاً يطمح إليه الأمير عثمان حتى آخر حياته. حاصر عثمان مدينة بورصا، الواقعة في غرب الأناضول في عام 1314 الميلادي، ولكنه لم يتمكن من إحتلالها. توسعت منطقة نفوذ عثمان و إمارته، فشملت مناطق سوغود، ودومانيج، وإينه كول، ويني شهر، وإن حصار، وقويون حصار، وكوبري حصار، ويوند حصار وجعل في عام 1300 الميلادي، يني شهر مركزاً لتلك الإمارة. أمر عثمان، وهو على فراش الموت، ولده أورخان بفرض الحصار على مدينة بورصا و بذل الجهود لإحتلالها. نجح أورخان في ذلك، و أُخبر الأمير عثمان بالخبر السار وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ونُقل جثمانه إلى مدينة بورصا بعد وفاته.
توالت نجاحات الدولة العثمانية طيلة حكم السلطان أورخان، الذي يعد أول أمير عثماني يُسمى بلقب السلطان. في عام 1335 الميلادي، كوّن جيشاً منظماً، ومدرباً و إنضمت بعض الإمارات السلجوقية إلى الدولة العثمانية، التي وصلت حدودها إلى البحر الأسود، بعد أن إستولت على أسكودار، التي هي الضفة الآسيوية من مدينة إستانبول. وفي الوقت نفسه، توسعت الدولة في الجانب الشرقي من البلاد، حيث نجحت في إحتلال مدينة أنقرة في عام 1354 الميلادي.
قام العثمانيون بإحتلال بلغاريا في عام 1396 الميلادي و ضمها الى الدولة العثمانية. أبرمت كل من الدولة العثمانية و روسيا إتفاقية سان ستيفانو في سنة 1878 الميلادية لإنهاء الحرب بينهما و التي بموجبها حصلت بلغاريا على الإستقلال، إلا أنها بقيت تحت السيطرة الفعلية للعثمانين. أُعلن قيام مملكة بلغاريا في سنة 1908 الميلادية و تم تنصيب فيرديناند الأول ملكاً لها. هكذا بقيت بلغاريا تحت الإحتلال العثماني لمدة أكثر من أربعمائة سنة.
إستفحل أمر الدولة الصفوية، بعد عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي استخدم اللين مع الشاه إسماعيل الصفوي.حدثت معركة جالديران التي جرت في عام 1514 الميلادي بين الصفويين و العثمانيين، انتصاراً باهراً للعثمانيين وهزيمة كبيرة للصفويين، حيث توغل الجيش العثماني بعدها في إيران حتى وصل إلى تبريز. وقد ثبّت ذلك الإنتصار أقدام العثمانيين في الأناضول.
نتيجة حدوث إضطرابات في بلاد فارس بعد وفاة طهماسب في عام 1577 الميلادي، أرسل العثمانيون حملة عسكرية تمكنوا خلالها من إحتلال مدينة تفليس و كرجستان (الكرج) ودخل العثمانيون بعدها مدينة تبريز و ذلك في عام 1585 الميلادي وتمكنت فيها جيوش مراد الثالث من السيطرة على أذربيجان وجورجيا وشيروان ولورستان. نزاع العثمانيين مع إيران إستمر لمدة ثلاثة قرون تقريباً.
عندما علم السلطان العثماني سليم الثاني، أن سلطان المماليك الغوري في مصر قد تحالف مع الشاه إسماعيل الصفوي، ضد الدولة العثمانية، قرر الهجوم على الشام ومصر لتأمين جبهته الغربية. إلتقى الجيشان على مشارف حلب، في معركة مرج دابق الشهيرة التي حدثت في سنة 1517 الميلادية، فإنتصر العثمانيون على جيش المماليك وقُتل في هذه المعركة سلطان المماليك الغوري و تم إحتلال الشام وفلسطين من قِبل العثمانيين. بعد ذلك تم إحتلال مصر بعد إنتصار العثمانيين على المماليك في معركتي غزة و الريدانية. بعد إحتلال مصر، قام شريف مكة بتقديم الطاعة للسلطان سليم و بذلك أصبح حجاز تحت الحكم العثماني و أصبح اليمن أيضاً جزء من الإمبراطورية العثمانية و بذلك إكتملت فيه سيطرة العثمانيين على العالم العربي، والتي استمرت لمدة أربعة قرون.
في عهد السلطان سليمان القانوني تم إحتلال بلغراد و قلعتها الحصينة في سنة 1521 الميلادية و في عام 1526 الميلادي، إحتل مدينة بودابست. وصل السلطان سليمان إلى أبواب فيينا في عام 1529 الميلادي و لكنه ترك حصارها بعد وقت قصير. حاصر مدينة فيينا للمرة الثانية في عام 1532 الميلادي، إلا أنه لم يفلح في هذه المرة في مسعاه لإحتلال المدينة. في عام 1683 الميلادي، حاصر الأتراك فيينا للمرة الثالثة ولكن استطاع جراف شتارهمبرج في معركة عند جبل الكالينبرج رد الهجوم التركي على أعقابه. في عام 1686 الميلادي، تم تحرير مدينة بودابست من الإحتلال التركي بعد 145 عاماً من السيطرة التركية عليها.
في عهد السلطان مراد الثالث، إندلعت عدة حروب في أماكن مختلفة. في عام 1574 الميلادي، هرب ملك بولندا هنري دي فالوا قاصداً فرنسا، فأوصى الخليفة العثماني أعيان بولونيا بإنتخاب أمير ترانسلفانيا ملكاً عليهم و بذلك أصبحت بولندا تحت الحكم العثماني في عام 1575 الميلادي.
في عام 1577 الميلادي، حدثت في مراكش ثورة، حيث إستعان زعيمها بالبرتغاليين، و إستنجد السلطان بالخليفة، فأرسل قوة من طرابلس إشتبكت مع البرتغاليين في معركة القصر الكبير جنوب طنجة، حيث إنتصر فيها العثمانيون وحلفاؤهم على البرتغاليين وأنصارهم، و أصبحت مراكش تحت الحكم العثماني من جديد.
قام الإنكشاريون بتمرد وعصيان في الولايات العثمانية بعد توقف الحروب، في مدن إستانبول و القاهرة و تبريز و بودا و قاموا بقتل الولاة، حيث كان السلطان آنئذ قد كلفهم بالقيام بحرب المجر، غير أنهم هُزموا أمام النمسا التي ساندت المجر. كما أعلن أمراء الأفلاق والبغدان وترانسلفانيا التمرد و إنضموا إلى النمسا في حربها مع العثمانيين ، فسار إليهم سنان باشا عام 1594 الميلادي، غير أنه لم يحرز أي نصر، بل خسر عدة مدن.
إحتل العثمانيون إحتل العثمانيون بلاد اليونان في عهد سليمان القانوني، ومثلت مع مقدونيا وأجزاء من بلغاريا وكوسوفو وألبانيا، الإقليم المعروف بالروملي الشرقي، ومع ضعف الدولة العثمانية أخذ اليونانيون في التطلع نحو الإستقلال عن الدولة العثمانية، وإحياء الإمبراطورية البيزنطية القديمة، وكان القساوسة والبطارقة هم نواة هذه الجمعيات وقادتها وكانت روسيا تدعم هذه الجمعيات بكل قوة لوحدة المذهب والهدف المشترك.
حانت الفرصة لليونانيين، عند انشغال العثمانيين بالقضاء على بعض الولاة الخارجين عن سلطتهم، فثاروا في سنة 1821 الميلادية. أرسل السلطان محمود الثاني القائد خورشيد باشا للقضاء على هذه الثورة ولكنه فشل في مهمته، فكلَّف والي مصر «محمد علي باشا» بالقضاء على هذا التمرد، فأرسل محمد علي أسطولاً كبيراً بقيادة ابنه «إبراهيم باشا» الى اليونان و إستطاع هذا الأسطول القوي أن يحرز عدة انتصارات على اليونانيين وفتح ميناء نافرين في العاصمة أثينا. تحالف كل من روسيا و إنجلترا و فرنسا معاً لإجبار الدولة العثمانية على إعطاء اليونان إستقلالها، فتحركت أساطيل الدول الثلاث إلى سواحل اليونان وطلبت من إبراهيم باشا التوقف عن القتال، إلا أنه رفض طلبها و إستطاعت تلك الأساطيل من تدمير الأسطول المصري في ميناء نافرين. بعد هذا الإنتصار الأوروبي، عقدت الدول الثلاث مؤتمرًا في لندن ودُعيت إليه الدولة العثمانية، إلا أنها رفضت الحضور. في هذا المؤتمر، قررت الدول الثلاث إعلان إاستقلال اليونان عن الدولة العثمانية وذلك في 25 مارس عام 1831 الميلادي.
سادت فترة من السلام بين الدولة العثمانية وروسيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي بعد حروب طاحنة واشتباكات دامية أثقلت كاهل الدولتين، وكان وراء هذه السياسة السلمية الصدر الأعظم خوجة راغب، حيث أبرم معاهدة صلح مع روسيا. هذه السياسة لم تستمر طويلاً، فإشتعلت العداوة بينهما من جديد. لم يكن هناك مَن ينزع فتيل الأزمة بين الدولتين بعد وفاة الصدر الأعظم خوجة راغب الذي كان سياسياً محنكاً، ولم تكن الدولة العثمانية مستعدة لتحمل تبعات حرب بعد فترة سلام طويلة دامت نحو 29 سنة، حيث لم يقم الجنود العثمانيون خلالها بأية عمليات عسكرية، ففترت همتهم، وضعفت كفاءتهم العسكرية، في الوقت الذي كانت فيه إمبراطورة روسية كاترين الثانية تعد جيشها وتجهّزه و تدربه ليكون مؤهلاً لخوض الحرب والقتال.
بدأت الحرب بين الدولة العثمانية و روسيا، حيث بدأ الروس إنتصاراتهم على العثمانيين، فإستولوا على بلاد القرم، وأعلنوا انفصالها عن الدولة العثمانية واستقلالها تحت حماية روسيا، وأقاموا حاكمًا عليها بإسم كاترين الثانية إمبراطورة روسيا. إضطرت الدولة العثمانية إلى عقد هدنة مع روسيا في عام 1772 الميلادي، غير أن روسيا إشترطت إعتراف الدولة العثمانية باستقلال تتار القرم، وطالبت بحرية الملاحة لسفن روسيا في البحر الأسود و البحر الأبيض المتوسط. هكذا كانت أحوال الدولة العثمانية تسير من سيئ إلى أسوأ، حيث كانت تتلقى الهزائم على يد روسيا. إضطر العثمانيون إلى طلب الصلح، حيث عُقد مؤتمر في مدينة كاينجاري ببلغاريا في 21 تموز من عام 1774 الميلادي، و الذي تم خلاله عقد معاهدة كيتشك كاينجاري بين الطرفين. بمقتضى هذه المعاهدة، تم إستقلال القرم و منح الحكم الذاتي لرومانيا تحت السيادة العثمانية.
هكذا نرى أن الأتراك بهجرتهم الى منطقة الشرق الأوسط و تأسيسهم للإمبراطورية العثمانية، أغرقوا المنطقة في دوامة من العنف و الحروب و الدمار و القتل و المجاعة، حيث أشعلوا نيران حروبهم التوسعية في أوروبا و آسيا و أفريقيا و قاموا بمجازر رهيبة ضد الشعوب التي قاموا بإحتلال بلدانهم، تدفعهم القيام بهذه المجازر نزعتهم القومية العنصرية و تعصبهم الديني و المذهبي، بالإضافة الى ثقافة العنف و النهب التي جلبوها معهم من موطنهم الأصلي في آسيا الوسطى و هذه ما سأقوم بالتحدث عنها في المقالة القادمة.
المصادر
لونكريك، ستيفن همسلي (1962). أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث. ترجمة جعفر الخياط، بغداد.
الحصري، ساطع (1956). محاضرات في نشوء الفكرة القومية. بيروت.
الوردي، علي (2004). لمحات إجتماعية من تأريخ العراق الحديث. الجزء الأول.
الوردي، علي (2004). لمحات إجتماعية من تأريخ العراق الحديث. الجزء الثاني.
زكي، محمد أمين (1961). خلاصة تأريخ الكرد و كردستان من أقدم العصور التأريخية الى الآن. ترجمة محمد علي عوني. الجزء الأول، الطبعة الثانية.
[1]