( تركيا) ..... الى أين؟ (7)
د. مهدي كاكه يي
الأمن القومي التركي
1. عوامل القوة التي ترتكز عليها الدولة (التركية)
قبل التحدث عن عوامل القوة في الأمن القومي التركي، أرى أنه من المفيد الإشارة الى أن (الصدفة أو الحظ) أو الأحداث العالمية و الإقليمية خدمت الدولة (التركية) و ساعدتها على البقاء و الإستمرارية منذ إنهيار الإمبراطورية العثمانية و تأسيس جمهورية (تركيا) الحديثة. بعد إحتلال مدينة إستانبول من قِبل القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى، تم الإتفاق بين البريطانيين و كمال أتاتورك على تشكيل دولة (تركيا)، و بذلك حظي كمال أتاتورك بتأييد بريطاني ضمني في مسعاه لإيجاد كيان سياسي (تركي) على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، إلا أن ذلك التأييد كان مشروطاً بقيام أتاتورك بإنهاء الخلافة و السلطنة (الإسلامية) العثمانية و بناء نظام علماني للدولة الجديدة و التي قَبِل بها أتاتورك. قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، بينما كانت القوات الروسية تستحوذ على أجزاء من الأراضي (التركية) الحالية و خاصة أرمينيا و أجزاء من كوردستان، حدثت ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا، حيث قررت الحكومة الروسية الجديدة سحب قواتها من (تركيا) الحالية. لولا حدوث الثورة المذكورة، لَكانت الخريطة السياسية للمنطقة مختلفة عما نراها الآن و كان من المرجح جداً ظهور أرمينيا و كوردستان كدولتين جديدتين في المنطقة و لَكانت جغرافية تركيا تقتصر على مدينة أنقرة و المناطق المحيطة بها و لأصبحت مدينتا إستانبول و إزمير جزء من اليونان. كما أن ظهور الدولة الروسية (الشيوعية) في المنطقة و تبنيها آيديولوجية مناقضة للرأسمالية و إنتهاجها سياسة معادية للغرب، ساعدت تركيا على إلغاء معاهدة سيفر و إحلال معاهدة لوزان محلها. بعد إنشاء الإتحاد السوفيتي، إنقسم العالم الى قطبين متنافرين، قطب العالم (الشيوعي) و القطب الرأسمالي، و تم تأسيس كل من الحلفين العسكريين المتنافسين، وارشو و الأطلسي، و بدأت بذلك الحرب الباردة بين القطبين العالميين. تلك الحرب الباردة منحت (تركيا) أهمية إستراتيجية قصوى للحلف الغربي و أصبحت دولة (مدللة) من قِبل الدول الغربية، بعد أن أصبحت عضوة في الحلف الأطلسي و تُشكل رأس الرمح للجبهة الجنوبية لهذا الحلف. حرب تحرير الكويت ساهمت أيضاً في رفع الرصيد الإستراتيجي ل(تركيا) نتيجة حاجة التحالف الدولي، الذي قام بتحرير الكويت، الى مساعدات لوجستية من (تركيا) نظراً لقرب موقعها من منطقة النزاع و وجود قواعد عسكرية للناتو فيها. علاقة (تركيا) الجيدة مع دولة إسرائيل المحاطة بالأعداء من كل الجهات، تمنح أهمية إستراتيجية ل(تركيا) بالنسبة للعالم الغربي. كما أن الأزمة القائمة في الوقت الحاضر بين كل من إيران و الدول الغربية، رفعت من أهمية (تركيا) للغرب لتجاورها لإيران و تواجد قوات الناتو فيها، إلا أن هذه الأهمية لا يمكن مقارنتها بالأهمية القصوى التي كانت لها في فترة الحرب الباردة لسببين رئيسيين، أولهما هو ضحالة الخطر الإيراني للغرب، مقارنة بالتحدي السوفيتي له و السبب الثاني هو الفترة القصيرة التي يحتاجها الغرب لمواجهة التحدي الإيراني و إزالة مخاطر تهديداتها للمصالح الغربية، قياساً بالحرب الباردة التي إستغرقت فترة طويلة.
لا شك أن (تركيا) دولة كبيرة و شاسعة و ذات كثافة سكانية عالية، حيث تبلغ نفوسها حوالي سبعين مليون نسمة و مساحتها هي 779452 كيلومتر مربع. كما أن (تركيا) تحتل موقعاً إستراتيجياً مهماً في المنطقة كجسر يربط بين آسيا و أوربا و قربها من الدول الخليجية و دول وسط آسيا التي تحتضن أراضيها معظم مخزون البترول العالمي. تقع منابع نهرَي دجلة و الفرات في القسم المحتل من كوردستان من قِبل (تركيا). وقوع هذه المنابع المائية في (تركيا) مكّن الأتراك من إستغلالها لإنتاج الطاقة الكهربائية و تحويل مساحات شاسعة في المنطقة الى أراضٍ زراعية و منطقة لتربية الحيوانات، كما أنه نظراً لإعتماد كل من سوريا و العراق على مياه دجلة و الفرات كمصدر لماء الشرب و للزراعة، فأن الحكومة التركية تستخدم تزويد هذين البلدين بالمياه كضغط سياسي عليهما. تطلّ (تركيا)، كما هو معروف، على كل من البحر الأبيض المتوسط و البحر الأسود، رابطةً بذلك قارة أوربا بآسيا عن طريق البحر أيضاً، بالإضافة الى كونها ممراً برياً و جوياً بين القارتين المذكورتين. كما أن تصدير البترول من مدينة كركوك الى الخارج يتم عن طريق الموانئ التركية، حيث تمتد أنابيب نقل النفط من كركوك الى هناك.
إن النظام العلماني و الديمقراطي في بلد ما يُعتبر دعامة قوية للأمن القومي لذلك البلد لحلّه مسألة الحكم بالطرق السلمية و إختيار الحكام من قِبل الشعب و بإرادته و الذي يجعل الجبهة الداخلية قوية و يدفع البلاد نحو التطور و الإزدهار و التقدم. النظام التركي يخدم هذا التوجه، إلا أن الديمقراطية و الحريات العامة في هذا البلد يعاني من نواقص و إنتهاكات و إختراقات خطيرة، حيث أن الجيش التركي هو الحاكم الفعلي في (تركيا) بحجة الدفاع عن النظام العلماني في هذا البلد، دون أن يحترم إرادة الشعب و رغباته. كما أن وضع شرط حصول أي حزب (تركي) على نسبة 10% من أصوات الناخبين كأدنى حد للتمكن من النجاح في الوصول الى البرلمان التركي، يُعتبر خرقاً للنظام الديمقراطي، حيث يحرم الأحزاب الصغيرة من فوز ممثليها بالتمثيل البرلماني. هذا القانون تم وضعه بصورة خاصة لعرقلة دخول الأحزاب الكوردية الى البرلمان (التركي) و حرمانها من تمثيل شعب كوردستان فيه. كما أن حريات الصحافة و التعبير تتعرض لإنتهاكات خطيرة. الشعب الكوردي و الأقليات القومية و الدينية و المذهبية في تركيا محرومة من حقوقها القومية و الدينية و المذهبية و تتعرض أفرادها للمضايقات و الإعتقالات. من هنا ندرك أن الديمقراطية و الحرية في (تركيا) تعانيان من إنتهاكات متعددة و تكادان تُفرّغان من أسسهما و قيمهما، إلا أن النظام السياسي التركي يكون متقدماً، مقارنة بالأنظمة السياسية الشمولية في منطقة الشرق الأوسط و خاصة في مجال العلمانية و التداول السلمي للسلطة رغم نواقصه و هذا يكسب الدولة (التركية) القوة و المنعة.
إن إحتلال كوردستان من قِبل أربع دول، ساهم في ضعف الحركة الكوردية و نجاح المحتلين في إخماد الثورات و الإنتفاضات الكوردستانية و النجاح في منع تحرر كوردستان و إستقلالها لحد الآن. هذا الإحتلال المتعدد لكوردستان و الكفاح الكورستاني المنفرد في كل إقليم، بمعزل عن بعضه البعض، يعمل على تسهيل مهمّة الأتراك في الإحتفاظ بسيطرتهم على الجزء الذي يحتلونه من كوردستان و ذلك بتفرغهم لإستعباد سكان الشمال الكوردستاني لوحدهم دون بقية الشعب الكوردستاني في الأقاليم الأخرى و في نفس الوقت فأن التعاون المشترك بين (تركيا) و الحكومات الأخرى المحتلة لكوردستان، يساهم كثيراً الأتراك في تطويق و تحجيم المد الثوري الكوردستاني و بالتالي إعاقة تحرر كوردستان. تُعتبر هذه النقطة أحد أهم عوامل القوة في الأمن القومي التركي، و إلا لو كانت كوردستان بأجمعها تحت الإحتلال التركي و /أو كانت الحركة الكوردستانية موحدة غير مشتة، لها قيادة موحدة تجعل من أقاليم كوردستان ساحة مشتركة لنضال الكورد تحت شعار و هدف واحد، في هذه الحالة كان بإستطاعة الكورد تأسيس دولتهم المستقلة و الإخلال بالمعادلة التركية و تقزيم دورها و أهميتها إقليمياً و دولياً.
إن (تركيا) عضوة في حلف الأطلسي و التي تعني أنها ربطت أمنها القومي بأمن العالم الغربي الذي يمنحها حصانة أمنية في حالة دخولها في حرب مع دولة أخرى في المنطقة أو حين تعرض أمنها القومي للخطر. كما يجب الإشارة الى أن ل(تركيا) جيش كبير، إكتسبت خبرات قتالية جيدة من خلال حربها ضد الشعب الكوردي في إقليم الشمال الكوردستاني و التي لا زالت الحملات العسكرية التركية مستمرة هناك.
ل(تركيا) علاقات جيدة مع إسرائيل، حيث أنه تم إبرام إتفاقيات عسكرية و إستخباراتية بينهما. (تركيا) تحصل على أسلحة إسرائيلية متطورة و تتبادلان معلومات إستخباراتية فيما بينهما. هذا التعاون الإستخباراتي نجح، على سبيل المثال، في خطف الزعيم الكوردي عبدالله أوجلان من قِبل المخابرات الإسرائيلية و الأمريكية و تسليمه الى (تركيا). كما هو معروف بأن لإسرائيل نفوذ في العالم الغربي، و خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تستغل (تركيا) علاقتها الودية مع إسرائيل في التأثير على مواقف الإدارة الأمريكية من القضايا التي تخص (تركيا)، حيث أنه مثلاً أن هذا النفوذ نجح الى الآن من الوقوف بوجه تبني الكونغرس الأمريكي إعتبار المجازر الأرمنية التي إرتكبتها (تركيا) أثناء الحرب العالمية الأولى مجازر إبادة ضد الإنسانية. إن إستمرار حالة العداء بين العرب و إسرائيل في المنطقة و بقاء القضية الفلسطينية بدون حل، يساعد على إستمرار العلاقات الودية بين كل من إسرائيل و (تركيا) نتيجة عزلتهما في المنطقة، حيث أن كل منهما محاط بدول و شعوب تحمل العداء لهما.
إن أكثرية الشعب التركي هم مسلمون، حيث أن تركيا عضوة في منظمة المؤتمر الإسلامي، كما يجب أن لا ننسى أن الأتراك، خلال حكمهم للإمبراطورية العثمانية، حكموا شعوب المنطقة بإسم الخلافة الإسلامية. لذلك فأن (تركيا) لها وشائج و علاقات دينية تجمعها مع العالم الإسلامي. كما أن الطائفة السُنيّة هي التي تحكم (تركيا) و هذه إمتياز آخر للأمن القومي التركي، حيث أن أكثرية مسلمي منطقة الشرق الأوسط و العالم هم من الطائفة السُنّية (تبلغ نفوس الشيعة في العالم حوالى 213 مليون نسمة، بينما تصل نفوس السُنّة الى 1.17 مليار نسمة، من جانب آخر فأن نفوس الشيعة في منطقة الشرق الأوسط تصل الى 95 مليون نسمة و نفوس السُنّة هي حوالي 159 مليون نسمة). كذلك فأن معدل دخل الفرد في الدول ذات الأكثرية السُنية في منطقة الشرق الأوسط هو أعلى من ذلك في الدول ذات الأكثرية الشيعية.
إن الأتراك هم مؤسسوا الإمبراطورية العثمانية التي حكمت بلدان كثيرة و مساحات شاسعة في قارة آسيا و أوربا و عليه فأنهم ورثوا من أسلافهم الترك العثمانيين الخبرة الكثيرة في السياسة و الإدارة، التي أكسبتهم القدرة على إدارة شئون دولتهم بنجاح و ساعدت على ديمومة كيانهم السياسي، حيث دامت هذه الإمبراطورية لعدة قرون.
إستقلال الجمهوريات الإسلامية الناطقة بالتركية عن الإتحاد السوفيتي السابق بعد إنهياره، كان في صالح (تركيا)، حيث كان الإتحاد السوفيتي السابق يجاور (تركيا) و بذلك بدأت الإتصالات بين (تركيا) و هذه الدول التي أصبحت سوقاً رائجاً للمنتوجات التركية و قد تمتد أنابيب بترولها و غازها الى الموانئ التركية التي تعطي إنعاشاً للإقتصاد التركي الضعيف. كما أن إختفاء الإتحاد السوفيتي أدى الى إنخفاض التهديدات الروسية ل(تركيا) و التي قادت الى خفض الميزانية العسكرية المكلفة للخزينة التركية.
أصبحت (تركيا) بلداً سياحياً و أصبحت السياحة تجارة مربحة لها، حيث ترفد الخزينة التركية بمليارات الدولارات سنوياً. إن هذا المورد السياحي الضخم يساعد الإقتصاد التركي المتدهور و الذي بدوره يكون عامل مهم في صيانة الأمن القومي التركي و منع إنهيار إقتصادها.
أهمية منطقة الشرق الأوسط التي تحتفظ بأكثرية إحتياطي النفط في العالم و الإستراتيجية الهامة لموقعها بين آسيا و أوربا و كثافتها السكانية العالية التي جعلتها سوقاً مهماً للمنتوجات الغربية و وجود دولة إسرائيل في هذه المنطقة و النزاع التأريخي بين الشيعة و السُنّة فيها و صحوة الأفكار القومية لشعوب المنطقة التي ترزح تحت نير الإحتلال و مطالبتها بحق تقرير المصير و الإستقلال و التغييرات في توازن القوى العالمية التي ستحدث في المستقبل و مسار العولمة، كلها يجعل من الصعب معرفة الأهمية الإستراتيجية الإقليمية و العالمية ل(تركيا) في المستقبل، و التي ستحدد الأمن القومي التركي، بل تقرر مصيرها و وجودها ككيان سياسي.ş
[1]