(تركيا) .... الى أين؟ (13)
د. مهدي كاكه يي
(الأمن القومي التركي
2. مكامن ضعف الدولة (التركية)
د. عوامل داخلية
في الحلقتين السابقتين، تحدثتُ عن دور الإقتصاد و البحث العلمي و تواصل الأتراك مع الإمبراطورية العثمانية و الثقافة العنصرية و الإلغائية و السيطرة الفعلية للجنرالات التركية على الحياة السياسية في (تركيا) و أزمة فقدان الديمقراطية و إنتهاك حقوق الإنسان و الصراع بين العلمانويين و الإسلامويين، كعوامل داخلية مؤثرة على الأمن القومي التركي. في هذه الحلقة نستمر في التطرق الى المجموعة الأخيرة من العوامل الداخلية التركية التي تحدد وجود الكيان السياسي التركي.
7. العلويون
يعتبر الكثيرون بأنّ العلويين هم طائفة إسلامية، إلا أنني أعتقد بأن العلويين ليسوا بمسلمين و إنما لهم دينهم الخاص بهم. عند المقارنة بين العقيدة الإسلامية و العلوية، نرى أنّ هناك إختلافات جوهرية بينهما، حيث لا وجود للأركان الخمسة للدين الإسلامي عند العلويين. نرى أنّ الديانة العلوية هي أقرب بكثير الى الديانة الإيزدية و الكاكائية و الشبك مقارنة بالديانة الإسلامية. من المرجح جداً أن تكون العلوية هي إحدى الديانات الكوردية القديمة، كما هو الحال مع الديانات الزرادشتية و الإيزدية و الكاكائية، لأنّ هذه الأديان لها جذور مشتركة و أنّ كوردستان هي منبع جميع هذه الديانات. إنّ العلماء و الباحثين مدعوون لدراسة تأريخ و معتقدات و شعائر و طقوس الأديان غير الإسلامية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، مثل الزرادشتية و الإيزدية و العلوية و الكاكائية و الشبك و الدروز و إجراء بحوث مستفيضة للمقارنة بينها و البحث عن أصولها و نقاط الإلتقاء و الإختلاف بينها، لأنها من المرجح جداً أن يكون جميعها ينتمي الى الديانات الكوردية القديمة التي إعتنقها شعب كوردستان، حيث تنحصر هذه الأديان في الأرض التأريخية للكورد أو في المناطق التي كانت تحت الحكم الكوردي أو في المناطق التي هاجر الكورد إليها و إستقروا فيها، حيث أنهّم نقلوا معهم هذه العقائد الى تلك المناطق، على سبيل المثال لا الحصر، عائلة جانبولاد (جنبلاط) في لبنان التي تُدين بالديانة الدُرزية، ينتمي نسبها الى الأمير الكوردي (منتشا = مند) الذي كان أميراً للإمارة الكوردية (كلس) و خدم الدولة الأيوبية في الشام و أصبح هناك والياً لناحية (القصير) الواقعة على مقربة من أنطاكية بسوريا و بعدها أصبح أمير أمراء الشام و حلب. في عهد السلطان العثماني (سليمان)، أُسند منصب الإمارة الى إبنه (جانبلاد) و الذي إستمر في الحكم الى عام 1016 الهجري. في سنة 1630 ميلادية، إنتقل سعيد بك جنبلاط زاده مع إبنه (رباح) الى بيروت و إستقرا هناك. علماً بأنّ العائلة الجنبلاطية كانت من الإيزيديين (لمزيد من المعلومات، راجع كتاب محمد أمين زكي المعنون خلاصة تأريخ الكرد و كردستان – تأريخ الدول و الإمارات الكردية في العهد الإسلامي، الجزء الثاني، مطبعة السعادة، مصر، 1948، صفحة 376 – 380). لذلك من المرجح أن تكون الديانة الدرزية ما هي إلا عبارة عن الديانة الإيزدية التي نقلتها عائلة جنبلاط معها الى لبنان حينما هاجرت الى هناك و إستقرت فيها. خلال مرور السنين، تكون قد طرأ بعض التغييرات على الديانة الإيزدية في لبنان و التي نقلتها عائلة (جانبلاد = جنبلاط) الى هناك، حيث أنه قد تغيّر أو تحوّر إسم الديانة الإيزدية نفسها هناك الى (الدروز). الموضوع بحاجة الى دراسة متأنية لمعرفة العلاقة التأريخية و العقائدية بين الإيزدية و الدروز.
الآن لِنعود الى موضوع العلويين و دَورهم في (تركيا). نظراً للثقل السكاني الكبير للعلويين في (تركيا) و دورهم الحيوي في تقرير الأمن القومي التركي، فأنني هنا وضعتهم كعامل داخلي مستقل. السُنّة الحنفيون الأتراك يحتكرون السلطة في (تركيا) منذ تأسيس الإمبراطورية العثمانية الى يومنا هذا. يُشكل العلويون في (تركيا) حوالى ثلث سكان (تركيا)، أي أن نفوسهم تبلغ حوالي 23 مليون نسمة. يتوزع العلويون بين قوميات متعددة، أبرزها و كبراها هي القومية الكوردية، حيث أنّ 30% من من العلويين هم من الكورد. هذه المجموعة الدينية الكبيرة تعاني من الإضطهاد الديني من قِبل النظام التركي و محرومة من حقوقها الدينية و الوطنية. لذلك هناك خلافات مستمرة و عداء دائم بين الطائفة السُنيّة الحاكمة و أتباع الديانة العلوية و التي تقود الى أعمال عنف بين الجانبين. عجز النظام العلمانوي الأتاتوركي عن إزالة الخلافات بين العلويين و السُنّة رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على تأسيس الجمهورية (التركية).
الهجرات الكثيفة للعلويين من الأرياف الى المدن الكبرى و ضواحيها و إستقرارهم فيها في الأعوام الأخيرة، أدت الى تزايد نفوذ العلويين في المدن، حيث قاموا بإنشاء (بيوت التجمع = جَمفي Cemevi) التي هي بمثابة المساجد لدى المسلمين (البيوت العبادية للكاكائيين تحمل نفس الإسم و تعني نفس المعنى أيضاً، جَمخانه Cemxane و الإختلاف الطفيف بين الإسمين يعود الى الإختلاف بين اللهجة الكرمانجية الشمالية و الجنوبية). العلويون ينتمون تقليدياً الى الأحزاب العلمانية و يدعمونها ضد الأحزاب و التيارات الإسلامية بسبب التمييز الديني الذي يتعرضون له. نتيجة هذا الإضطهاد و لِكَون نسبة كبيرة منهم ينتمون الى الشعب الكوردي، فأنّ الكثير منهم يناضلون من أجل حقوق الشعب الكوردستاني و ينتمون الى صفوف حزب العمال الكوردستاني، حيث أنّ زعيم الحزب المذكور نفسه، السيد عبد الله أوجلان هو من العلويين.
إنّ المسلمين السُنّة يُشكّلون الأكثرية في (تركيا) و يستحوذون على الحكم منذ تأسيس الإمبراطورية العثمانية الى الوقت الحاضر. طوال تلك الحقبة الزمنية، فأنّ العلويين يعانون من معاملة سيئة و على أساس المواطنة من الدرجة الثانية. يطالب العلويون الحكومة التركية بالإعتراف بهم، كطائفة دينية و منح أماكنهم العبادية وضعا قانونياً، إلا أنّ الحكومات التركية المتعاقبة ترفض مطالبهم. الدولة (التركية) تقوم ببناء المساجد للسُنّة في قرى العلويين و تُدرّس الإسلام السُنّي في مدارس العلويين و يقوم أبناء الطائفة السُنّية بالإعتداء على العلويين بالضرب بسبب عدم صومهم في الوقت الذي يصوم فيه السُنّة.
تدّعي (تركيا) بأنها بلد علماني، لا دين رسمي لها، في الوقت الذي تُشير إحصائيات قسم الشئوون الدينية فيها إلى أن الدولة تصرف 1.5 مليار دولار من أموال الشعب سنوياً لتمويل 85 ألف مسجد للسُنّة و لدفع رواتب أئمة تلك المساجد. بينما يتم تسجيل دور عبادة العلويين التي تُسمّى ب(جمفي Cemevi) على أساس أنها مراكز ثقافية، لذلك لا يحصل العلويون على مساعدات حكومية لإدارة شئوون أماكن عبادتهم، فيضطرون الى تمويل تكاليف شئوونها عن طريق الهبات و التبرعات الخاصة و الشخصية.
السُنّة الأتراك يعتقدون بأنّ العلويين يتّبعون نهجاً ضالاً من الإسلام. إنهم يعتقدون بأنّ العلويين يطفئون الأضواء داخل أماكن عبادتهم ليمارسوا طقوساً إباحية (يقع المؤرخ العراقي عباس العزاوي في نفس الخطأ فيما يخصّ معتتنقي الديانة الكاكائية، حيث أنه يدّعي في كتابه المعنون الكاكائية في التأريخ بأنّ أتباع الديانة الكاكائية يقومون بإطفاء النور في دورهم العبادية و يبدأون بممارسة الجنس مع بعضهم البعض. لتبيان الحقيقة و لتفنيد هذه التهم الباطلة ضد العلويين و الكاكائيين، يجب الإشارة الى أنّه نتيجة بطش المسلمين المتزمتين بمعتنقي هاتين الديانتين و في محاولةً منهم لإنقاذ حياتهم أو منعاً لتعرضهم للإضطهاد و الإهانة و إتهامهم بالكفر، فأنهم كانوا في السابق يطفئون المصابيح إذا ما دخل عليهم شخص مسلم أثناء إدائهم لطقوسهم الدينية لكي لا ينكشف أمرهم عند المسلمين. بسبب هذا الإجراء الوقائي، تُتهم أتباع هاتين الديانتين بالإباحية الجنسية. كما أنّه بسبب شدة الإرهاب الإسلامي ضدهم، فأنّه بمرور الزمن أصبحت الديانات العلوية و الإيزدية و الكاكائية سريّة و لهذا السبب أصبح مبدأ كُتمان أسرار هذه الديانات من الفرائض الدينية لديهم، لذلك فأنّ الإفصاح عن كشف أسرار دياناتهم يُعتبر من المحرمات الدينية عندهم. كذلك فأنه لهذا السبب تُسمّى هذه الأديان بالأديان الباطنية، أي السرّية، كما أنّ أتباع هاتين الديانتين يضطرون الى الإدعاء بأنهم مسلمون لإنقاذ حياتهم من العنف الإسلامي و مضايقاتهم). العولمة و ثورة المعلومات و الإتصالات لعبت دوراً في فهم أكبر للعلويين، إلا أنّ إزالة قرون من التمييز و الأفكار المُسبّقة، تحتاج الى مُضي فترة أجيال عديدة و تتطلب فكراً ليبرالياً ديمقراطياً، يعترف بالآخر المختلف و مثل هذا الفكر تفتقد إليه الذهنية التركية المُشبّعة بالعنصرية و الطائفية و العنف و الغطرسة الفارغة.
في (تركيا)، يتم إعفاء الطلاب و الطالبات المسيحيات من حضور الدروس المخصصة للدين الإسلامي و تعاليمه، بينما يجب على أولياء الطالبات و الطلاب العلويين اللجوء إلى القضاء للحصول على حق إعفاء بناتهم و أبنائهم من حضور هذه الدروس. الكُتب الدينية الإسلامية المقررة للمدارس التركية تُلقّن التلاميذ كيف يصبح المرء سُنيّاً حقيقياً، إنها تُعلّمهم كيفية أداء الصلاة و حفظ الأدعية باللغة العربية، في حين أنّ صلاة العلويين تختلف عن تلك التي يؤديها المسلم السُنّي. هكذا يتم إجبار أطفال العلويين على تعلّم عقائد و طقوس المذهب السُنّي و تقوم الحكومة التركية بحرمان التلاميذ المنتمين للديانة العلوية من دراسة تأريخ و معتقدات و فرائض و طقوس دينهم العلوي.
لقد مارس الإتحاد الأوروبي ضغوطاً على السلطات التركية لإدخال تغييرات جذرية على المناهج المدرسية لتعليم الدين الإسلامي، إلا أنّ الحكومة التركية أجرت تغييرات شكلية و طفيفة على تلك المناهج الدراسية و التي لا تزال سُنيّة التوجه و المحتوى. كما أنّ المُعلّمين و المُدرسّين الذين يقومون بتعليم و تدريس مادة الدين الإسلامي، هم من خريجي المدارس الدينية السُنيّة. كما يجب الإشارة هنا الى أنّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أصدرت قراراً يعطي الحق لطفل علوي بعدم حضور دروس التربية الدينية الإسلامية، إلا أنّ السلطات التركية لا تلتزم بالقرار المذكور.
8. الأديان الأخرى
المسيحيون يتعرضون للإغتيالات و الإضطهاد في (تركيا)، حيث قام الشباب الأتراك في مختلف المدن التركية بتشكيل مجاميع مسلحة، مهمّتها إغتيال المسيحيين و إرهابهم. لنأخذ مثلاً أحداث الإغتيالات في مدينة (طرابزون) التي هي أكبر وأهم ميناء (تركي) على سواحل البحر الأسود، ونقطة بداية طريق العبور إلى إيران، وهي همزة الوصل لموانئ الدول الأخرى المتشاطئة على البحر الأسود (قام الميديون، أجداد الكورد، بإنشاء هذه المدينة في القرن الثامن قبل الميلاد). إسم هذه المدينة أصبح مرتبطاً بحوادث الإغتيالات الدينية. يتهافت على مدينة (طرابزون) الكثير من السوّاح الذين يأتون لزيارة كنيسة (ايرينة) و دير (الفتيات) اللتين أنشأهما (الكومينيون) في القرن الرابع عشر الميلادي. في هذه المدينة تلقى القس (أندريا سانتورو)، البالغ من العمر 60 عاماً، عدة طلقات نارية في صدره في عام 2005. كان القاتل صبي في السادسة عشرة من عمره. كما تعرض كل من القس الايطالي (اندريا سانتور) في مدينة (طرابزون) و القس الفرنسي (بيير بروسنين) في مدينة (سامسون) لهجومَين مسلحَين في العام الماضي. تعرض أيضاً أحد المطاعم الأمريكية في (طرابزون) لعملية تفجير. في العام الماضي، لقي الصحفي الأرمني (Hrant Dink) مصرعه رمياً بالرصاص أمام مكتب صحيفة (آجوس) الأسبوعبة، التي كان يملكها و يرأس تحريرها في إسطنبول على يد صبي في السابعة عشرة من عمره.
من الأقليات الدينية الأخرى، هناك السريان الذين يدينون بالأرثودكسية ويقطنون إسطنبول والمناطق المحاذية لسوريا. الكلدان يقطنون المناطق المحاذية للحدود مع العراق وسوريا، حيث توجد مطرانيتهم بإسطنبول وبطريكهم الأكبر في مدينة الموصل.
هكذا يواجه المسيحيون، في (تركيا) هجمات منظمة شرسة و دموية، فيعيشيون في هلع و قلق شديد، حيث تقوم المجاميع الإسلاموية بإغتيال و إرهاب المواطنين المسيحيين. بعد إزدهار الأفكار الإسلاموية الإرهابية في العالم، و خاصة في منطقة الشرق الأوسط، فأنّه من المتوقع أن تزداد موجات الإغتيالات و الإرهاب ضد المسيحين بشكل كبير و لدرجة ستخلق مشاكل كبيرة للحكومة التركية و ستنعكس نتائجها عالمياً و إقليمياً و داخلياً و ستُشكل مشكلة كبيرة أخرى الى جانب المشاكل الكثيرة التي تعاني منها (تركيا). لا شك أنّ التربية الدينية المتطرفة و ترسّخ الأفكار العنصرية و الطائفية في الذهنية التركية و التراكمات التأريخية لهذه الأفكار الشمولبة الإلغائية المتخلفة، تُعتبر من أهم أسباب هذه الكراهية و إبادة العنصر المختلف، سواء كان الإختلاف إثنياً أو دينياً أو مذهبياً، و خنق الصوت الآخر و ستكون نتائجها وخيمة جداً على (تركيا) و تُهدد وجودها في الصميم، ككيان سياسي مصطنع.
يعيش في (تركيا) اليهود الدونمة (يُطلق على أبناء الأقلية اليهودية في تركيا لقب الدونمة التي هي كلمة تركية تعني الهداية أو العودة إلى الحق. جاءت هذه التسمية بسبب الإضطهاد الديني الذي كان اليهود يتعرضون له أثناء فترة الحكم العثماني، مما إضطروا بسببه الى التظاهر باعتناق الدين الإسلامي، حيث إختاروا أسماء إسلامية لأنفسهم، غير أنهم كانوا يحتفظون بديانتهم ويؤدون طقوسهم اليهودية بشكل سرّي. عدد اليهود في (تركيا) يبلغ حوالى 30 ألف نسمة، إلا أنهم برغم قلة نفوسهم فأنّ لهم دوراً كبيراً في الحياة الإقتصادية و السياسية التركية. بسبب الإنتماء الديني، فأنّ اليهود هم من مؤيدي الأحزاب السياسية العلمانية و ساهموا بشكل فعال في تكريس العلمانية وتقاليدها منذ تأسيس الجمهورية (التركية).
إزدهار إنتشار الفكر الإسلاموي المتطرف و ظهور حركات إسلاموية إرهابية في العالم بشكل عام و في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، تجعل من (تركيا) مرشّحةً لأن تصبح مرتعاً للفكر الإرهابي و ساحة للعمليات الإرهابية نتيجة إنتشار هذه الأفكار المتزمة فيها. إنّ (تركيا) هي بيئة مناسبة لتكون قاعدة للنشاطات الإسلاموية الإرهابية، مثل منظمة القاعدة و غيرها من المجموعات الإرهابية المسلحة، حيث أنّ الفكر العلماني بدأ يتراجع أمام فكر الإسلام السياسي. كما أننا ندرك أنّ (تركيا) عضوة في حلف الناتو و لها علاقات سياسية و عسكرية و إقتصادية جيدة مع إسرائيل و أنها تحاول الإنضمام الى الإتحاد الأوروبي و توجد لها قوات عسكرية ضمن قوات الحلف الأطلسي في أفغانستان و تتواجد قواعد عسكرية لحلف الناتو على أراضيها. كل هذه العوامل تساهم في تفاقم مشكلة الإرهاب في (تركيا) و تُرشّحها لأن تُشكّل تحدياً كبيراً لها و للحياة السياسية و الأمنية فيها و أن تكون عبأً ثقيلاً على الإقتصاد التركي و على مستوى المعيشة للسكان فيها.
9. الشعوب و القوميات
الشركس هم مسلمون ينحدرون من إحدى قبائل شمال غرب القوقاز التى قام الروس بتهجيرهم من بلادها فى عام 1864، فإضطروا الى أن يجدوا ملاذاً آمناً لهم في بلدان أخرى، فإستوطن قسم كبير منهم الاراضي العثمانية. تبلغ نفوسهم في (تركيا) في الوقت الحاضر ما يقارب سبعة ملايين مواطن من أصل قوقازي، حيث أنهم يسكنون في منطقة البحر الأسود و شرق الاناضول. قامت الإمبراطورية العثمانية بإستخدام اللاجئين القادمين من شمال القوقاز في إحكام سيطرتها على أرجاء الامبراطورية، فقامت بتوطينهم في آسيا الصغرى و في المناطق التي كان المسلمون فيها أقلية. هؤلاء المهاجرون عاشوا في بداية هجرتهم في مستوطنات متناثرة في (تركيا) ولا سيما في وسط وغرب الاناضول. قام المسئولون العثمانيون بتشتيت اللاجئين الشركس، و ذلك بإجبارهم على عيش كل عائلة شركسية ضمن كل أربع عائلات تركية. بهذا العمل أصبح اللاجئون الشركس مبعثرين في مختلف أرجاء الامبراطورية العثمانية.
تشير تقديرات منظمات الهجرة العالمية التي أُجريت في عام 1995 الى أنّ 60% من الشركس يعيشون داخل المدن التركية الكبرى. نتيجة إنكار الحكومات التركية للهوية الشركسية و إعتبار كل مواطن يعيش في (تركيا) هو من العنصر التركي و نتيجة تحديد اللغة التركية كلغة رسمية وحيدة في البلاد و إنكار لغات القوميات الأخرى فيها و لتبعثر الشركس، أخذ جميع اللغات القوقازية يضمحل في (تركيا). بسبب هذا التمييز و الإضطهاد الثقافي الذي تتعرض لها القوميات القوقازية، فأنها تُظهر رفضها ليكون مواطنيها من الدرجة الثانية و تقف ضد إنصهارها في العنصر التركي و ترفض فقدان هوياتها القومية و الثقافية و بذلك تُعتبر هذه المشكلة مصدر تهديد كامن ل(تركيا).
عندما تمّ عقد إتفاقية لوزان في عام 1923، التي نصت على التبادل السكاني بين مواطني كل من اليونان و (تركيا)، ليترك اليونانيين (تركيا) ويعودوا الى اليونان و أن يرحل الأتراك بدورهم من اليونان و يعودوا الى (تركيا)، إنتقل اليونانيون المقيمون في (تركيا) الى اليونان و الذين كان عددهم يصل الى مليون و مائتي ألف نسمة. كذلك غادر المسلمون الأتراك اليونان و إستقروا في (تركيا) و كان عددهم يصل الى حوالي أربعمائة و خمسين ألف نسمة. بقيت أقلية صغيرة من مواطني الدولتين في بلد الآخر. يُقدّر عدد اليونانيين في تركيا في الوقت الحاضر بين 50 و 80 ألفاً، تعيش غالبيتهم في المدن الكبرى، لا سيما في إسطنبول و يعملون في المجال التجاري مع اليهود. لهذه الأقلية تأثيرها في العلاقات التركية - اليونانية، إذ تسعى اليونان لتحويل الوضع القانوني لمقر البطريركية الأرثوذكسية الرئيسة في العالم و الموجودة في إسطنبول إلى ما يشبه وضع الفاتيكان، و الذي ترفضه تركيا. رغم العدد السكاني القليل لليونانيين في (تركيا)، فأنهم يُشكّلون خطراً كامناً على (تركيا)، و خاصة في حالة حدوث حروب بين (تركيا) و اليونان أو ضعف الحكومة التركية و في حالة إنتشار الفوضى و الإضطراب في (تركيا) لسبب ما، حيث أنّ العلاقات اليونانية – التركية تتسم بالعداء الشديد نتيجة لتراكمات تأريخية و لأسباب دينية وسياسية.
يجمع الأرمن بين كونهم أقلية دينية صغيرة وأقلية قومية مستقلة، حيث يبلغ تعدادهم زهاء ربع مليون نسمة، يقطنون المدن الكبرى وشرق الأناضول ويعملون مع اليهود في التجارة، فضلاً عن عملهم في المجال الصناعي والحرفي. يبتعد الأرمن عن المشاركة في الحياة السياسية لتفادي إثارة حفيظة السلطات التركية ضدهم، نظراً للحساسية التأريخية المفرطة بين الأتراك و الأرمن. الأرمن بدورهم يعتبرون الأتراك عدوهم اللدود و سيقومون بالتأكيد بالقيام بأخذ ثأر المجازر الرهيبة التي قام بها الأتراك ضدهم عند توفر فرصة مناسبة لهم، كما في حالة ضعف الحكومة التركية أو وقوع حرب أهلية في (تركيا) أو إنتشار التمرد و الإضطراب فيها.
تُشكّل الأقلية العربية نحو 2% من مجموع السكان في (تركيا)، و هم محرومون من تعلم لغتهم و التعبير عن هويتهم، كما هو الحال مع القوميات الأخرى. بدون شك، فأنّ العرب سيثورون ضد الأتراك في حالة ضعف الحكومة التركية ليتمتعوا بحريتهم و يحافظوا على هويتهم العربية. كما أنّ لواء الإسكندرونة كانت جزءً من سوريا قبل أن يستولي الأتراك عليها، و لذك نرى أن الكثير من العرب يعيشون في اللواء المذكور و هذا الموضوع يُساهم أيضاً في زيادة الهوة بين الأتراك و العرب في (تركيا).
هناك أيضا أقليات عرقية و دينية أخرى في (تركيا)، تتراوح أعدادها بين مئات و بضعة آلاف نسمة. من هذه الأقليات هي الألبان الذين يبلغ عددهم نحو 50 ألفاً، و كذلك الروس و الألمان والإستونيين وغيرهم.
10. القضية الكوردية
تُعتبر القضية الكوردية أهم قضية سياسية تواجهها (تركيا). إن هذا الجزء من الشعب الكوردي يعاني منذ تأسيس الجمهورية الأتاتوركية من سياسة قسرية لإذابته في النسيج الإجتماعي و السياسي و الثقافي التركي التي استمرت لأكثر من ثمانين سنة و التي لا تزال مستمرة الى يومنا هذا. تتوزع المجاميع السكانية في (تركيا) على أساس عرقي و ديني و مذهبي، غير أنّ الكورد يُشكّلون أكبر قومية في (تركيا) بعد القومية التركية، حيث يصل تعدادهم الى 23 مليون نسمة على أقل تقدير، أي ثلث السكان.
النضال الكوردستاني ضد الإحتلال التركي بدأ منذ تأسيس الجمهورية التركية في أواسط العشرينيات من القرن الماضي و الذي هو مستمر الى الوقت الحاضر. العلاقة بين النظام السياسي التركي و الكورد لا ترتبط بإدارة الحكم من قِبل الأتراك العلمانويين أو الإسلامويين، حيث أنّ كل الأحزاب والقوى السياسية التركية، علمانوية كانت أم إسلاموية، ترفض مبدأ إستقلال كوردستان. إنهم لا يرفضون إستقلال كوردستان فقط، و إنما ينكرون وجود الكورد في (تركيا) و يعتبرونهم (أتراكاً جبليين). لا أريد الإطالة في هذا الموضوع، حيث أنّ المقالات القادمة ضمن هذه السلسلة ستكون مُكرسةً للشمال الكوردستاني.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]