تركيا... الى أين؟ (18)
الثورات و الإنتفاضات الكوردستانية
ثورة 1925
قامت جمعية إستقلال كوردستان بالتخطيط و التحضير لهذه الثورة، التي تشغل مكانة هامة في تأريخ الحركة الكوردية التحررية. كان العقيد خالد جبري بك زعيماً لهذه الجمعية الذي بدأ بالإتصال برؤساء العشائر الكوردستانية و رجال الدين و المثقفين و غيرهم، للحصول على التأييد و الدعم للقضية الكوردستانية و دعوتهم للإنخراط في صفوف جمعية إستقلال كوردستان. نجح العقيد خالد في تقريب حاج موسى، رئيس عشيرة موتكا و خالد حسنان بك، رئيس عشيرة حسنان من قيادة جمعية إستقلال كوردستان. كما إستطاعت قيادة الجمعية تأسيس خلايا تنظيمية داخل الجيش التركي و نجحت في كسب ولاء بعض الضباط، الذين كان من ضمنهم ضباط من إقليم جنوب كوردستان الحالي. نظراً للمكانة الإجتماعية المرموقة للشيخ سعيد پیران و ثرائه، قررت قيادة الجمعية الإتصال به و دعوته للعمل معهم، حيث سافر العضو القيادي للجمعية، يوسف ضيا الى مدينة خينس في نهاية صيف 1923 و إلتقى هناك بالشيخ سعيد و إتفقا على التعاون و التنسيق من أجل تنظيم القوى الكوردستانية و توحيدها لتكون مؤهلة و قادرة على القيام بثورة شعبية في كوردستان، بعد أن أدرك الشعب الكوردستاني زيف إدعاءات كمال أتاتورك بتأسيس دولة يكون فيها الأتراك و الكورد شركاء فيها و بعد أن رأى القادة الكورد أنّ الدولة الجديدة، التي ظهرت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، هي دولة خاصة بالأتراك و تعتبر كل الشعوب و القوميات و الأقليات التي تعيش فيها هي جزء من الشعب التركي و وضعت خيارَين إثنين أمام القوميات غير التركية، و هما الذوبان و الإنصهار في العنصر التركي أو الموت و الفناء.
لتوفير متطلبات القيام بثورة كوردستانية ضد العنصرية الطورانية، قررت جمعية إستقلال كوردستان تسليح العشائر الكوردستانية و ذلك بمساعدة كلّ من ملك جنوب كوردستان، الشيخ محمود الحفيد و إسماعيل آغا (سمكو) في شرق كوردستان، و بعثت بمذكرة الى عصبة الأمم، تطالبها فيها تقديم المساعدة للشعب الكوردي. في عام 1924، ساهم زعماء كورد من جميع أنحاء كوردستان، في التخطيط للقيام بهذه الثورة و حددوا موعد إعلانها و البدء بها في رأس السنة الكوردية، في عيد نوروز من عام 1925.
أثارت التحضيرات الكوردية السرّية للقيام بالثورة ضد حكومة أتاتورك، إنتباه السلطات التركية، كما أنّ بعض زعماء عشيرة خورميك الكوردية قاموا بإبلاغ السلطات التركية عن تلك التحضيرات. نتيجة ذلك قامت الحكومة التركية بإعتقال رئيس جمعية إستقلال كوردستان، خالد جبري بك و القيادي في الجمعية، يوسف ضيا واللذين تمّ إعدامهما في شهر آذار من عام 1925، كما تمّ إلقاء القبض على حاجي موسى. بعد إعتقال القياديين المذكورَين للجمعية، تمّ إنتخاب الشيخ سعيد پیران رئيساً لجمعية إستقلال كوردستان. ولِد الشيخ سعيد پیران في ناحية بالو في عام 1865 و أتمّ دراساته الدينية في مدينة خينس، حيث أصبح شيخاً للطريقة النقشبندية.
وقوع حادثتين في كوردستان، دفعتا قيادة جمعية إستقلال كوردستان الى التبكير بإعلان الثورة، حيث حصل صِدام مسلّح بين أهالي قرية پیران و قوة تركية كانت تحاول إلقاء القبض على عدد من سكان القرية، فتمّ قتل أعداد من أفراد القوة العسكرية التركية المذكورة و أسر الباقين منهم. الحادثة الثانية التي أرغمت الثوار على بدء ثورتهم قبل أوانها، هي قيام الشيخ طاهر پیران (أخو الشيخ سعيد) في العاشر من شباط من عام 1925، بالإستيلاء على دائرة البريد في مدينة لجي و أخذ محتوياتها من أموال و وثائق. هكذا إندلعت الثورة في الرابع عشر من شباط بدلاً من الحادي و العشرين من آذار الذي كان مقرراً. قام الشيخ سعيد مع قوة مؤلفة من عشرة آلاف ثائر بتحرير مدينة غنج و أسر المحافظ و الموظفين الأتراك و تعيين رئيس عشيرة مودان، فقي حسنان، محافظاً جديداً لها و جُعلت مدينة غنج عاصمة مؤقتة لكوردستان. لقد تمّ نقل جميع السلطات الدينية و السياسية الى الشيخ سعيد. خلال فترة قصيرة، إستطاع الثوار أن يحرروا أربع ولايات كوردستانية، حيث إنضم الكثير من المواطنين الكوردستانيين من الجركس و العرب و الأرمن الى صفوف الثوار الكورد. كان شعار الثورة هو تحريرالدين الإسلامي من حكام أنقرة الملحدين، إلا أنّ هدف الثورة الحقيقي كان تحرير كوردستان و تأسيس دولة كوردستانية مستقلة، حيث كان الثوار قد إتفقوا على إعلان ولادة دولة كوردستان بعد أن يقوموا بتحرير مدينة آمد (دياربكر)، إلا أنهم لم يفلحوا في تحرير المدينة من الإحتلال التركي.
مع بدء شرارة الثورة، أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ في كوردستان و أقرّ البرلمان التركي قانوناً يعتبر جميع الأعمال التي تحاول إستغلال مشاعر الشعب الدينية لأهداف سياسية ، سواء تتم بصورة شفهية أو تحريرية، جريمة ضد الوطن و أنّ كل مَن يستخدم الدين، سواء كان ذلك شفهياً أو تحريرياً، كأداة لتأسيس جمعيات أو نشر مقالات أو إستغلال الدين للأهداف السياسية، يرتكب الخيانة العظمى بحق الوطن و تمّ بموجبه أيضاً منع التنظيمات السياسية على أسس دينية. كما أنّ البرلمان التركي أقرّ قانوناً يُخول بموجبه القيادات العسكرية التركية في مختلف مناطق كوردستان، المصادقة على أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم الميدانية المُشكّلة في تلك المناطق. أمرت الحكومة التركية الجنرال كمال الدين سامي باشا، الذي أنيطت إليه مسئولية قيادة القوات التركية ضد الثوار الكوردستانيين، بقمع الثورة بدون رحمة و تجريد الكوردستايين من أسلحتهم، سواء الذين شاركوا في الثورة أو لم يشاركوا و تهجير الكورد من كوردستان و توزيعهم على المناطق التركية، بحيث لا يُشكلوا الأكثرية في أي منطقة و إستيطان الأتراك محلهم في كوردستان. وضعت الحكومة التركية جائزة قيمتها ألف ليرة ذهبية لِمَن يلقي القبض على الشيخ سعيد حياً و أخرى قيمتها سبعمائة ليرة ذهبية لِمَن يعثر عليه ميتاً.
تمّ تنفيذ حكم الإعدام بحق الدكتور فؤاد بك في مدينة آمد في شهر نيسان 1925، الذي كان يقود تنظيماً كوردياً سرياً في مدينة آمد قبل بدء الثورة الكوردستانية. هتف الدكتور فؤاد بك أمام حبل المشنقة قائلاً: (كنتُ أحلم دائماً بالتضحية بنفسي من أجل وطني، لا يساورني أدنى شك بأنّ راية الإستقلال سترتفع على هذه الأرض، حيث يتم إعدامنا عليها الآن). كما أنه تم تنفيذ حكم الإعدام في مدينة آمد بحق سيد عبد القادر و الصحفي كمال فوزي و حاجي آختي و كور عبدالله سعادي و خوجه عسكري. هتف المحامي حاجي آختي أثناء إعدامه قائلاً: (عاش النضال في سبيل كوردستان، عاشت كوردستان)، بينما تمنى سيد عبد القادر أن يساعد إعدامه على تقوية عزيمة الشعب الكوردي في سبيل تحرره القومي.
في نهاية شهر مايس 1925 بدأت محاكمة الشيخ سعيد و القادة الآخرين للثورة و التي إستغرقت شهراً واحداً. جلس في قفص الإتهام الى جانب الشيخ سعيد كلّ من الشيخ عبدالله و الرائد المتقاعد قاسم و حاجي خالد عبد الحميد و رشيد (من القومية الشركسية) و الرائد المتقاعد إسماعيل و الإمام ملا علي و الشيخ على و الشيخ إسماعيل و الشيخ عبد اللطيف و كامل و بابا بك و رشيد تيمور و محمد و سليمان و الرائد المتقاعد بحري أمين و شوكت و مقصود و المدعي العام في ملازكرت، عبد المجيد و الشيخ شريف و سليمان و علي و يوسف و حسين و المعلّم ملا جمال و نعمت و أحمد و ملازم الجندرمة محمد مكري و الموظف الصحي في غنج، نيازي و حاجي صادق و غيرهم. في 30 مايس 1925 تمّ تنفيذ حكم الإعدام بحق 47 ثائراً كوردستانياً في مدينة آمد، و كان على رأسهم الشيخ سعيد. قال الشيخ سعيد أمام حبل المشنقة: (لقد بلغتُ نهاية الحياة الطبيعية، لستُ نادماً على أنني الآن أضحي بحياتي في سبيل وطني و من أجل شعبي و يكفينا أنّ أحفادنا سوف لن يخجلوا أمام الأعداء). بعد القضاء على ثورة 1925، قامت الحكومة التركية بإعدام النائب الكوردي في مجلس الشعب التركي، حسن خيري الذي لم يشترك في الثورة ، بل كان يلتزم جانب الكماليين و كان ذنبه الوحيد هو أنه كان مواطناً كوردياً و كان يحضر جلسات مجلس الشعب التركي (البرلمان) بالزي الكوردي. هتف حسن خيري أمام المقصلة قائلاً: (عاش الشعب الكوردي، يا ضحايا كوردستان، الآن ينضم إليكم حسن خيري).
في نهاية شهر أيلول 1925، أصدرت (محكمة الإستقلال التركية) حكماً بالإعدام على 400 مواطن كوردي في بالو و جباقجور و حكمت محكمة المحافظات الشرقية بإعدام 120 مواطناً كوردياً و بالسجن لمدد مختلفة على 116 آخرين. ساهم قسم من الآشوريين و الأرمن و الشراكسة في الثورة الكوردستانية و هذه المشاركة تدل على التلاحم بين مختلف القوميات و الأديان في كوردستان و تشير كذلك الى الإضطهاد الذي كانت تتعرض له مختلف الأطياف الكوردستانية.
أثناء ثورة 1925، حاولت السلطات التركية إثارة الكراهية و التفرقة القومية و الدينية، و ذلك بتحريض المسلمين على المسيحيين. عندما علم الشيخ سعيد بأنّ بعض أتباعه أخذوا يضايقون الأرمن، أعلن على الملأ قائلاً: (إنّ مَن يمسّ الأرمن بسوء، سيتعرض لأقسى العقوبات)، و بذلك وضع حداً لمحاولة مضايقة الأرمن، بل أدى الموقف الحكيم الذي إتخذه الشيخ سعيد الى التقارب و التعاون بين التنظيمات الأرمنية و الكوردية في خارج (تركيا) للوقوف معاً ضد سياسة الإضطهاد القومي التي كانت تتعرض لها الشعوب و القوميات و الأقليات في (تركيا).
كلفت ثورة 1925 الخزينة التركية خمسين مليون ليرة، و كان يُشكّل هذا المبلغ 25% من الميزانية التركية السنوية آنذاك.
بعد إنهيار الثورة الكوردستانية، بدأت الحكومة التركية تستعمل سياسة الأرض المحروقة في كوردستان، حيث تعرّض المواطنون الكوردستانيون الى التعذيب و القتل و الإعدام و المذابح و الإبادة الجماعية و تمّ حرق آلاف القرى و تهجير سكانها الآمنين من بيوتهم الى خارج كوردستان و إحلال الأتراك محلهم دون تدخل المنظمات العالمية، و خاصة عصبة الأمم. هنا أنقل نص النداء الموجّه من قِبل الشخصية الكوردية، أحمد علي حاج صبري و المُقدّم الى عصبة الأمم بتأريخ 25 تموز 1925 (ها و قد مرّ شهران و الدماء تجري سيولاً في بلادنا و يرزح الشعب الكوردي تحت ظلم البرابرة. عندما لم يستطع تحمّل الظلم و الإضطهاد أكثر من ذلك، لجأ الى السلاح لكي يتحكم بمصيره بحرية. إنّ النضال الذي بدأنا به، كان يضمن وجودنا مستقبلاً. سنستمر في النضال الى أن يتحرر نهائياً من حكومة أنقرة. إنّ الشعب الكوردي ذا العرق الآري، لا يمت بصلة للأتراك، لا من حيث الأصل و لا العادات و التقاليد و لا اللغة. إنّ عدم إكتراث الحكومات الغربية، يشجع حكومة أنقرة على تطبيق سياسة الإبادة ضد شعبنا الكوردي، تلك السياسة التي نفذتها بنجاح ضد الأرمن. إنّ حركتنا هي ذات طابع قومي واضح و أنّ شعبنا الكوردي يطالب عصبة الأمم و الشعوب المتحضرة بتقديم المساعدة الفعالة و العاجلة له. إنّ تدخل الدول الغربية لا يّعتبر واجباً إنسانياً فقط و إنما ضرورة سياسية لأنّ الشعب الكوردي يُعتبر ضمان السلام في الشرق الأوسط). عصبة الأمم لم ترد على العديد من النداءات الكوردية التي وجّهت إليها و تركت الشعب الكوردي وحيداً و متعرضاً للإبادة الجماعية. لم تكتفِ عصبة الأمم بعدم الإكتراث بإستغاثات الكورد، بل إتخذت قراراً في شهر تموز 1925 بعدم النظر في إحتجاجات الشعب الكوردي ضد التدابير الوحشية للحكومة التركية التي كانت تتخذها تجاه المنتفضين في كوردستان. كتب الشاعر الكوردي، پیرەمێرد، ملحمة شعرية حول الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الكوردي على أيدي الكماليين الأتراك، يُشبّه فيها الحكومة التركية بآلة تستعمل دماء الشعب الكوردي كوقود لها.
كان السبب الرئيس لفشل الثورة الكوردستانية هو التفوق العسكري التركي في العدد و العتاد على الثوار، حيث بلغت أعداد القوات التركية المشتركة ضد الثورة الكوردستانية 200 ألف عسكري، بينما بلغت أعداد الثوار 40 ألف مقاتل فقط. شاركت في قمع الثورة قوات تركية ضخمة، تضم مختلف الصنوف، من مشاة و مدفعية و طائرات. كما أنّ المساعدات العسكرية السخية التي قدمتها حكومة الإتحاد السوفيتي لمصطفى كمال أتاتورك، ساهمت في نجاح أتاتورك في قمع الثورة الكوردستانية و إستمراره في إحتلال كوردستان و إذلال شعبها و نهب ثرواتها . السبب الثالث لفشل الثورة كان غياب الوحدة بين رؤساء العشائر الكوردستانية، حيث أنّ قسماً منهم لم يقوموا بدعم الثورة، مثل رؤساء عشائر درسيم، إلا أنّ معظم العشائر الكوردية ساهمت فيها، لكن هذه العشائر كانت تفتقر الى الوحدة لوجود خلافات كثيرة بينها، التي أصبحت مرضاً مزمناً لا تزال تعاني منه الأمة الكوردية. السبب الثالث كان غياب تنظيم موحد قوي يمتلك برنامج عمل واضح. لعبت جمعية إستقلال كوردستان دوراً كبيراً في الإعداد للثورة، إلا أنها لم تستطع القيام بدور حاسم في قيادة الثورة، حيث أنّ إعتقال خالد جبران بك و غيره من الأعضاء القياديين للجمعية، حرّم الثورة الكوردستانية نسبياً من قيادات واعية و ناضجة، الأمر الذي أدى الى قيام الثورة قبل الموعد المقرر لها. كما أنّ إفتقار الثوار الى دعم خارجي، كان سبباً أخراً لإنتكاسة الثورة و عدم نجاحها. إنّ الأخطاء التي قام بها القائمين بإدارة الثورة، أجبرتهم على تقديم موعد الثورة، قبل بلوغها التحضيرات اللازمة لضمان نجاحها. إعتقال معظم قيادات التنظيم الكوردستاني السري الذي تمّ تأسيسه في مدينة آمد، كان عاملاً مهماً لفشل الثورة، و إلا لَكان بإستطاعة الثوار تحرير مدينة آمد من الإحتلال التركي خلال محاصرتهم لها، و التي كانت تُغيّر ميزان القوى بين الجانبين و بالتالي كانت ستؤدي الى أرجحية تحقيق النصر و الوصول الى أهداف الثورة.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]