(تركيا) ..... الى أين؟ -24- إقليم شمال كوردستان بحاجة الى إستراتيجيات تنظيمية و تثقيفية كبرى
د. مهدي كاكه يي
في البداية أود أن أعتذر من القراء الأعزاء لإنقطاعي الطويل عن كتابة الجزء المتبقي من مقالات هذه السلسلة التي خططتُ لها بسبب توالي الأحداث السياسية الجديرة بالإهتمام و الكتابة حولها من جهة و بسبب إنشغالي الكثير من جهة أخرى.
تصل نفوس تركيا الى حوالي 70 مليون نسمة (من ضمنها سكان إقليم شمال كوردستان الذين تبلغ نفوسهم حوالي 25 مليون نسمة أي بنسبة حوالي 36% من المجموع الكلي للسكان)، بينما تبلغ نفوس العلويين (الكورد و الأتراك) في تركيا حوالي 20 مليون نسمة أي نسبتهم هي حوالي 30% من المجموع الكلي لسكان تركيا. لو نقوم بتحديد نفوس العلويين الأتراك فقط إستناداً الى نسبة نفوس الكورد في تركيا، فأن نفوسهم تبلغ حوالي 13 مليون نسمة. أعداد الشيعة في تركيا تصل الى حوالي ثلاثة ملايين نسمة. إستناداً الى هذه الأرقام و مع أخذ نفوس القوميات الأخرى غير المذكورة هنا بنظر الإعتبار المقدرة بحوالي 3 ملايين نسمة، نتوصل الى أن نفوس الأتراك السُنة الذين يحكمون تركيا تبلغ حوالي 26 مليون نسمة أي حوالي 37% من المجموع الكلي لسكان تركيا و بذلك فأن نفوس الأتراك السُنة هي أقل بكثير من نفوس الكورد و العلويين معاً الذين يبلغ تعدادهم حوالي 38 مليون نسمة أي أكثر من 54% من المجموع الكلي للسكان. كما أنّ هناك دراسات تشير الى أن نفوس الكورد في إقليم شمال كوردستان و تركيا ستصبح أكثر من نفوس الأتراك بحلول عام 2020.
يبلغ مجموع أعضاء البرلمان التركي 550 عضواً. في الإنتخابات التشريعية الماضية، حصل حزب السلام و الديمقراطية، الحزب الوحيد الذي يُمثّل الكوردستانيين الشماليين، على 36 مقعداً في البرلمان التركي، أي بنسبة 6.5% فقط من مجموع أعضاء البرلمان! من المفروض أن يحصل الكوردستانيون على حوالي 192 مقعداً في البرلمان التركي إذا أخذنا بنظر الإعتبار نفوس الكورد في إقليم شمال كوردستان و في (تركيا) التي تبلغ نسبتها حوالي 36% من نفوس (تركيا) أي حوالي 25 مليون نسمة. لذلك فأن ممثلي شعب كوردستان قد فازوا بعدد محدود جداً من مقاعد البرلمان التركي في الإنتخابات البرلمانية السابقة، قياساً الى نفوسهم في كل من إقليم شمال كوردستان و (تركيا) و هذه النتائج المتواضعة جداً تُبين بأن الكوردستانيين بحاجة الى تنظيم أنفسهم و توحيد صفوفهم و وضع إستراتيجية صائبة لهم للعب دور رئيس في الحُكم و سياسة الدولة .
لو يقوم الكورد و العلويون بتنظيم أنفسهم و التحالف مع البعض سيستطيعون حكم تركيا من خلال الوسائل الديمقراطية المتمثلة بالإنتخابات التشريعية و الرئاسية، حيث أنّ الكورد و العلويين يتعرضون للإلغاء و الإضطهاد من قِبل الحكم التركي السُنّي. هذا بالإضافة الى المكونات القومية و الدينية و المذهبية المضطَهدة الأخرى مثل الشيعة و الآشوريين و العرب و الأرمن و اليونانيين و الشركس و السريان و اليهود الذين يجدون حريتهم و خلاصهم من الإضطهاد القومي و الديني و الطائفي من خلال تحالفهم مع الكورد و العلويين.
إن الديانة العلوية هي إحدى الديانات الكوردية القديمة و أن قسماً كبيراً من معتنقي هذا الدين من غير الكورد، هم كورد مستتركون أو مستعربون أو مستفرسون، بينما القسم الآخر ينتمون لقوميات أخرى، غير القومية الكوردية و يكونون قد إعتنقوا هذا الدين الكوردي و جعلوه ديناً لهم. الدين العلوي يكاد لا يختلف عن الدين اليارساني (الدين الكاكه يي) في شئ، حيث أنهما متماثلان في كل شئ و أن الجغرافية فقط هي التي فرّقت بين معتنقي الديانات الكوردية القديمة و خلقت بعض الإختلافات البسيطة بين الديانات الكوردية الإيزيدية و العلوية و اليارسانية و الدروزية و الشبكية، إلا أن الأسس الفلسفية لهذه الأديان لا تزال متشابهة.
يذكر المفكر الكوردستاني البروفيسور جمال نبز في كتابه المعنون المستضعفون الكورد وإخوانهم المسلمون، طُبع سنة 1994 بأن أصل كلمة علوي يعود الى الكلمة الكوردية هالاڤ التي تعني بالكوردية بخار الماء المغلي المشبه بالنار المستعرة وكذلك لظى النار نفسها. إقتبست اللغة التركية هذه الكلمة من الكوردية وحورّتها الى ألڤي التي تعني لظى النار. تُستعمل هذه الكلمة في اللغة التركية كمصطلح للإنتماء الى الديانة العلوية. هذه الحقيقة تجعل العلاقة بين الكورد و العلويين من غير الكورد علاقة روحية صميمية، يجب الإهتمام بها و تنظيم و تقوية العلاقة بينهم ليتلاحم الشعب الكوردي، ليس فقط مع علويي (تركيا)، بل مع جميع العلويين في المنطقة، بغض النظر عن قومياتهم و مع جميع أصحاب الديانات الكوردية القديمة، من إيزيدية و شبك و دروز و زردشتية و يارسانية، حيث أن الأصل الواحد و العقيدة المشتركة و التأريخ المشترك يجمعهم و يوحّدهم و يوفر أرضية مناسبة للتحالف و التعاون و التنسيق فيما بينهم.
مما تقدم نرى بأن هناك قصور خطير في برامج و خطط و أعمال و نشاطات القوى الكوردستانية الشمالية. النسبة القليلة جداً للتمثيل الكوردي في البرلمان هي إشارة واضحة الى فشل القوى و الأحزاب الكوردستانية في إقليم شمال كوردستان في كسب الناخبين الكوردستانيين. إن هذه النتيجة تشير أيضاً الى ضعف نشاطات الأحزاب السياسية و المنظمات الكوردستانية بين الجماهير الكوردستانية في كل من الإقليم الشمالي الكوردستاني و تركيا و تحتاج هذه النتيجة الى تقييم و ذلك بالقيام بإجراء دراسات و تحليلات موضوعية لإصلاح هذا الخلل الخطير. المشكلة تكمن في أنّ الأحزاب و القوى الكوردستانية في كافة أرجاء كوردستان تكاد تقتصر في نضالها على الجانب العسكري و الإعلامي فقط، مهملةّ الجوانب التنظيمية و الإقتصادية و الثقافية و الإجتماعية و التربوية و البيئية في هذا النضال و التي لها أهمية لا تقل عن أهمية الكفاح المسلح، إن لم تكن أهم منها.
تعتمد الحكومة التركية، بل حكومات جميع الدول المحتلة لكوردستان بالدرجة الرئيسة على العامل الديني و الإقتصادي الى جانب الخيار العسكري في محاولاتها الوقوف في طريق تطلعات شعب كوردستان نحو الحرية و التحرر و التقدم. يستغل محتلو كوردستان الدين الإسلامي للإستمرار في إحتلال كوردستان و إستعباد شعبها و نهب خيراتها. أبو مسلم الخراساني و صلاح الدين الأيوبي هما مثالان بارزان على إستغلال الدين الإسلامي لخداع الكوردستانيين للإبقاء على سيطرة المحتلين على كوردستان. قام أبو مسلم الخراساني بإسقاط الدولة الأموية و تسليم الحكم الى العباسيين، غير أنه بدلاً من تكريمه، تآمر عليه الخليفة العباسي الثاني، أبو جعفر المنصور، فقتله. لولا صلاح الدين الأيوبي لربما كان الدين الإسلامي اليوم لا وجود له على كوكبنا الأرضي، أو في أحسن الأحوال لَكان اليوم عبارة عن دين يعتنقه عدد محدود من الناس و لَكان العرب اليوم عبارة عن شعب صغير معزول يعيش في شبه الجزيرة العربية. هذا يعني بأنه لولا صلاح الدين الأيوبي لّكانت خارطة الشرق الأوسط السياسية مختلفة تماماً عما نراها اليوم و لَكانت غالبية سكان المنطقة يدينون بالديانة المسيحية و لَإزدهرت و إنتشرت الأديان القديمة الأخرى في المنطقة و بذلك كانت الشعوب غير العربية في المنطقة تحتفظ بثقافاتها و لغاتها و معتقداتها و أديانها و تمارس طقوسها و شعائرها الدينية بحرية. بدون صلاح الدين الأيوبي لَكان أحفاده اليوم لهم دولتهم المستقلة و كانوا لا يتعرضون الى الإبادة الجماعية و الأنفالات و التعريب و التتريك و التفريس و لا يكونون أهدافاً للأسلحة الكيميائية. هكذا تم إستغلال الدين الإسلامي من قِبل محتلي كوردستان، منذ ظهور هذا الدين مروراً بالأمويين و العباسيين و العثمانيين و الصفويين و إنتهاءً بالمحتلين الإسلامويين من أمثال أردوغان و الإخوان المسلمين و الإسلامويين الشيعة. من هنا نرى أن المسلمين مُدينون للأمة الكوردية و كان من المفترض أن يدافعوا عن شعب عريق مظلوم و مضطهَد مثل الشعب الكوردي الذي يتعرض وجوده و لغته و ثقافته الى الإلغاء، إلا أن الكثيرين منهم يقفون ضد تطلعات الشعب الكوردستاني.
من هنا ينبغي على التنظيمات الكوردستانية السياسية و الإجتماعية و الثقافية و منظمات المجتمع المدني أن تتبنى الفكر العلماني و تقوم بنشر هذا الفكر ليكون سائداً في المجتمع الكوردستاني، لترسيخ مبدأ فصل الدين عن السياسة و كون الدين هو إلتزام طوعي فردي لِمَن يؤمن به و يرغب في إداء فرائضه وأنه عبارة عن رابطة روحية تربط الفرد بالإله و لا يحق لأية سلطة أو أي فرد فرض دين معيّن على شخص آخر أو مجموعة أشخاص بالقوة و الإرهاب و التهديد.
في محاولة بائسة لتكريس إحتلالها لشمال كوردستان، تريد تركيا إستخدام العامل الإقتصادي، حيث أنها تعتقد بأن القضية الكوردستانية هي قضية إقتصادية بحتة. لذلك تحاول إيهام نفسها و إيهام الرأي العام العالمي بأن القضية الكوردستانية هي قضية إقتصادية بحتة و أن أسباب الثورات و الإنتفاضات الكوردستانية تعود لأسباب إقتصادية، حيث يعاني الكوردستانيون من الفقر و البطالة و الأمية و نقص الخدمات. إن الحكومة التركية حاولت ربط حل المسألة الكوردستانية بالإزدهار الإقتصادي، حيث قامت بالفعل بتخصيص 12 مليار دولار لتعمير إقليم شمال كوردستان خلال خمس سنوات. كما أنها أقامت مشروع GAP الذي تبلغ كلفة بنائه أكثر من 35 مليار دولار. يتكون مشروع (GAP) من 22 سداً ضخماً و من أهم هذه السدود هي سد أتاتورك و كيبان و قارقيا و براجيل و قوم قايا و يتضمن المشروع كذلك عملية كبيرة لخزن المياه و نصب محطات الطاقة الكهربائية و شبكة إروائية كبيرة. تُقدر مساحة الأرض التي يرويها المشروع بحوالي 1,7 مليون هكتار من الأراضي الزراعية المشتهرة بزراعة الفواكه والمحاصيل الزراعية و تبلغ طاقة المحطات الهيدروكهربائية حوالي 23 مليار ميغاواط/ ساعة و تصل القدرة التخزينية للمشروع الى حوالي 100 مليار متر مكعب. عند إكتمال المشروع المذكور، ستتمكن تركيا من التحكّم بحوالي 80% من مياه نهر الفرات. رغم الكلفة الباهظة لتحسين أوضاع الكوردستانيين في شمال كوردستان، فأن تركيا راغبة في التركيز على العامل الإقتصادي في محاولة منها للحد من الفكر القومي و الوطني التحرري الكوردستاني، إلا أن تحسّن الحياة المعيشية للكوردستانيين و تخلصهم من الفقر و المرض و الأمية و البطالة ستُزيد من وعيهم الوطني و الفكري و الذي بدوره سيساهم في التعجيل من تخلص الكوردستانيين من الإحتلال و الإستعمار الإستيطاني و بذلك سيكون للبرنامج الإقتصادي مردود عكسي لا يخدم مخططات النظام التركي.
الإستراتيجية الإقتصادية التركية باءت بالفشل، حيث أن المسألة الكوردستانية هي ليست مسألة إرهاب أو مسألة إقتصادية بحتة، كما يدّعي النظام التركي، بل أنها مسألة لها أبعادها القومية و الوطنية و الثقافية و الإجتماعية و الإقتصادية. المسألة الكوردستانية كانت موجودة في تركيا منذ تأسيس هذه الدولة و هكذا فأن هذه المسألة كانت موجودة قبل ولادة حزب العمال الكوردستاني و ستبقى هذه القضية قائمة الى أن تتحرر كوردستان، لأنها قضية شعب مُستعمَر و وطن محتَل.
بالنسبة الى التخطيط التركي المبرمج لتضليل الرأي العام العالمي حول القضية الكوردستانية، كنتُ بنفسي شاهداً على مثل هذه الأكاذيب التي يطلقها النظام التركي أثناء زيارةٍ لي لتركيا. كنتُ ضمن مجموعة من السواح التي كانت مؤلفة من السويديين و النرويجيين و الفنلنديين، حيث إدعى الدليل السياحي التركي المرافق لمجموعتنا بأن مشكلة جنوب شرق تركيا وهو كان يقصد إقليم شمال كوردستان، هي مشكلة إقتصادية بحتة. إذن تركيا لها برنامج مرسوم لإيهام الرأي العام الغربي بأنه ليست هناك قضية كوردستانية تخص شعب تحتل تركيا بلاده و تحاول إلغاء وجوده و هويته و ثقافته و لغته و تأريخه و تراثه، في محاولة منها للإستمرار في إحتلال شمال كوردستان و إستعباد الكوردستانيين و نهب ثروات وطنهم.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]