(تركيا) .. الى أين؟ (32) – إستراتيجية النضال التحرري الكوردستاني 3. رفع شعار إستقلال كوردستان
د. مهدي كاكه يي
من خلال التمعن في الواقع الكوردستاني، يظهر بعض الحقائق المهمة المتعلقة بالقضية الكوردستانية. هذه الحقائق هي عوامل مؤثرة جداً على القضية الكوردستانية، بل أنها تُحدد الخيارات الكوردستانية الهادفة الى تحقيق حرية شعب كوردستان و تحرير وطنه. لذلك ينبغي أن تؤخَذ هذه الحقائق بنظر الإعتبار عندما يتم البحث عن حل القضية الكوردستانية و إختيار الشعار الذي ستتبنّاه القيادة الكوردستانية لمثل هذا الحل و لوضع إستراتيجية متكاملة و ناجحة للنضال الكوردستاني.
الحقيقة الأولى: إن كوردستان بلد محتل من قِبل عدة دول و لذلك فهي مجزأة، كل جزء يتبع سياسياً و ثقافياً و لغوياً و إقتصادياً و إجتماعياً للدولة المحتلة له و التي تنهب أيضاً الثروات الطبيعية الهائلة لكوردستان. نتيجة واقع التجزئة و مؤامرات الدول المحتلة لكوردستان و إنعدام قيادة وطنية كوردستانية محنّكة، أصبح النضال الكوردستاني مجزأً و مشتتاً، حيث أن كل جزء من أجزاء كوردستان يناضل بمعزل عن الأجزاء الأخرى، بل أن الأقاليم الكوردستانية في أحايين كثيرة تحارب بعضها البعض بدلاً من توحيد نضالها ضد محتلي كوردستان.
كما أن كل جزء محتل من كوردستان قام بتأسيس تنظيمات سياسية خاصة به، بدلاً من تنظيمات سياسية موحدة تضم كافة أجزاء كوردستان و بذلك يقرّ القادة السياسيون الكورد عملياً بتجزئة كوردستان و الإعتراف بالواقع الكوردستاني الحالي و بحدود الدول المحتلة لكوردستان التي رسمتها الدول الإستعمارية و عمل هؤلاء القادة و لا يزالون يعملون على تجزئة النضال الكوردستاني و تفريق و إضعاف قوة الكوردستانيين.
الحقيقة الثانية: إن الخطورة الكبرى التي يواجهها شعب كوردستان تكمن في أن إستعمار كوردستان هو إستعمارٌ إستيطاني، حيث تدّعي الدول المحتلة لكوردستان بأن شعب كوردستان هو جزء من الشعب التركي في تركيا و من الشعب العراقي في العراق و أنه جزء من الشعب العربي في سوريا و جزء من الشعب الإيراني في إيران و أن كوردستان هي جزء لا يتجزأ من أراضي هذه البلدان المحتلة لكوردستان. أي بكلامٍ آخر فأن الدول المحتلة تعتبر كوردستان مُلكاً لها و بذلك تُجرّد شعب كوردستان من هويته و تُلغي وجود كوردستان كوطن للكوردستانيين.
هذا الإستعمار الإستيطاني يُشكّل خطراً جدّياً على وجود الشعب الكوردستاني كشعبٍ مستقل له حضارته و ثقافته و تأريخه العريق. لِكي يدوم إستمرار الإستعمار الإستيطاني لكوردستان، يعمل المحتلون على إزالة آثار وجود الشعب الكوردستاني، حيث عملت حكومات الدول المحتلة لكوردستان و لا تزال تعمل على تعريب و تتريك و تفريس كوردستان و شعبها، حيث قامت بتشريد ملايين الكوردستانيين من أماكن سكناهم في كوردستان و ترحيلهم قسراً الى المناطق العربية و التركية و الفارسية في كل من (العراق و سوريا) و تركيا و إيران على التوالي و تم إحلال العرب و الترك و الفرس محلهم و تم إغتصاب ممتلكاتهم. كما تم تغيير عشرات الآلاف من الأسماء الكوردية للشوارع و الأماكن و القرى و المناطق و المدن الكوردستانية لإلغاء الوجود الكوردي في وطنه و على أرضه التأريخية. نتيجة هذه السياسة الإستعمارية الإستيطانية، تم تتريك و تعريب و تفريس الملايين من الكوردستانيين و تقلصت و إنكمشت حدود كوردستان.
الحقيقة الثالثة: قامت الحكومات العنصرية الحاكمة للدول المحتلة لكوردستان، بترسيخ الفكر القومي العنصري و الإستعلائي في نفوس شعوبها و تلقينها بمعلومات كاذبة مشوهة عن الشعب الكوردي و أصله و تأريخه و حضارته ضمن مخطط مبرمج لخلق عداءٍ قومي بين شعب كوردستان من جهة و الشعوب التركية و الفارسية و العربية من جهة أخرى لكسب هذه الشعوب الى جانبها للمساهمة في إنجاح مخططاتها العنصرية بِمحو شعب كوردستان كشعب و تتريك و تفريس و تعريب كوردستان لسرقتها و نهب ثرواتها.
هذا المخطط العنصري لغسل أدمغة الشعوب التركية و الفارسية و العربية تمّ و يتم عن طريق وسائل الإعلام و مناهج التعليم و عن طريق زج هذه الشعوب في حروب كارثية و تجويعها و تجهيلها و نشر الأمية في صفوفها لتسهيل عملية غسل أدمغتها و إنقيادها الى القبول و الإيمان بالفكر العنصري لحكوماتها و خلق مواقف عنصرية و عدائية من حق الشعب الكوردستاني في الحرية و الإستقلال كأي شعب آخر من شعوب العالم.
هذه الحكومات نجحت الى حد كبير في إقناع شعوبها بأن كوردستان هي أرض تركية (القسم المحتل من قِبل تركيا) و عربية (القسم المحتل من قِبل العراق و سوريا) و إيرانية (القسم المحتل من قِبل إيران). هذا النجاح للحكومات المحتلة لكوردستان خلق شرخاً كبيراً في العلاقة بين شعب كوردستان من جهة و الشعوب التركية و الفارسية و العربية من جهة ثانية و الذي عمل على جعل تمتع كوردستان بإستقلالها من الأمور الصعبة من خلال الوسائل السلمية و من خلال الحوار و التفاهم و الإتفاق و في نفس الوقت قاد الى جعل النضال الكوردستاني أكثر صعوبةً.
لو أُعطيت الشعوب التركية و الفارسية و العربية فرصةً جيدة لتكون واعية و مُدرِكةً لمصالحها، لَكانت هذه الشعوب تتحالف مع شعب كوردستان لتحريرهذا الشعب من الإحتلال و تحرير هذه الشعوب نفسها من حكوماتها الدكتاتورية و العنصرية لتحقيق الحرية و العيش الكريم لنفسها و لشعب كوردستان و لَقامت ببناء أنظمة ديمقراطية في بلدانها، تنعم بالحرية و السلم و الأمان و الإزدهار. إن مصالح شعب كوردستان تلتقي مع مصالح شعوب الدول المحتلة لكوردستان للقضاء على الأفكار الشمولية و العنصرية المتخلفة و بناء دول ديموقراطية تعمل حثيثاً للإلتحاق بالدول المتقدمة المتحضرة و المساهمة في خدمة الإنسانية و تعمير و تطوير كوكبنا الأرضي.
الحقيقة الرابعة: إن الدول المحتلة لكوردستان يتم حكمها من قِبل حكومات شمولية عنصرية متخلفة، حاولت و تحاول إلغاء وجود الشعب الكوردي و إلغاء هويته و لغته و تأريخه و ثقافته و تراثه. إن هذه الحكومات العنصرية تستخدم العنف و كل الوسائل الأخرى للقضاء على شعب كوردستان و إعاقة نضاله من أجل التحرر و إستقلال بلاده، بما فيها القيام بالإبادة الجماعية و إستخدام الأسلحة الكيميائية و فرض الحصار الإقتصادي و إتباع سياسة الأرض المحروقة و هدم عشرات الآلاف من القرى و المدن الكوردستانية و تشريد سكانها و حرق غابات كوردستان و تدمير بيئتها و العمل على إلغاء الهوية و اللغة الكوردية و التأريخ الكوردي العريق و محو و إزالة ثقافة و تراث شعب كوردستان.
الحقيقة الخامسة: إن شعوب الدول المحتلة لكوردستان هي شعوب متخلفة نتيجة أسباب عديدة لا مجال هنا في الخوض فيها و لذلك فهي غير مؤهلةٍ لبناء أنظمة حُكمٍ ديمقراطية و قبول التعددية و الرأي المختلف و الإعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، بما فيها تحرر شعب كوردستان.
نظراً لتأخر شعوب الدول المحتلة لكوردستان و عدم أهليتها لبناء أنظمة سياسية ديمقراطية في بلدانها في الوقت الحاضر و في المستقبل المنظور و قد يستغرق تأهيل هذه الشعوب و تطورها أجيالاً عديدة و لهذا السبب على الكوردستانيين أن يعرفوا هذه الحقيقة و على ضوئها يضعوا أهدافهم و إستراتيجياتهم و وسائل نضالهم.
الحقيقة السادسة: تتعاون و تُنسّق الدول المحتلة لكوردستان فيما بينها للوقوف بوجه تطلعات شعب كوردستان و منعه من أن يتحرر من الإستعمار الإستيطاني و الإحتلال و العبودية. رغم الخلافات السياسية و الثقافية و المذهبية و الإقتصادية و التأريخية القائمة بين الدول المحتلة لكوردستان، فأنها تتعاون معاً للإستمرار في إستعباد شعب كوردستان و الإستمرار في إحتلال بلاده و نهب ثروات كوردستان.
هذه الحقائق السالفة الذكر تؤكد على إستحالة بناء أنظمة سياسية ديمقراطية في الدول المحتلة لكوردستان على الأقل خلال المستقبل المنظور، بحيث تعترف أنظمة الدول المحتلة لكوردستان بحق الشعب الكوردستاني في تقرير مصيره بنفسه و أن يكون ندّاً متكافئاً لهذه الشعوب.
لا تزال القضية القومية تلعب دوراً كبيراً في دول ديمقراطية متقدمة و متطورة، حيث أنه من المتوقع أن تنال شعوبٍ كثيرة في الدول الغربية المتقدمة التي تعيش ضمن كيانات سياسية مشتركة، حريتها و إستقلال بلدانها. سيتوجه الاسكتلنديون الى صناديق الإستفتاء في العام القادم (1914) ليعلنوا عن إرادتهم في الإستقلال عن بريطانيا، علماً بأن السيد ألكس سايمون رئيس الحزب القومي الاسكتلندي، الذي يرفع شعار إستقلال اسكتلندا، هو الآن رئيس حكومة اسكتلندا، حيث يتمتع حزبه هناك بالأكثرية البرلمانية. الشعب الكتالوني و الباسك في إسبانيا يعملان بدورهما من أجل إستقلال بلدَيهما عن إسبانيا. في بلجيكا، شعب الفلامان (الفلامنج) الناطق باللغة الهولندية و شعب الوالون (الوالس) الناطق باللغة الفرنسية، لا ينسجمان معاً في العيش المشترك في بلجيكا و من المحتمل جداً أن يستقل هذان الشعبان في المستقبل المنظور و يؤسسان دولتَين مستقلتَين على أنقاض مملكة بلجيكا الحالية. شعب كيوبك الناطق بالفرنسية يناضل من أجل الإستقلال عن بقية سكان كندا الناطقين باللغة الإنكليزية. إذا كانت الدول الغربية الديمقراطية التي قد تسبق الشعوب المتأخرة، مثل الشعوب التركية و الفارسية و العربية، في التقدم و التطور بمئات السنين، لا تستطيع حل التعدد الإثني في بلدانها فكيف يستطيع شعب كوردستان العيش مع الشعوب المتأخرة للدول المحتلة لكوردستان ضمن كياناتها السياسية الحالية؟!
نقطة مهمة أخرى لابد الإشارة إليها وهي أن القضية الكوردستانية غير معنية بجزء مُعيّن من كوردستان و علاقة ذلك الجزء بالحكومة المحتلة له، بمعزل عن الأجزاء الأخرى، و بكلام آخر فأن القضية الكوردستانية هي قضية واحدة لشعب واحد، محتل وطنه من قِبل عدة دول، لذلك لا يمكن حل القضية الكوردستانية بتجزئة هذه القضية الى عدة قضايا مستقلة و كل قضية تكون مرتبطة بإحدى الدول المحتلة لكوردستان بحيث يتم عزل الأقاليم الكوردستانية عن بعضها البعض، بل أن القضية هي قضية شعب كوردستان بأسره و حل القضية الكوردستانية يتم فقط على نطاق كوردستان بأكملها لأن القضية الكوردستانية هي قضية الكوردستانيين جميعاً و لا يمكن حلها ضمن نطاق كل دولة محتلة لجزء من كوردستان بمعزل عن الأجزاء الأخرى.
مما سبق، يتوصل المرء الى حقيقتَين مهمتَين، الأولى هي إستحالة تمتع الشعب الكوردستاني بحقوقه في المستقبل المنظور في ظل الدول المحتلة لكوردستان، حيث لا تعترف حكومات و شعوب الدول المحتلة لكوردستان بحق تقرير المصير لشعب كوردستان.
إن التطور الإجتماعي للمجتمعات البشرية عبارة عن عملية بطيئة جداً، لذلك فأن تطور شعوب البلدان المحتلة لكوردستان يستغرق أجيالاً عديدة، عندئذٍ قد يرتفع المستوى الفكري و وعي هذه الشعوب بحيث تتبنى النظام الديمقراطي و تتفاعل مع المفاهيم و الأفكار الإنسانية المعاصرة و تعترف بحق شعب كوردستان في تقرير مصيره و التعبير عن إرادته. الحقيقة الثانية هي أنه لا يمكن حل القضية الكوردستانية في كل جزء محتل من كوردستان بمعزل عن الأجزاء الأخرى، حيث أن تجزئة القضية الكوردستانية تعني تجزئة كوردستان وتشتت شعبها و نضاله.
للأسباب السابقة الذكر، فأن رفع شعار الحكم اللامركزي أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية من قٍبل شعب كوردستان للعيش تحت حكم الإحتلال، هو خطأ تأريخي فادح، حيث لا يمكن تحقيق تمتع الكوردستانيين بحقوقهم في ظل حكم عنصري شمولي و العيش مع شعوب متخلفة لا تقرّ بحقوق شعب كوردستان. كما أن رفع مثل هذه الشعارات للقبول بالعيش في ظل الدول المحتلة لكوردستان، هو إقرار صريح بقبول إحتلال كوردستان و تجزئة شعبها. إن تجزئة القضية الكوردستانية تعني أيضاً تجزئة النضال الكوردستاني و التي بدورها تؤدي الى إضعاف هذا النضال وتقليل فرص تحقيق طموحات شعب كوردستان، بينما تقوم الدول المحتلة لكوردستان بالتنسيق فيما بينها سراً و علناً لتتمكن من الإستمرار في إحتلال كوردستان و إستعمار شعبها و الوقوف بوجه تطلعات الكوردستانيين في التمتع بالحرية و الإستقلال و من أجل الإستمرار في نهب ثروات كوردستان.
إن عدم ثبات الشعارات التي ترفعها الثورات و التنظيمات السياسية الكوردستانية و ضبابيتها تؤديان الى عدم تحقيق الأهداف الكوردستانية و إرباك شعب كوردستان و نضاله، حيث أن الثورات و الأحزاب الكوردستانية تقوم بتغيير هدف نضالها بإستمرار كأنْ تناضل من أجل الإدارة اللامركزية أو الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو حق تقرير المصير أو الإستقلال.
إن عدم رفع شعار إستقلال كوردستان تجعل القضية الكوردستانية شأن من الشئون الداخلية للدول المحتلة لكوردستان و بذلك تتقوقع القضية الكوردستانية داخل حدود الدول المحتلة و المستعمرة و تمنعها أن تصبح قضية عالمية لشعب مستعمَر و بلاد محتلة تحتاج الى تدخّل الأمم المتحدة و الدول الكبرى و تلقّي الدعم و المساعدة منها ليتحرر شعب كوردستان من العبودية و الإحتلال.
فيما يتعلق بهذا الموضوع، يجب التأكيد على أنه لا يحق لفرد أو حزب أو مجموعة ما أن تقرر مصير شعب كوردستان، بل يجب رفع شعار إستقلال كوردستان ليتحرر من الإحتلال الإستيطاني و يعيش بكرامة و عزة في وطنه، حيث أنه ليس هناك شعب على كوكبنا الأرضي يرضى أن يكون عبداً في وطنه و أن تكون بلاده محتلة و ثرواته الطبيعية يتم نهبها من قِبل المحتلين.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]