إمتداد الجذور التأريخية للشعب الكوردي في أعماق كوردستان 2-3
د. مهدي كاكه يي
في الحلقة السابقة تم التطرق الى ظهور إسم (كوردستان) وإسم (الكورد) خلال التأريخ القديم. كما تم التحدث عن أسلاف الكورد السومريين والسوباريين والخوريين، لتعريف القارئات العزيزات والقراء الأعزاء بالوجود السحيق للشعب الكوردي في وطنه، كوردستان وللرد على أكاذيب محتلي كوردستان والحاقدين على الشعب الكوردي الذين يحاولون يائسين أن يفصلوا الكورد عن وطنهم ويُظهروا الشعب الكوردي شعباً لاجئاً في بلده، للإستمرار في إحتلال كوردستان ونهب مواردها وإذلال شعبها. في هذه الحلقة، نواصل الحديث عن كون كوردستان الموطن الأصلي لشعب كوردستان من خلال إختيار مقتطفات من التاريخ الكوردي، يعود لعصور مختلفة.
6. الإمبراطورية الميدية (708 – 560 قبل الميلاد): كانت تحد ميديا من الشرق أفغانستان، بل كان بعض أراضي أفغانستان جزء من ميديا، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط ومن الشمال مناطق كادوس فيما وراء نهر (آراس) ومن الجنوب الخليج الفارسي. كانت الإمبراطورية الميدية تضم كلاً من فارس و أرمينيا و آشور و إيلام و هيركاني و جزء من باكستان على المحيط الهندي و شمالي شرقي سوريا الحالية. تم إسقاط الإمبراطورية الميدية من قِبل الأخمينيين الفرس في سنة 560 قبل الميلاد، حيث دامت هذه الإمبراطورية لِحوالي 150 سنة.
يذكر المؤرخ (سايس) بأن الشعب الميدي كان يتألف من عشائر كوردية تقطن شرقي مملكة آشور، حيث كانت حدود موطنها تمتد الى جنوبي بحر قزوين و كانت غالبية هذا الشعب من الهندوأورپيين (م. سايس: التاريخ العام للمؤرخين، الجزء الثاني، 1918). لغة الميديين هي اللغة الحالية التي يتكلم بها الشعب الكوردي اليوم (حسن پیرنیا: تاريخ إيران منذ العهود القديمة الى سقوط الدولة الساسانية، الطبعة الثانية، 1927؛ مسعود محمد: لسان الكُرد، مطبعة الحوادث، 1987)، حيث يذكر العلامة مسعود محمد في كتابه المذكور بأن العشائر الكوردية الموكريانية لا تزال تحتفظ باللغة الميدية، حيث أن اللهجة التي يتكلمون بها هي اللغة الميدية. يقول السير (ولسون) بأن الكورد هم أحفاد الميديين (مصدر 1). كما يذكر (ميجرسون) بأنه في القرن الخامس عشر والثاني عشر قبل الميلاد كان الشعب النايري، الذي هو سلف الميديين، يعيش في القسم الأوسط من كوردستان وأن هذا الشعب حمل إسم (الكورد) فيما بعد (مصدر 2). يضيف (ميجرسون) بأنه في أيام مجد الشعب النايري وتفوقه كان هذا الشعب على جانب كبير من القوة والسلطان اللتين كان لهما شأن ظاهر في إلقاء الرعب والهيبة في قلوب جميع الشعوب والأمم المجاورة له.
يقول ابن خلدون بأن الكورد منحدرون من الميديين (عبد الرحمن بن محمد إبن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. مطبعة دار الفجر في التراث، القاهرة، 2004). كما يذكر (حسن پيرنيا) بأن الميديين هم من الشعوب الآرية وهم أجداد الكورد ولغتهم هي نفس لهجة الكورد الموكريانيين الساكنين في شرق كوردستان (حسن پیرنیا: تاريخ إيران منذ العهود القديمة الى سقوط الدولة الساسانية، الطبعة الثانية، 1927)، وفي كتابه عشق وسلطنة يقول (حسن پيرنيا) بأن لغة الميديين هي لغة كوردية. هكذا نرى بأن أسلاف الكورد الميديين قاموا بتأسيس إمبراطورية عظيمة في المنطقة قبل أكثر من 2700 سنة.
7. الكتابة الكوردية: كان للكورد قبل الإحتلال العربي الإسلامي لكوردستان، أبجدية خاصة بهم للكتابة (لاحظ الصورة الموضوعة في نهاية المقال)، حيث أن (إبن وحشية) قبل أكثر من ألف و مائتَين سنة، نشر كتابه المعنون (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) (أحتفظ بنسخة إلكترونية من هذا الكتاب)، يذكر في كتابه المذكور الحروف الكوردية القديمة المستعملة من قِبل الكورد. الكتاب مطبوع في أوروپا قبل قرنين من الزمن وأن نسخة المخطوطة ترجع إلى أكثر من عشرة قرون.
إبن وحشية هو أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن المختار بن عبد الكريم بن حرثيا و المعروف بالصوفي وهو كلدانيّ الأصل، عالمٌ بالكيمياء و اللغة و الزراعة، لا يُعرف له تأريخ ميلاد و يرجّح أنه توفي في أواخر القرن الثالث الهجري (العاشر الميلادي). كان يعيش في قسين التي كانت كورة من مدينة الكوفة الحالية. أورد (إبن النديم) أسماء كثير من مؤلفاته. من كُتبه الأخرى وترجماته: غاية الأمل في علوم الرياضيات، الفوائد العشرون في الكيمياء، الإشارات في السحر، الأصنام، الحياة و الموت في علاج الأمراض، كتاب الطبيعة، كتاب الفلاحة النبطية (مخطوط) ترجمه عن الكلدانية في سنة 291ﮪ (904 ميلادية)، و كتاب في إصلاح الكروم والنخيل (مخطوط) ترجمه عن الكوردية في دمشق.
في كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، يعنون (إبن وحشية) الباب السابع من كتابه في صفحة 67 كالآتي: (الباب السابع من شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام في ذكر أقلام الملوك التي تقدمت من ملوك السريان والهرامسة والفراعنة والكنعانيين والكلدانيين والنبط والأكراد والكسدانيين والفرس والقبط) (يستعمل إبن وحشية عبارة رموز القلم للدلالة على حروف الكتابة). كما أنه يكتب في صفحة 131 من كتابه المذكور ما يلي: (و أما الكلدانيين فكانوا أعلم الناس في زمانهم بالعلوم و المعارف و الحُكم و الصنايع، و كان الأكراد يريدون مناظرتهم و مماثلتهم). يستنتج المرء من هذا القول بأن الكورد كانوا أهل العلم و المعرفة، حيث أنهم كانوا ينافسون الكلدانيين في هذا المجال. يستطرد إبن وحشية في حديثه في نفس الصفحة قائلاً: (و إنما كانت براعة الأكراد الأول في صناعة الفلاحة وخواص النبات ويدعون أنهم من أولاد بينوشاد، وقد وصل إليهم سفر الفلاحة لآدم عليه السلام). يقول إبن وحشية في كتابه عن الكتابة الكوردية ما يلي: (وهو من الأقلام العجيبة والرسوم الغريبة، وقد رأيتُ في بغداد في ناووسٍ (تابوت حجري) من هذا الخط نحو ثلاثين كتاباً، وكان عندي منها بالشام كتابَين: كتاب في إفلاح الكرم والنخيل، و كتاب في علل المياه و كيفية إستخراجها من الأراضي المجهولة، فترجمتُهما من لسان الأكراد إلى اللسان العربي لينتفع به أبناء البشر). يقول إبن وحشية في نهاية كتابه المذكور ما يلي: صفة قلم آخر من الأقلام القديمة وفيه حروف زائدة عن القواعد الحرفية، تدّعي الأكراد وتزعم أنه القلم الذي كتب به بينوشاد وماسي التوراتي جميع علومهما وفنونهما وكُتُبهما.
مما سبق يدل بأن اللغة الكوردية قبل أكثر من 1100 سنة، لم تكن مجرد لغة محكية أو مكتوبة فحسب، بل كانت كذلك لغة علمٍ منتشرة في منطقة الشرق الأوسط، في كوردستان وبغداد والشام والكوفة، حيث كانت هناك العشرات من الكتب والمخطوطات العلمية المكتوبة باللغة الكوردية وتمت ترجمة بعضها الى اللغة العربية، حيث كانت اللغة الكوردية هي اللغة الرسمية لبلاد ما بين النهرَين في ذلك الوقت كما سيأتي ذكره في هذا المقال. كما أن إتقان رجلٍ كلداني مثل إبن وحشية للغة الكوردية يدل على أن اللغة الكوردية كانت سائدة في بلاد ما بين النهرَين والشام، حيث أن غير الكورد كانوا يتقنون اللغة الكوردية ويترجمون الكتب المكتوبة بهذه اللغة الى لغات أخرى. كما أن ترجمة إبن وحشية لِكتابَين كورديين تدل على الأهمية العلمية للكُتب الكوردية والتي بدورها تشير الى التقدم العلمي والحضاري للكورد في ذلك الوقت.
8. اللغة الكوردية لغة رسمية في بلاد ما بين النهرَين: كانت اللغة الكوردية هي اللغة الرسمية في بلاد ما بين النهرين قبل الإحتلال العربي - الإسلامي لهذه البلاد وبقيت لغة رسمية فيها بعد الإحتلال الى أن تسلّم الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان الحكم. كانت اللغة الكوردية تُكتب بأبجديتها الكوردية التي يتحدث عنها (إبن وحشية) في كتابه المعنون (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، المكتوب قبل أكثر من 1200 سنة. كما أن اللغة الكوردية كانت اللغة المستخدمة في الدواوين والشؤون الرسمية الإدارية في بلاد ما بين النهرَين وكانت جميع الدواوين الرسمية بإدارة رجل كوردي إسمه (زادان مەرروخ). كان الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان من أكثر الخلفاء الأمويين تمسكاً بالتعصب العربي العنصري، حيث طبّق سياسة التعريب في مجالات عديدة. لقد منع عبد الملك بن مروان التعامل بالعملة الرومية التي كانت متداولة آنذاك وإستعاض عنها بسكّة عربية. كما منع إستعمال اللغة الكوردية، فقام بتعريب الجهاز الحكومي الإسلامي في زمن أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي (660 - 714 م) الذي كان سياسياً وقائداً عسكرياً أموياً، فتمّت ترجمة جميع الدفاتر وأمور الدولة الأموية من اللغة الكوردية إلى اللغة العربية بأمر من الحجاج الثقفي. بعد أن ألغى الحجاج اللغة الكوردية كلغة رسمية لبلاد ما بين النهرين و إستبدلها باللغة العربية، بقيت اللغة الكوردية وأبجديتها مستعملة على نطاق ضيق وبشكل سري حتى أواخر عصر الخلفاء العباسيين (كێو موكريانی: فەرهەنگي مەهاباد. چاپي يەكەمين – هەولێر- چابخانەى كوردستان، 1961؛ محمد مەردوخي كوردستانی: مێژووی كورد و كوردستان. ترجمة عبدالكريم محمد سعيد، مطبعة أسعد، بغداد، 1991، صفحة 81، 302).
9. الموسيقار العبقري الكوردي (زرياب): ولِد (زرياب) في بغداد في سنة 789 ميلادية خلال فترة حكم هارون الرشيد. ترك زرياب بغداد، متوجهاً الى بلاد الأندلس، حيث إستقر هناك في مدينة قرطبة. إنتشر مقطوعاته الموسيقية من الأندلس الى جميع أنحاء أوروپا وأصبح موسيقاراً عالمياً مشهوراً. هذا الموسيقار والمغني الكوردي كان تلميذاً للموسيقار الكوردي إسحق الموصلي. أضاف (زرياب) وتراً خامسا ً لآلة العود الموسيقية، حيث كانت لهذه الآلة أربع أوتار قبل ذلك. كما أن زرياب كان السبب في إختراع الموشح، بتعميمه طريقة الغناء على أصول النوبة، بالإضافة الى إدخاله مقامات كثيرة لم تكن معروفة من قبله و جعل مضراب العود من قوادم النسر بدلاً من الخشب. (زرياب) كان أول من أدخل نظام إفتتاح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر كما أنه هو أول من وضع قواعد تعليم الغناء للمبتدئين. هكذا نرى الوجود الكوردي في بغداد قبل 1225 سنة، حيث ولِد (زرياب) هناك وأن بنات وأبناء الشعب الكوردي كانوا يكرّسون حياتهم في خدمة البشرية من خلال الإبتكارات الموسيقية وتطوير الموسيقى كأجدادهم الخوريين الذين إبتكروا أول نوطة موسيقية في تأريخ البشرية قبل أكثر من 3400 سنة.
المصادر
1. Lient Colonel Wilson (1917-1920). Mesopotamia, London.
2. Soane, E. B. (1912). Mesopotamia and Kurdistan in disguise. London.
mahdi_kakei@hotmail.com
الحروف الكوردية المنشورة في كتاب (إبن وحشية)
[1]