إمتداد الجذور التأريخية للشعب الكوردي في أعماق كوردستان 3-3
د. مهدي كاكه يي
في الحلقتين السابقتين تم التطرق الى ظهور إسم (كوردستان) وإسم (الكورد) خلال التأريخ القديم. كما تم التحدث عن أسلاف الكورد السومريين والسوباريين والخوريين والميديين ووجود الكتابة الكوردية قبل ظهور الإسلام وكون اللغة الكوردية لغة رسمية في بلاد ما بين النهرَين الى أن تم إلغاؤها من قِبل الحجاج بن يوسف الثقفي في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. كما تم الحديث أيضاً عن الموسيقار الكوردي العبقري (زرياب) الذي إشتهر في كافة أنحاء أوروپا ومنطقة الشرق الأوسط في بداية القرن التاسع الميلادي. في هذه الحلقة والتي هي الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة من المقالات، نواصل حديثنا عن جوانب أخرى من التأريخ الكوردي لتعريف القارئات العزيزات والقراء الأعزاء بالوجود السحيق للشعب الكوردي في وطنه، كوردستان ولِكشف أكاذيب محتلي كوردستان والحاقدين على الشعب الكوردي الذين يحاولون عبثاً إلغاء تأريخ الشعب الكوردي في وطنه، كوردستان ويُظهروه شعباً لاجئاً غريباً في بلاده، للإستمرار في إحتلال كوردستان ونهب مواردها والعمل على إلغاء هوية الشعب الكوردي ولغته وتأريخه وثقافته وتراثه. في هذه الحلقة، نضيف معلومات أخرى عن كون كوردستان الموطن الأصلي للشعب الكوردي.
10. أبو الطيب المتنبي يكتب الشعر لِقائد عسكري كوردي: كان (دلێر بن لَشكَروز) أحد القادة العسكريين البارزين في مركز الخلافة العباسية في بغداد. إشتهر (دلێر) بتصدّيه للتمرد القرمطي الذي قام به أحد أفخاذ قبيلة (كلاب) في عام 353 هجري (964 ميلادي)، حيث قام أفراد القبيلة المذكورة بالهجوم المسلَّح على مدينة الكوفة و إحداث إضطرابات فيها. إشترك الشاعر (أبو الطيب المتنبي) بنفسه، مع غلمانه في القتال ضدهم و تمكنوا من إلحاق الهزيمة بهم و إخراجهم من مدينة الكوفة، بعد أن كبدوهم خسائر كبيرة في الأرواح و غنموا أسلحة كثيرة منهم. وصل الكوفة القائد العسكري الكوردي (دلێر)، قادماً من بغداد، فوجد الأوضاع هادئةً و مستقرة، فوجّه الدعوة لوجوه المدينة من الذين وقفوا ضد الإنتفاضة فكافأهم و منحهم هدايا تقديرية. كان من بين الحضور الشاعر (المتنبي). نتيجة هذا الحدث، نظمّ المتنبي قصيدة بعنوان (دون الشهدِ إبرُ النحَل)، في مدح القائد العسكري الكوردي (دلێر بن لَشكَروز) الذي أرسلته بغداد لقمع الإنتفاضة.
تتكون هذه القصيدة من أربعين بيتاً، الأبيات العشرة الأولى هي أبيات غزلية، حيث قال في مطلعها:
كدعواكِ كلٌّ يدّعي صِحةَ العقلِ
ومن ذا الذي يدري بما فيهِ من جهلِ
تقولين ما في الناس مثلك عاشق جدي
مثل من أحببته تجدي مثلي
تُريدين لُقيانَ المعالي رخيصةً
ولا بُدَّ دون الشهدِ من إبَرِ النحلِ
الأبيات الثلاثين الباقية، خصصها الشاعر المتنبي لِمدح القائد (دلێر) والتي نقتطف منها هذه الأبيات:
أرادتْ كلابٌ أنْ تفوزَ بدولةٍ
لمن تركتْ رعيَ الشويهاتِ والإبلِ
وقادَ لها دِلّيرُ كلَّ طِمرِّةٍ
تُنيفُ بخديها سَحوقٌ من النخلِ
شفى كلَّ شاكٍ سيفهُ ونوالُهُ
من الداءِ حتى الثاكلاتِ من الثُكلِ
عفيفٌ تروقُ الشمسَ صورةُ وجههِ
فلو نَزَلتْ شوقاً لحادَّ إلى الظلِّ
شجاعٌ كأنَّ الحربَ عاشقةٌ له
إذا زارها فدّتهُ بالخيلِ والرَجلِ
و ريانُ لا تصدى إلى الخمرِ نفسُهُ
و صديانُ لا تًروي يداهُ من البذلِ
فتمليكُ دِلَّيرٍ وتعظيمُ قدرهِ
شهيدٌ بوحدانيةِ اللهِ والعدلِ
وما دامَ دِلَّيرٌ يهزُّ حُسامَه
فلا نابَ في الدنيا لليثٍ ولا شِبلِ
فلا قطعَ الرحمنُ أصلاً أتى بهِ
فإني رأيتُ الطيّبَ الطيّبَ الأصلِ.
هكذا كان الوجود الكوردي في بغداد حاضراً قبل أكثر من ألف عام، حيث أن كوردياً كان قائداً عسكرياً بارزاً في الدولة العباسية وأن شاعراً عربياً كبيراً مثل المتنبي كتب الشعر له، يمدح فيه هذا القائد الكوردي.
11. الإمارة الورامية الكوردية في بابل و بناء مدينة الحلة من قِبل الكورد: في العصر العباسي، كان السكان الأصليون الذين يعيشون في منطقة الحلة، تتألف من قبائل كوردية و عربية و نبطية. أما العربُ فكان أكثرهم من بني أَسَد، و كانت تعيش فيها أيضاً طوائف من عرب خفاجة و عبادة وعقيل وغيرهم من عرب العراق. في عام 479 للهجرة (1086 ميلادي)، تولى إمارة بني مَزيد، الأمير سيف الدولة صَدَقة، الذي كان من أمراء بني أسد القادمين إليها من واسط، ثم من النيل. سيف الدولة كان أول من سكن في الحلة وإتخذها عاصمةً له في شهر مُحرَّم عام 495 للهجرة (1102 ميلادي). أما الكورد فكانوا من قبيلة جاوان (جاوان تعني باللغة الكوردية ”شاب أو جميل) و شاذان (هذ الإسم متحور من كلمة ” شادان الكوردية التي تعني ”سعداء). كان من رجالات قبيلة جاوان الكوردية الفقيه (محمد بن علي جاواني) المولود في سنة 468 هجرية (1076 ميلادية). الجاوانيون، قبل نزوحهم إلى الحلة، كانوا يسكنون الجانب الشرقي لنهر دجلة. يأتي المسعودي على ذكر (أكراد واسط) في أحداث عام 329 الهجري (941 ميلادي) في مؤلفه الشهير (مروج الذهب و معادن الجوهر). كانت حتى عهد غير بعيد، أكثرية غالبة من الكورد الشيعة تقطن في ضواحي ونواحي وبعض أقضية محافظة ميسان وواسط، منتشرين شمالاً حتى خانقين وبعض مناطق محافظة ديالى، فمن تلك المناطق جاء كُرد الحلة مع بني مَزيد. قبيلة جاوان تحالفت مع بني مَزيد الأَسَديين، حيث كان إتصالهم بالمزيديين يمتدُّ من عهد الأمير علي بن مَزيد حينما كان في ميسان. كانت قبيلةُ جاوان شافعيةَ المذهب والمزيديون شيعةً إثني عَشَرية ولكن على مر الأيام إندمجوا ببني أَسَد فصاروا شيعةً إثني عَشَرية، كما إستعرب الكثير منهم. لا تزال هناك في مدينة الحلة محلة قائمة بذاتها تُسمّى (محلة الكراد) و قبور الأمراء الكورد، مثل (ورام جاواني)، ماثلة للعيان في هذه المدينة. في عهد أميرهم، وَرام الثاني إبن أبي فِراس، إنتقل الجاوانيون إلى (أرض الجامعين) ليؤسسوا الحلة مع أمير بني أَسَد، صَدَقة، وكانت القبيلة الجاوانية تتألف من مجموعتين هما البِشرية و نَرْجِس. من الأُسر التي كانت تنتمي الى الجاوانيين، كانت الأسرة الورامية، نسبة الى وَرام بن محمد الجاواني الذي كان عائشاً في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي) و الذي كان قد تحالف مع الأمير أبي الحسن علي بن مَزيد الأسَدي. ومما زاد في قوّة التحالف بين المزيديين و الجاوانيين هو حصول المصاهرة بينهم، فقد كانت أم الأمير صَدَقة من الكورد الوراميين، حيث كان وَرام بن أبي فراس خال الأمير صَدَقة.
يتبين لنا مما سبق بأنّ قسماً من الكورد الحاليين العائشين في وسط وجنوب بلاد ما بين النهرين، هم أحفاد قبيلة جاوان الكوردية التي بنت مدينة الحلة الحالية، بالمشاركة مع قبيلة بني أسد العربية، و أسست الإمارة الورامية الكوردية الى جانب الإمارة المزيدية العربية. كما يظهر لنا أنّ لا علاقة لتشيّع قسم من الكورد بإيران، حيث أنهم إعتنقوا المذهب الشيعي قبل تأسيس الدولة الصفوية، وأصبحوا شيعة منذ زمن البويهيين، تشيّعوا بالتحالف والمصاهرة مع رؤساء قبيلة بني أسد الشيعية منذ منتصف القرن الرابع الهجري وإستعرب قسم منهم. القسم الآخر من الكورد إعتنقوا المذهب الشيعي الإثني عشري أثناء فترة الحكم الصفوي (1721-1507 م).
هكذا نرى أن أحفاد السومريين والكاشيين الكورد كانوا منذ أكثر من ألف سنة يعيشون في محافظات ميسان وواسط وبابل وديالى، منتشرين شمالاً حتى خانقين وبعض المناطق الأخرى لمحافظة ديالى، وشاركوا في بناء مدينة الحلة في بابل. في الحقيقة فأن المنطقة الواقعة شرق نهر دجلة من العراق الحالي، هي تاريخياً وجغرافياً جزءً من كوردستان، حيث تم تعريب القسم الأكبر منها بعد الإحتلال العربي الإسلامي للمنطقة كما تم تعريب وإستعراب غالبية الكورد في هذه المناطق. لمعرفة المزيد من المعلومات عن بناء مدينة الحلة و مدح الشاعر (المتنبي) للقائد الكوردي (دلێر بن لَشكَروز)، يمكن الإطلاع على المقال القيّم للدكتور عدنان الظاهر من خلال فتح الرابط الموضوع في نهاية هذا المقال.
12. إمارة أردلان (1169-1869م): أسس (باوه أردلان) هذه الإمارة، حيث سُمّيت هذه الإمارة بإسمه. إمتدت إمارة أردلان من أصفهان الى الموصل، حيث دام حكم هذه الإمارة حوالي 700 سنة والتي كانت قائمة من سنة 1169 الى سنة 1869 ميلادية، إلا أن الأمير شرفخان بدليسي يذكر في كتابه شرفنامه بأن دولة أردلان تم تأسيسها في زمن الساسانيين، أي قبل ظهور الإسلام و أنها إستمرت الى سنة 1869م (شرفخانى بدليسى: شرفنامه. ترجمة هەژار، كۆڕی زانیاری كورد، چاپی دوهەم، چاپخانەی جەواهیری، تاران، 1982).
كانت إمارة أردلان تضم أصفهان وهمدان وكرماشان وهورامان وشارزور وأربيل وراوندوز وكركوك والموصل وكفري وخانقين ومندلي وتكريت وأجزاء من محافظة الكوت. خضعت إمارة العمادية التي كانت تضم عقرة والدير ودهوك وزاخو، لحكم الأردلانيين لمدة 200 عاماً والذي إستمر من القرن الثاني عشر الى القرن الرابع عشر الميلادي. في البداية، تأسست هذه الدولة في شارزور الواقعة في محافظة السليمانية و ثم إنتقل مركز حكم الدولة الأردلانية الى مدينة سنه، حيث إتخذ الأردلانيون هذه المدينة عاصمة لهم. كانت اللهجة الگورانیة هي اللهجة الرسمية لدولة أردلان. قامت هذه الدولة الكوردية بسك النقود الخاصة بها.
يذكر الأمير شرفخان بدليسي بأن حكومة أردلان كانت حكومة قوية وعظيمة الشأن. كما يقول اللورد كريمر عن نفوذ حكام إمارة أردلان في منطقة كركوك بأنهم كانوا السادة الحقيقيين لكركوك وتوابعها وحتى منطقة تكريت. فيما يتعلق بدور إمارة أردلان في التأريخ الكوردي، يذكر لونكريك بأن أردلان أفضل إمارة ظهرت في المنطقة من حيث الحضارة أو الحكم الملكي قبل الإحتلال العثماني للمنطقة و حتى أنه يصفها بالإمبراطورية الأردلانية أكثر من مرة (ستيفن هيمسلي لونكريك، 1968م، أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث، كتاب يبحث عن تأريخ العراق في العصور المظلمة. ترجمة جعفر الخياط، الطبعة الرابعة، بغداد). كما يشير (لونكريك) بأن (جنكيزخان) قد إعترف بِحكومة أردلان. القاجاريون بقيادة ناصر الدين شاه (1848 - 1896) أسقطوا الدولة الأردلانية في عام 1869. هكذا نرى بأن الكورد أسسوا إمارة مترامية الأطراف تمتد من أصفهان الى الموصل قبل حوالي 850 سنة وحكمت هذه الإمارة لمدة 700 سنة.
13. الدولة الأيوبية (1172-1543م)
لِنبدأ بالسلطان صلاح الدين الأيوبي (1137-1193م). ولِد هذا القائد الكوردي الشهير في تكريت في سنة 1137 ميلادية. يذكر القاضي إبن شداد الذي كان من أصحاب السلطان صلاح الدين بأن والد صلاح الدين (نجم الدين أيوب) كان والياً على تكريت. هذا يثبت على الوجود الكوردي في منطقة تكريت منذ أكثر من 877 سنة. الجدير بالذكر أن أصل عائلة صلاح الدين الأيوبي يعود الى القبيلة الهذبانية، حيث كانت هذه القبيلة تحكم كوردستان في القرن الرابع الميلادي أي قبل الإحتلال العربي الإسلامي لِكوردستان بِحوالي 300 سنة وكانت تُطلق آنذاك إسم (بلاد الهذبانيين) على كوردستان.
أقامت الأسرة الأيوبية دولة كبيرة وقوية ضمت مصر وسوريا وفلسطين واليمن وشمال أفريقيا و كوردستان وعاشت هذه الدولة لمدة 371 سنة. كانت أكثرية أفراد الجيش الأيوبي وقوّاده من الكورد وهذا يشير الى حضور الوجود الكوردي الكبير في منطقة الشرق الأوسط. هكذا نرى أن الكورد أسسوا دولة قوية مترامية الأطراف قبل 842 سنة وقهرتْ هذه الدولة القوات الأوروپية الغازية في الحروب المعروفة بالحروب الصليبية التي دارت رحاها في المنطقة آنذاك.
http://d-adnan.i8.com/mutanaby/16.html
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]