عارات الأنفال والتاريخ الأسود !؟ (4-4)
#كفاح محمود كريم#
إن ضحايا الأنفال الحقيقيين ليسوا أولئك الذين هامت أرواحهم الطاهرة في صحاري نكرة السلمان أو النجف أو كربلاء أو الحضر فقط، بل تلك الآلاف المؤلفة من الكورد في بغداد والكوت والعمارة والفرات الأوسط ممن عُرفوا بالتبعية الإيرانية والكورد الفيليين الذين تم تصفيتهم بالكامل وتغييبهم منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، إضافة إلى آلاف البارزانيين وكورد غرب دجلة في كل من سنجار وزمار وتلعفر من المسلمين والايزيديين الذين تم تهجيرهم واعتقالهم في مجمعات قسرية بائسة أو إصدار قرار من مجلس قيادة الثورة في منتصف السبعينات باعتبارهم من القومية العربية هم وآلاف الكورد من سكان الموصل وغيرها.
إن ضحايا الأنفال تجاوزوا المليون إنسان تم تصفيته بتلك الأساليب البربرية المتوحشة منذ شباط 1963 ولغاية نيسان 2003 إضافة إلى عمليات الصهر القومي المخزية التي تدنت إلى مستويات منع الأسماء الكوردية من التسجيل أو الحصول على الوثائق الرسمية، كما حصل في ما سمي بقرار تغيير القومية في كل من الموصل وكركوك ومدنهما وبلداتهما، إضافة إلى تهجير مئات الآلاف من الكورد وترحيلهم وإجبارهم إلى مغادرة البلاد إلى أوروبا وأمريكا ودول الجوار.
وبذلك لم تعد هذه الجرائم قضية كوردية يتذكرها الكوردستانيون لوحدهم كل عام يمر، بل هي حدث عالمي وملك للبشرية اجمع، لأنها كانت بحق النوع الإنساني من وحوش بشرية لا تمتلك مقومات الإنسان السوي في فكره وسلوكه وأخلاقه. ولكي لا تتكرر مثل هذه المأساة والجرائم الهمجية بحق الإنسانية في أي مكان آخر من كوكبنا وضد أي مجموعة عرقية أو قومية أو دينية، ولأن الكثير من الذين اقترفوا تلك الجرائم والمآسي ما زالوا طلقاء وربما في مواقع التأثير في القرار أو التوجيه، ولأن الساكتين والمؤيدين والمدافعين عنها مازالوا لحد الآن على مواقفهم من تلك البربرية الهمجية، علينا أن نحولها إلى قضية عالمية لتشترك كل الحكومات والشعوب الديمقراطية والمتحضرة في تنبيه العالم إلى خطورة وجرائم هذا النهج البدائي والهمجي في التعامل بين البشر. وأن نبدأ هنا في العراق، سواء في بغداد أو في إقليم كوردستان وبقية محافظات واقاليم العراق الأخرى، بإنشاء مراكز متخصصة للبحث والدراسة في عمليات الأنفال بشكلها الواسع منذ شباط 1963 ولغاية نيسان 2003، ووضع آلية لكشف أسرار تلك العمليات والبحث عن مئات أو ربما آلاف المجرمين الذين اقترفوا تلك الجرائم واخفوا الآلاف من النساء والأطفال ممن لم يقتلوا، وتاهوا أو غُيبوا بين القرى و العشائر في أقاصي العراق خارج كوردستان.
علينا أن ننطلق وفق رؤيا علمية متحضرة وطريقة أكاديمية متقدمة للبحث عن آلاف الأسرار والقضايا التي لم تكشف لحد الآن لما يزيد على مليون من ضحايا الأنفال منذ أكثر من أربعين عاما وعلى كافة الأصعدة والمستويات الرسمية والأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني. إنها عملية في غاية الأهمية والضرورة، فإذا كانت حقب الزمن السحيق من تاريخ الكورد وكوردستان قد غيبته الأديان والانصهار في أممية مبكرة عاشها الكورد وكانوا عناوين الإيثار فخسروا فرصتهم المبكرة في إنشاء كيانهم ودولتهم أسوة بشعوب المنطقة، فالأجيال المعاصرة والقادمة لن ترحمنا إذا لم نعط إجابات وافية لكل ما جرى في أنفال القرن الماضي، إنها وثيقتنا إلى المستقبل، وشهادة تخرجنا من عالم الاستعمار إلى الحرية والاستقلال.
إن ما قدمه الكورد من قرابين في التاريخ المعاصر على مذبح الحرية والدفاع عن القيم الإنسانية العليا لا يضاهيه تضحية في كل الأرض وشعوبها قياسا لضروفه وعدد سكانه وقسوة تلك الهجمة البربرية عليه وما أنتجته من سمو في أخلاقياته ونبل في تصرفه بعيدا حتى عن نوازع الانتقام أو الثأر أو حتى التشفي بانكسار أعدائه، إذ طالما أعطى البشرية أروع الدروس بالتعامل حتى مع الأعداء، ففي أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي وحينما كانت هناك فرصة للسلام مع من احرقوا كوردستان وقتلوا أكثر من مليون من سكانها، ترك البيشمه ركه السلاح جانبا وجرحاهم ما زالوا في المستشفيات ليحاولوا شق طريق إلى السلام، لأنهم لم يكونوا يحاربوا من اجل الحرب، وليست في أجندتهم منظومات للانتقام أو مركبات للنقص فهم فرسان للشمس ودعاة للمثل العليا، وفعلا ذهبوا إلى العدو وباشروا مفاوضاتهم رغم معرفتهم بان العدو لم يتغير في تركيبته الفكرية ومعالجاته للقضية الكوردية، إلا إنها دعوة للسلام ربما تحقق تقدما معين. وتعطي العدو درسا متحضرا في التعاطي مع الشعب الكوردستاني بعيدا عن عقد الحروب وإرهاصاتها.
إن الأنفال وجرائمها عبر أربعة عقود، تمثل تراجيديا الاندفاع الكوردي باتجاه الحياة الحرة الكريمة، وهي صفحات مهمة وخطيرة من تاريخنا المعاصر، علينا أن نوثق ونكشف كل أسرارها الآن وفي المستقبل، لا لكونها قضية كوردية بل لأنها أصبحت عنوانا ورمزا لإصرار الشعوب على الحياة ومقارعتها لأعتى دكتاتوريات العصر وأكثرها انحدارا وانحطاطا، وهي بالتالي صفحة من صفحات المأساة البشرية وإصرار الإنسان على الحياة برغم كل الضروف، وان الشعوب لا تفنى ولا تستبدل مهما بلغت قسوة الآخرين وهمجيتهم.
وإذا كانت الأنفال تسجل تاريخا مشرفا للكورد وكوردستان فهي قد سجلت عارا ما بعده عار عبر التاريخ لاؤلئك الذين تصوروا أنهم سيقضون بأسلحتهم الكيماوية ومقابرهم الجماعية على شعب تمتد جذوره في أعماق التاريخ وترتفع هامات رجاله البيشمه ركه الذين يستبقون الموت في صناعة الحياة، حقا كانت مأساة كبيرة وعظيمة قدمت فيها كوردستان قرابين الحرية والكرامة بما يجعلها تتباهى بين الأمم بتاريخها المجيد في المقاومة والإصرار على الحياة الحرة و الراقية، والاندفاع إلى المستقبل بتراكم عظيم وتاريخ مجيد من أعظم وارقى صفحات مقاومة الشعوب وإصرارها على الحياة والوجود.
[1]