تاريخ إنتشار الدين المسيحي في كوردستان (6)
مهدي كاكه يي
الحوار المتمدن-العدد: 6153 - 2019-02-22 - 14:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إستناداً الى أقوال الأستاذ إيشو مالك(1)، يذكر الأستاذ عبدالرقيب يوسف أنّ مدينة نسيبين (نصيبين) كانت منذ أوائل القرن الرابع الميلادي مركزاً للكرسي الأسقفي، التي إتسعت نفوذها بمرور الوقت، حيث أصبحت هذه المدينة المركز الديني المسيحي في المناطق الكوردستانية الممتدة من شنگال (سنجار) الى (مكس) و(خلات)، أي الى السواحل الشمالية لِبُحيرة (وان)، وأصبحت هذه المدينة مركز أبرشية بإسم (أبرشية بيت عرباي) وكان عشرون كرسياً أسقفياً يتبع هذه الأبرشية(2).
بقيت مدينة نسيبين مركزاً للكرسي الأسقفي للنساطرة خلال حُكم الدولة الدوستكية و في عهد نصر الدولة، كان (إيليا برشنايا النسطوري) المولود في سنة 974 ميلادية، مطراناً لها والذي كان يتمتع بإحترامٍ كبير في ظل الدولة الدوستكية، حيث أنه كان أخ الطبيب زاهد العلماء (أبي سعيد منصور بن عيسى) رئيس أطباء الدولة الدوستكية ومدير مستشفى فارقين. كان هذا المطران عالِماً كبيراً وأيضاً مؤرخاً(2)، له أكثر من عشرين مؤلفاً، منها كتاب (الأزمنة) المتكون من جزئين، الجزء الأول يتناول التاريخ والجزء الثاني يتعلق بالحساب والتقاويم.
في سنة 1909 ميلادية، عندما زار (كونراد برويسر) (دير عمر) في طورعبدين، وصف المسيحيين هناك ب(المسيحيين الكورد)(3). يتبين أنه خلال حُكم الدولة الدوستكية (982 – 1093 م)، كان المسيحيون يتألفون من قوميات مختلفة، كالكورد والأرمن والسريان واليونانيين. في عهد الدولة الدوستكية كانت هناك الكثير من الأديرة والكنائس، منها كنيسة (آمد) التي كانت كنيسة كبيرة غنية بالزخارف وأرضيتها مفروشة بالرخام المنقوش(4)، و(دير أحويشا) الذي قام بتشييده (مار يعقوب) الذي عاش في القرن الخامس الميلادي وكان واقعاً قرب مدينة (سعرد)(5) وكان من الأديرة الكوردستانية الكبيرة، و(دير مار أوجين) الذي يقع في جبال طورعبدين، في سفح جبل أزلي (الإسم الكوردي لهذا الجبل هو (چیایێ هەلز)، وتمّت تسميته بهذا الإسم لِنمو نبات هەلز فيه) (هەلز هو نبات صُبير ذو فروع إبرية صغيرة). تمّ إنشاء هذا الدير في القرن الرابع الميلادي ويحمل إسم (مار أوجين القبطي) الذي جاء الى كوردستان مع أخته وبعض الرهبان ونشر نظام الرهبنة فيها ويضم هذا الدير ضريحه وضريح أخته. من الأديرة الأخرى هي (دير الزعفران) الذي تعظُم شأنه بعد أن أصبح كرسياً للبطريرك اليعقوبي في سنة 1293 ميلادية، فأصبح المركز المسيحي الأول لليعاقبة (أتباع المذهب اليعقوبي)، ولأهميته، أهدته الحكومة البريطانية في سنة 1887 ميلادية مطبعةً يمكن إعتبارها أقدم مطبعة في كوردستان.
يعود بناء دير (قرتمين) الى تاريخ قديم، حيث تمّ إنشاؤه في سنة 395 ميلادية، التي خلالها أصبح الإمبراطور البيزنطيني (أركاديوس) حاكِماً على النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية. كان دير (قرتمين) في أحد الأوقات يضمّ 800 نسّاكاً. لقد أعاد بناءه الملِك البيزنطي (أنسطاس) على طرازٍ جميل، حيث أنه في سنة (512) ميلادية أرسل المهندسَين (تيودا) و (تيودوس) ونحّاتين ومعماريين مهرة لِإعادة بنائه. كما أنه أرسل معهم صاغة للذهب والفضة والنحاس وحدّادين ورسّامين ومشّاطي الرخام وخبراء في عمل الفسيفساء، فقام هؤلاء بِتشييد ديرٍ مُزيّنٍ بالزخارف والرسوم الآدمية والحيوانية، منها وجوه الأسد والثور والنسر ورسوم آدمية. لقد تمّ فرش أرض المذبح بالرخام الأسود والأبيض والأحمر والأخضر والأرجواني والأزرق. تم وضع شجرتَين من نحاس فيه. ظل هذا الدير سالِماً الى أن جاء التتر وقاموا بإتلاف روائع هذا الدير. تعرّض الدير سابقاً للنهب من قِبل السلاجقة وذلك في سنة 1100 ميلادية، أي بعد سقوط الدولة الدوستكية بِأربع عشرة سنة(6)(7).
رغم تمتع المسيحيين في ظل الدولة الدوستكية – المروانية بِحقوقهم وتعايشهم فيها بِحُرّية، إلا أنّ حياتهم لم تخلُ من إضطرابات وقلاقل، حيث أنهم عاشوا مع جيرانهم من المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى تارةً في وِئام وأخرى في خِصام، معتمدةً على ما كانت تمليه الظروف السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة آنذاك، ومع ذلك فأنّ المسيحيين في هذه المنطقة نادراً ما تعرضوا لإضطهادات دينية.
بعد زوال الدولة الدوستكية – المروانية الكوردية، إختفت معها حرية المسيحيين في كوردستان، حيث إستولى السلجوقيون على كوردستان وهدم (إبن جهير) البيعة المدورة القريبة من باب الربض في فارقين(8). كما أنّ الدولة السلجوقية عيّنت (أبا علي البلخي) حاكماً على آمد (دياربكر) بعد (إبن جهير)، حيث أنه قام بتحويل (دير عباد) المشرف على فارقين، الى مسجد والذي سمّاه (مسجد الفتح). عرض المسيحيون عليه (50000) خمسين ألف دينار ليعدل عن قرار تحويل الدير الى مسجد، إلا أنه رفض العرض المذكور. عندما أغار السلطان طغرل في سنة 1075 ميلادية على المناطق الجنوبية للدولة الدوستكية، حاصر منطقة الجزيرة، وذهب قسمٌ من جيشه الى دير (عمر أكمن) الذي كان فيه (400) أربعمائة راهب، فقاموا بِذبح (120) راهباً منهم وأنقذ الباقون أنفسهم من الذبح من خلال دفع ستة مكاكيك ذهباً وفضة(9)(10). (مكاكيك) هي جمع (مكوك) الذي هو مكيال قديم يساوي 3.06 كيلوغرام.
المصادر
1. إيشو مالك خليل جوارو. الآشوريون في التاريخ. بيروت، 1962، صفحة 75.
2. عبد الرقيب يوسف. الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، الجزء الثاني - القسم الحضاري. الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، هامش صفحة 167.
3. كونراد برويسر. المباني الأثرية في شمال بلاد الرافدَين في العصور المسيحية القديمة والإسلامية. ترجمة علي يحيى منصور. المؤسسة العامة للآثار والتراث، بغداد، 1981، صفحة 50، 53.
4. إسماعيل بادي. رحلة ناصر خسرو عبر المناطق الكوردية. مركز الدراسات وحفظ الوثائق، جامعة دهوك، الطبعة الأولى، مطبعة جامعة دهوك، 2010، صفحة 50.
5. ياقوت الحموي. معجم البلدان. الجزء الثاني، صفحة 497.
6. البطريرك مار أغناطيوس أفرام برصوم. تاريخ طور عبدين. ترجمة غريغوريوس بولس بهنام. لبنان، 1963، صفحة 275.
7. عبد الرقيب يوسف. الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، الجزء الثاني - القسم الحضاري. الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، هامش صفحة 170.
8. أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق الفارقي. التاريخ الفارقي. تحقيق وتقديم: دكتور بدوي عبداللطيف عوض، مراجعة: الأستاذ محمد شفيق غربال، القاهرة، 1959، صفحة 214.
9. إبن الأثير. الكامل في التأريخ. الجزء التاسع، صفحة 211.
10. عبد الرقيب يوسف. الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، الجزء الثاني - القسم
الحضاري. الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، صفحة 172.
[1]