تاريخ إنتشار الدين المسيحي في كوردستان (1)
مهدي كاكه يي
الحوار المتمدن-العدد: 6119 - 2019-01-19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نتحدث عن تاريخ المسيحية في كوردستان وعن المسيحيين الكورد هنا كمدخل للحديث في حلقات قادمة عن المسيحيين الحاليين الذين ينسبون أنفسهم الى أقوامٍ مستقلة لا ترتبط بالشعب الكوردي.
تاريخ إنتشار الديانة المسيحية في كوردستان، يعود الى بداية ظهور هذه الديانة، حيث يروي المؤرخ (أوسابيوس Eusebius) الذي عاش بين القرنَين الثالث والرابع الميلادي أن (أبجر الخامس) الذي كان ملِكاً للمملكة الصغيرة (أوسرهوين)، التي تأسست في سنة 133 قبل الميلاد ودامت لمدة (352) سنة(a)(1) ، كان مُصاباً بمرض عضال وعانى منه طويلاً وعجز الأطباء عن علاجه. بعد سماعه بِمعجزات (يسوع)، بعث (أبجر الخامس) إليه وفداً بِرئاسة مستشاره (حنانيا) ودعاه للقدوم إلى مدينة الرها (أورفا) التي كانت عاصمة مملكته والواقعة في شمال كوردستان، ليشفيه من مرضه وعرضَ عليه السكن معه في مدينة الرها، إلا أن يسوع إعتذر عن المجيء ووعده بإرسال (مار أدي) إليه والذي كان أحد تلامذته الإثنَين والسبعين(b). كان الملِك (أبجر الخامس) قد أوصى مُستشاره أن يجلب له صورة يسوع على لوح ليراها فيما إذا أبى أن يصحبه، ولما علِم يسوع بِطلبه، مسحَ وجهه بِمنديل، فإنطبعت صورته على المنديل وأعطى المنديل لِرُسُل (أبجر الخامس) ليُعطيه له.
في سنة 29 للميلاد، وصل تلميذ المسيح (مار أدي) بالفعل إلى مدينة الرها[2]. ولما شفي الملِك المريض (أبجر الخامس) من مرضه على يد ( مار أدي)، إعتنق الديانة المسيحية، هو وعدد كبير من سُكّان عاصمته[3]. بعد ذلك توجّه (مار أدي) إلى أطراف نصيبين وأربيل وكان له عدة تلاميذ، منهم (ماري) و(أكاي)، وقاموا بِتبشير الدين المسيحي هناك(4)(5)
أول مَن إعتنق المسيحية في أربيل على يد (أدي) هو اليهودي (پقيدا) وذلك في سنة 99 ميلادية والذي أصبح مطراناً عليها (104 – 114 م) بعد أن تنصّر أناسٌ من سُكّانها ومن سُكّان جبال أربيل(6). (. كان (پقيدا) من عائلة فقيرة من أربيل، هرب من عائلته وإلتجأ إلى (مار أدي) الذي كان يُبشّر بالإنجيل في جبال كوردستان في إمارة أديابين حدياب (أربيل الحالية) لمدة خمس سنوات، ثم جعله أسقفاً وأرسله إلى أربيل سنة 104ميلادية. يذكر المطران (أدي شير) قائمةً بأسماء عشرة أساقفة تولّوا الكرسي الأسقفي في مدينة أربيل للفترة من سنة 104 الى سنة 312 ميلادية(7).
سافر (أدي) بِرفقة تلميذه ماري الى بيت گرماي (منطقة كركوك) وأوصل الدين المسيحي من الرها (أورفا) الى هناك[8]. من الجدير بالذكر أنّ كلمة (گرماي) هي كلمة كوردية تعني (المنطقة الحارة)، حيث لا تزال مناطق كركوك وخانقين ومندلي تُسمى (گرميان) أي (المنطقة الحارة). بعد وفاة (أدي)، خلّفه تلميذه (أكاي)، إلا أنه تمّ قتله بأمرٍ من إبن الملِك (أبجر الخامس) الذي تولّى الحُكم بعد وفاة والده، حيث كان مُتعصّباً للديانة اليزدانية. كان (أكاي) هو أول مَن تولّى أسقفية الرها. أمّا (مار ماري)، فأنه أصبح أكبر مُبشّر بالمسيحية في كوردستان بعد وفاة أستاذه، حيث أنه بشّر بِدينه في مناطق آمد (دياربكر) ونصيبين. كان لِ(مار ماري) عدة تلاميذ، من بينهم (توماس) و(فيليپوس) وقد فوّض الأول مُهمّة التبشير في جبال (داسان) في منطقة بهدينان والواقعة في شمال شيخان. من الجدير بالذكر أن أصل كلمة (داسان) هو (دێویەسنا Dêwyesna) أي عبادة (دێو Dêw)، حيث أنّ (دێو DÊW) كان إلهاً للشعوب الهندوأوروپية ومن المرجّح أنّ إسمه مستمدٌ من إسم إله القمح السومري (دموزي). إسم ال(داسنيين) الذي يُطلَق على الإيزيديين، مستمدٌ من إسم ال(دێو). من جهة أخرى تمّ تفويض (فيليپوس) من قِبل (مار ماري) للقيام بِمُهمّة التبشير في قردو أي (بوتان وسلوپي وجودي) وأرمينيا(9). سجّلَ كل من البلاذري والطبري كُنية مقاطعة (قردو) في العصر الإسلامي بِصيغة (قرداي أو باقردى) وبناءً على أقوال إبن الأثير، إعتبرها ياقوت الحموي جزءً من جزيرة (إبن عمر) التي كانت تضم 200 قرية، وكان جميعها يقع على الضفة اليسرى من نهر دجلة، مقابل (بازيدا)، وإختفت هذه الكُنية تدريجياً من الكُتب العربية وحلّت محلها صيغة (الجزيرة)(10).
هكذا بدأ إنتشار الدين المسيحي في كوردستان في بداية القرن الأول الميلادي، حيث نشأت في كُردستان ثلاث مراكز مُهمة لِنشر الديانة المسيحية في كوردستان، حيث كان لهذه المراكز الكوردستانية دورٌ كبير في نشر الدين المسيحي في بلاد فارس أيضاً، والمراكز الثلاث كانت: مركز (الرها أورفا) ومركز (نصيبين) و(أربيل). لِمدينة (الرها) مكانة مرموقة في التاريخ المسيحي والتي أصبحت في فترة مُبكرة مركزاً ثقافياً للمسيحية السريانية، حيث أنّ اللهجة الآرامية السريانية الشرقية التي أصبحت اللغة الدينية للمسيحيين في كوردستان والبلدان الشرقية الأخرى، هي من مدينة أديسا (الرها). كما أنّ الكتاب المُقدّس (الإنجيل) قد تمت كتابته ونقله في أديسا أيضاً. كان لِمدرسة (أديسا) دور كبير في هذا المجال، حيث كان يَؤمّها الطلاب من مختلف بلدان المنطقة وكان أكثر أساقفة الفرس من خرّيجي هذه المدرسة، والتي تمّ فيها ترجمة كتب يونانية الى اللغة السريانية، وأدخلت على منهجها السرياني في القرن الخامس الميلادي تعليم اللغة اليونانية والفلسفة وسُمّيت أثينا سورية. لقد قام (مار أفرام) مُدرّس مدرسة نصيبين بإنشاء مدرسة (الرها) اللاهوتية، الذي فرّ منها بعد إحتلال الساسانيين لها في سنة 336 ميلادية ونشأ منها كثير من العلماء وإشتهر فيها أساتذة، مثل (هيبا) وإسمه في اليونانية (إيباس) الذي ترجم كتاب (إيساغوجي فور فورسيون) الى السريانية وكان المدخل الى المنطق، كما ترجم كتاب العبارة لِ(أرسطو) في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي(11).
كما أنّ مدينة أربيل لعبت دوراً مركزياً في تاريخ المسيحية المبكر في الإمبراطورية الفارثية وذلك بسبب إنتشار اليهودية سابقاً بها ويظهر هنا إسم أول أسقف على المدينة بقيذا في سنة 104 للميلاد(12). كما أنّ مدينة أربيل لعبت دوراً محورياً في نشوء كنيسة المشرق.
المصادر
1. عبد الرقيب يوسف: الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى - القسم الحضاري. الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، هامش صفحة 164.
2. الأب ألبير أبونا. تاريخ الكنيسة الشرقية من إنتشار المسيحية حتى مجيء الإسلام. الطبعة الثانية، بغداد، 1985، صفحة 15.
3. عبد الرقيب يوسف: الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى - القسم الحضاري. الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، هامش صفحة 164.
4. أدي شير. تاريخ كلدو وآثور. المطبعة الكاثوليكية، لبنان، 1912، صفحة 2.
5. ميشخا زخا. تاريخ أربيل. القرن السادس الميلادي.
6. ميشخا زخا. أحوال كنيسة أربيل. مجلة النجم: 9، 1929، صفحة 8.
7. المطران أدي شير. تاريخ كلدو آثور. الجزء الثاني، بيروت، 1913م، صفحة 1 - 14.
8. عبد الرقيب يوسف. الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى - القسم الحضاري. الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، صفحة 165.
9. إيشو مالكز. الآشوريون في التاريخ. صفحة 70.
10. الدكتور جمال أحمد رشيد. ظهور الكورد في التاريخ – دراسة شاملة عن خلفية الأمة الكوردية ومهدها. الجزء الأول، الطبعة الثانية، منشورات دار آراس للطباعة والنشر، مطبعة وزارة التربية، أربيل كوردستان، 2005، صفحة 428 – 429.
11. عبد الرقيب يوسف. الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى - القسم الحضاري. الجزء الثاني، الطبعة الثانية، دار آراس، أربيل، 2001، هامش صفحة 166.
12. مشيخا زحا. كرونولوجيا أربيل. ترجمة وتحقيق: عزيز عبد الأحد نباتي، الطبعة الأولى، مطبعة وزارة التربية، أربيل، 2001، صفحة 1.
a. Eusebius, Historia Ecclesiae 1.13.5 and .22.
b. Mark Guscin. The Image of Idessa. 2009, pp. 1- 2.
[1]