جدلية الإسلام السياسي مع ثورات الشرق - الجزء الثاني
محمود عباسمحمود عباس
الحوار المتمدن-العدد:
3701 -
18-04-201218-04-2012 - 22:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بين الكلمة والفكر والإيمان مسافة تطول عند البعض المتزمت، وتندمج ببعضه لدى الآخر، صراع لايزال خفياً، بين الإتجاهين إلى حينه، بين المطروح في الشارع شكلاً والتحليل أوتبيان القادم بعد سقوط السلطات، سيكون صعباً التقرب منه في الآتي من الزمن، الذي سيكون هي الفترة الإنتقالية في هذه الثورات، تفسير هذه المقولة، تستفز البعض الفاجر دينياً قبل المسلم السياسي. إنها ثورات، وتحمل في ثناياها كل مقوماتها، والثورة الجدية والصعبة قادمة بعد سقوط السلطات الحالية أو ربما ستكون أمتداد لما نراه الآن من صراع في ساحات الشرق الذي بدأ يتلوث بالمدعين دينياً، أدت إلى جعلها حجج واهية لدى البعض، وإبتعاد البعض الآخر المتذبذب من الساحات والهروب من حلبات الصراع، بل ومنهم من يقف مع الطغاةن وفي مقدمة هؤلاء بعض التيارات اليسارية.
المستقبل القادم لهذه الثورات مليئ بالمطبات، المفاهيم والأفكار التي تحتضنها ستؤدي إلى صراع لا يقل صرامة مما نراه اليوم في ساحات الوطن، سيكون صراع بين إيمان لايقبل سوى بالمطلق، وهو المطلق الإلهي، وإيمان يتجاوز نطاق الجامع، حيث متطلبات الحضارة المتداخلة ثقافياً، وإنتشار الأفكار العصرية بدون وجود إعتبار للمسافات والزمن والجغرافية.
الثورات هذه، بداية لتكوين مجتمع يؤمن بخلق الإنسان الحر فكراً، وعقيدة، وثقافة، إنساناً لا يقبل قيود الجوامع، ويرفض فتوى تأليه الإنسان، وفتاوى الإنسان المتآله، مثلما يرفض الآن السلطات الشمولية. إنه الفكر الشبابي الثائر أبداً على الموجود، والذي لايقبل للحرية حدوداً، ولايعرف للرهبة والرعب معنى، لا للرهبة الإلهية أو رعب أنصاف الألهة. سيكونون في جدلية مع هؤلاء الذين لا مكان للقيم والتحليل العقلي، ولا ساحة للنقاش معهم، فهم يبنون السلطة على الطاعة والإيمان بالمطلق.... مطلقهم الفكري لا غيره.. شرائح الثورة الحقيقة في القادم من الزمن سيزدادون كماً، لأنهم يتكونون من جميع شرائح المجتمع، إقتصادياً وثقافيا، يواجهون الدكتاتوريات بكل اشكالها، يواجهون الذين يضعون الدساتير حسب منطق جامد يعود إلى عصر أولئك الخلفاء الذين كفروا المعتزلة وهاجموا بن رشد وأحرقوا كتبه... وألحدوا الحلاج على صوفيته وميتافيزيقيته عن الإلوهية، ستكون مواجهة صعبة مع مخلفات تشخيص الإله كما تبناها بن تيمية الذي إتهم بن العربي بالإلحاد وكل من يقرأ له، رواده برزوا بكثرة في شرقنا، وهم ينتهزون الفرصة ويستولون على السلطة من خلف خبرة عهود في التحايلات السياسية....
سؤال كثيراً مايتردد في الزوايا، لماذا الخوف من سيطرة التيارات الإسلامية على السلطة القادمة؟ هل لأنهم سيكونون وراء تثبيت الفهم الذكوري المتسلط، وسيلغون ماهية المرأة في المجتمع كنصفه الفعال، حيث بدونها الحضارة لن تكتمل؟ هل هم سيقضون على أجمل العلوم الإنسانية كالموسيقى والرسم والنحت وغيرها؟ كما هي الآن في السعودية، وكما عاث بها حكم الطلبان في افغانستان، هل سيكونون بلا وعي لمفاهيم الأديان الأخرى جميعها؟ هل سيخلقون صراع طائفي وتفرقة عنصرية، وتفاوت بين شرائح المجتمع على الأسس الفكرية الخاطئة التي يتمسكون بها؟ أم هناك الأقسى من كل هذا، وهي السيطرة الدكتاتورية الجمعية! التي ستكون باسم القوة الإلهية وعن طريق الدساتير التي ستنبثق من القرآن، والذي لا يقبل التأويل والنقاش والإعتراض على إرادة الله، والتي يسخرونها لفرض إرادتهم على المجتمع!.
تتوضح لحظة بعد لحظة تحرك الحركات الإسلامية ونضالها المشوب بالنفاق مع الشارع، لأمتطاء الثورات، وتسييرها لغايات، لا تقل حقداً وكراهية للآخر من الطغاة الحاليين، ومن المؤكد إن الصراع مع هؤلاء الإسلام السياسي بكل أطيافة والمتلفعين بتلافيف الإسلام الليبرالي في الداخل لن يكون أسهل من الصراع مع إيديولوجية البعث الزائل في القادم من الزمن، هؤلاء يحملون رسالة سماوية كمتراس في وجه المجتمع، والنقاش لا يدخل في مجال التحاور، فهم قادة مبادئ الإتباع بالإيمان بمطلقه، لا مكان في مجتمعهم للفهم والنقاش، فهم من أحفاد الذين كفروا من تبنوا علم الكلام كأساس للبحث والتقصي فيما وراء العقل الخالص، وكبنية للتعامل والتفاهم بين الطوائف والمختلفين فكرياً.
اصلاح الأحزاب الإسلامية السياسية التي كرست قوتها على مفاهيم الفتاوى المسلكية، ضرورة حتمية للتعامل مع التغيرات البشرية، عليهم إعادة مفاهيم قواعدها المبنية على الفكر الذي جاء به فقهاوئهم لغايات سياسية دنيوية، وسخروا من الرسالة السماوية بقدر ما إستطاعوا... ما دامت الغاية هي السلطة الدنيوية تحت غطاء دعاية تتجه نحو النزعة الليبرالية لإحتواء رواد هذه الثورات، عليهم إعادة بناء الذات السياسية، والتلائم مع الظروف الحضارية، من السهل تتبع الخطى الذي قدموا عليه منذ بداية الثورات، كإنتقالهم من المفاهيم الراديكالية في الإسلام السياسي إلى الليبرالية في التعامل مع الآخر، وما داموا قد إنتقلوا من العمق الديني الروحاني بكليته إلى الإسلام السياسي، بإمكانهم الإنتقال إلى العمق الحضاري الإنساني، وترك العلاقة مع الله بين الفرد وربه في إطاره الروحي الخاص وضمن ساحاتها الخاصة، ومن المهم تقبل الثقافات الأخرى. هذا ما حصلت وقامت به معظم التيارات الدينية المسيحية في بداية نهوض الحضارة الأوروبية، وحتى اليوم هناك العديد من الأحزاب السياسية في أوروبا تعرف بالمسيحية الديمقراطية، معظمها من الأحزاب المحافظة الموجودة على الساحة السياسية، لكنهم يفصلون بدقة بين الروحانيات والواقع السياسي، بين الكنيسة والبرلمان السياسي، لهم سهولة في التعامل مع القوميات والأقليات والطوائف الأخرى. وكل من يدعي بإن الظروف النوعية الذاتية والموضوعية للمجتمعات والدين الإسلامي مقارنة بالدين المسيحي يفرض الإختلاف في التعامل، يفرض على ذاته الفكري الجمود والدوغماتية التي أبتليت بها أوربا، عصوراً مليئة بالمآسي.
لا مجال آخر لدى معظم الأحزاب والكتل السياسية الدينية والقومية سوى التلائم مع القادم من الجدلية التاريخية والتغييرات الفكرية الحضارية، والإنتقال النوعي للمجتمع لتبني المفاهيم الإنسانية الديمقراطية وملائمتها للواقع الموجود، معظمهم يندرجون في حكم الثقافات الكلاسيكية المخالفة للتعامل الحضاري الديمقراطي بين القوميات أو المذاهب الدينية. وهنا سوف لن يكون لهم نطاق غير الجامع مكان كمركز للأبداع في الروحانيات، أما الساحات التي يتشابك أو يتصارع فيها الثقافات البشرية.، ستكون مراكز الثورات، ولا نستبعد أن تكون مقبرة للدكتاتوريات الجمعية، كما هي الآن مقبرة الطغاة الحاليين.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]