الهوية الوطنية وإدارة التنوع
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 7768 - #18-10-2023# - 03:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
كان عنوان الحوار الذي أقامه تجمع (واثقون) عن طريق التزووم، أدارتها الصحفية القديرة (لورين صبري)، شاركت فيها باسم الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد في سوريا، مع مداخلة قصيرة ومستعجلة؛ رغم أهمية الموضوع وجمالية الحوار، والإدارة السلسة والقيمة من قبل الأستاذة لورين، والمشاركات معها في العمل.
عرضت رؤيتي عن الهوية الوطنية، وإشكالية الانتماء، لا أعلم فيما إذا كنت قد تمكنت من إيصالها، أم لا، وهي إنها، وحسب رؤيتي، ذات وجهين:
1- الانتماء، النابع من الذات وبرغبة، وإحساس لا شعوري، إلى الوطن المعاش فيه، أو المولود فيه، مع فخر في حمل هويته، إن كان لا يزال ساكن الجغرافية ذاتها أو في الشتات، وهو الإحساس الذي لا يمكن الطعن فيه، أو تغييره مهما تكالبت عليه وعلى الوطن عاديات الدهر، وإدارتها تكون عادة ديمقراطية مع هيمنة الدستور.
2- الانتماء الفارض على المواطن، من قبل الأنظمة الحاكمة، بغض النظر عن قوميته أو دينه، وهو إكراه على تقبل مفهوم سيتم التخلي عنه عند أول فرصة مناسبة. وطنية تفرضها الأنظمة الشمولية، ولا يمكن إدراج هذا الانتماء كهوية وطنية، وبالتالي إي إدارة من هذا النوع، لمكونات الشعب، المختلف قوميا ودينيا ومذهبياً، ستكون فاشلة، سينهار الوطن بكليته عند الأزمات، وإن استمر سيكون على خلفية السلطات الدكتاتورية.
الحالة الأولى هي السامية والتي بوجودها، تتطور الشعوب؛ وتتقدم الدول، ويخدم المواطن وطنه بنزاهة ويدافع عنه بصدق. ولا شك تكون للقوى السياسية الحاكمة دور رئيس في خلق هذا الشعور، فعندما تكون السلطة نزيهة وتخدم الشعب، والمواطن، والعائلة بصدق، وتعامل جميع المكونات بأبعاد ديمقراطية، وبدستور حضاري، وتكون عملها مكرس لتحسين حياتهم، وتقديم الأنسب لهم، حينها يصبح المواطن والوطن كتلة متكاملة، يتجاوز إنسانها حالة التفكير أو الشك بهويته الوطنية، السمة التي تأتي من الأعلى إلى الأسفل، أي من الأنظمة إلى المجتمع.
أما في الحالة الثانية، والتي يعاني فيها الشعب من إشكالية الترهيب، والعمل على إرضاخ المواطن لتقبل حالة لا وجود لبيئة تدفعه يؤمن بها، لأسباب عدة، منها الثقافة العنصرية التي تنشر بين المجتمع، والبيئة السياسية الفاسدة المتعارضة ومفهوم الانتماء إلى الوطن.
طوال القرن الماضي كانت الأنظمة السورية تتحدث عن الوطن السوري، وتزرع بالمقابل في الواقع العملي، ثقافة التمييز العنصري؛ العروبة، والإسلام، الإشكالية التي وسعت الشرخ بين مكونات المجتمع السوري، وبين الشعب عامة والأنظمة. ولديمومة السيطرة اعتمدت على منطق الترهيب لتقبل الهوية الوطنية. لعدم قدرتها وأحيانا عدم رغبتها على زرع المفهوم عن طريق خلق البيئة المناسبة، لم يتكون الوطن السوري في وجدان الشعب.
فالوطن السوري الذي يتبجح به بعض الناس، ليس بأكثر من مزادة بيع لوطن افتراضي يتاجر به المنافقون والانتهازيون، وهم على دراية تامة بأنهم يتحدثون عن دولة لقيطة خلقها الاستعمار الفرنسي والبريطاني تناسبا مع مصالحهم، الدولة التي لم تتمكن جميع الأنظمة المتعاقبة على تحويلها إلى وطن، وخلق هوية جامعة لها، ضمن الحدود السياسية للجغرافية الحالية.
لمعرفة كيفية بناء الوطن السوري الافتراضي، بالترهيب الذي كانت تنشره الأنظمة، وقتلها منطق الرغبة، سأذكر القصة التالية:
دخل موجه المدرسة إلى غرفة الصف الذي كنت فيه، في صباح إحدى الأيام الأولى من بدء المرحلة الإعدادية، في مدينة قامشلي، وكنا فرحين لدخول المرحلة الإعدادية، بعد الانتهاء من الابتدائية والانتقال من قريتي نصران إلى المدينة، وكان نسبة الكورد في المدرسة على الأغلب قرابة تسعين بالمئة، إن لم يكن أكثر.
وقف الموجه مع المدرس، وألقى محاضرة قصيرة لم أفهم منه شيئا، أظن إنها كانت عن الوطنية والقومية العربية، ولأن كلماته كانت تشبه مضمون مادة (التربية الوطنية) والتي كانت بالنسبة لي كالطلاسم، لعدم فهم لغتها العربية ومصطلحاتها الغريبة ( الوطنية والقومية والهوية، والعروبة، وغيرها) بعدها أوقف الطالب الأول، وسأله ما هي هويتك، لم يفهم الطالب مثلي، أعاد السؤال ما هي جنسيتك يا أبني، لم يجاوبه الطالب، وكان كوردي، فقال له الموجه قول ( عربي سوري) وهكذا إلى أن جاء دوري، وقفت، وكنت عادة أجلس في مقدمة الصف، سألني، جاوبته وبعفوية طفل قادم من قرية لم يجد فيها غير السمات الكوردية حوله، وبصدق لم أتقصد غيره وقلت (كوردي سوري) أندهش المدرس والموجه، وفتحت أعينهما نحوي، وبدون كلمة، بعد ثواني سألني المدرس، ماهي جنسيتك يا ابني: قلت وبصوت خافت، بعدما شاهدت تعابير وجههما (كوردي سوري) نظر الموجه إلى المدرس ومن ثم نحوي، وخرج من الصف مباشرة، عاد بعد دقائق، وقال لي؛ أحمل كتبك وتعال معي، وأنا مندهش، لتوقف المدرس عن التدريس، ومن ثم إخراجي من الصف، ولا أعلم السبب، في غرفة الإدارة سألني المدير، ماذا قلت يا أبني، لم أتحدث لأنني لم أفهم ماذا يعني سؤاله، وقد كان مديرا لطيفا، قال لي: أذهب إلى البيت وأحضر غدا ولي أمرك، وتم ما طلبه مني، جاء معي أخي الكبير ( صبري عباس) في اليوم التالي، وهو لا يعرف السبب، لأنني لم أكن أعرف السبب، وعلى ما فهمت كان على معرفة بالمدرس والمدير، ولا أعلم ما تم في غرفة المدير، لكنه في الدار، شرح لي سبب طردي، وطلبهم لولي الأمر، وقال لي من حظنا أنهم لم يطلبوا الأمن، ومن ثم ربت على ظهري وشجعني وردد كلمات بذيئة بحق مصطلحات لم أفهمها حينها، الوطن والوطنية، من ثم الموجه، وبعدها وفي الصف، كان هناك طلاب كورد يفهمون مجريات الحدث، وقالوا لي لا تقولها ثانية أمام الموجه أو المدرسين.
من حينها، وطوال العقود التالية، عرفت معنى الهوية الوطنية المزيفة، والتي كانت تفرض على مكونات سوريا المختلفة بالإكراه، وليست الرغبة، بالترهيب وليست المحبة، التجويع وليس تأمين الراحة، وعلى أثرها نتجت من سوريا؛ الوطن الجدلي الافتراضي، الممزق في الداخل، الغارق في الأوبئة الثقافية، تديرها إدارات مارقة، طوال قرن من الزمن بالانقلابات والعنف وبقوى الأمن الغارق في الجرائم، والنتيجة هي التي نراها اليوم، سوريا المدمرة، والوطن المشوه، يحكمه مجرم ومنافق، ومعارضة فاسدة، وتكفيرية، وأحزاب تسبح في العنصرية وكراهية الآخر.
والسؤال:
هل ستحاول القوى السياسية المتحكمة بإدارة الإدارة الذاتية، والمنطقة الكوردية المتبقية من غرب كوردستان، بناء الوطن الذي يحتضن كل مكونات المنطقة، بنفس المنهجية السابقة، أي بالإكراه وفرض المفاهيم، أم إنها ستعمل على خلق الجو الديمقراطي، ومحاولة تأمين مستلزمات الحياة الضرورية للشعب بكل مكوناته القومية والدينية، ليشعروا بالانتماء رغبة لا رهبة؟
هل ستعامل الأحزاب الكوردية الأخرى من منطق الهيمنة وفرض القوة، أم ستفتح المجال ليكون الدستور هو الحاكم؟
هل تحت جدلية التنوع في الإدارة، ومنهجية الأمة الديمقراطية، ستتمكن من تأمين الحقوق القومية للشعب الكوردي المعاني أكثر من جميع المكونات الأخرى في ظل الأنظمة الشمولية السورية السابقة؟
[1]