د. حسين الديك
تعتبر مجازر سيفو التي ارتكبتها السلطات العثمانية بحق المدنيين من السريان والكلدان والآشوريين من أفظع وأبشع جرائم الإبادة الجماعية الرهيبة التي عرفتها البشري في العصر الحديث، وقد استمرت تلك الجرائم على مدار سنوات عدة من العام 1915 وحتى 1923م وقد أسفرت تلك عن مقتل مئات الآلاف من الأبرياء من المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، وتم تنفيذ عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري لتلك المجموعات السكانية من موطنهم الأصلي إلى أماكن أخرى وقد تم تسليط الضوء من الكثيرين من الكتاب والمؤرخين على المجازر التي ارتكبتها السلطات العثمانية بحق الأرمن، وذلك يعود لأسباب كثيرة على رأسها قوة “الشتات الأرمني”، وأما السريان والكلدان الآشوريين فإن تغطية الجرائم التي حصلت بحقهم لم يتم تغطيتها بشكل واسع وذلك لضعف التنظيم السياسي لديهم، وصغر حجمهم في الدياسبورا (الشتات)، وقد اعتمد يوم 24 من نيسان/ أبريل في كل عام يوماً للتذكير بتلك المجازر التي ارتكبت بحق السريان والكلدان والآشوريين وخاصة في مناطق شمال سوريا والعراق وشمال غرب ايران وتركيا وفي نفس اليوم الذي يتم الاحتفال به للتذكير بالمجازر التي ارتكبت بحق الأرمن من قبل تركيا في الحرب العالمية الأولى.
استغلت جمعية الاتحاد والترقي في تلك الفترة ظروف الحرب العالمية الأولى والانشغال الدولي بها وقاموا بتنفيذ مخططاتهم العدوانية بجرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والنفي والتهجير القسري بحق الأقليات وأصحاب الأرض الأصليين لتنفيذ تلك الجرائم والتي أصبحت فيما بعد تعرف بمذابح سيفو في الأدبيات التاريخية والسياسية.
مذابح سيفو من حيث ممارسة أعمال القتل والتعذيب والإبادة
(سيفو) مصطلح سرياني ويعني باللغة العربية السيف، وفي ذلك دلالة رمزية للسلاح الذي استُخدم في عمليات القتل المنظمة و الممنهجة، وقد بدأت جرائم الإبادة الجماعية وعمليات التطهير العرقي في العام 1915م في منطقة طور عابدين وقد عرفت ب (شاتو دسيفو) أي عام السيف، و(قطلعمو) أي التطهير العرقي. وكان غالبية الضحايا من السريان في مدن طور عابدين ودير الزور نصيبين و حران وأروفا وشمال العراق وشمال غرب إيران.
في يوم الجمعة 09-04 -/1915م أصدر والي ديار بكر التركي قرار للجيش باعتقال جميع وجهاء المسيحيين والمسؤولين عنهم وخلال ثلاث أيام اعتقلوا حوالي (1200) منهم ووضعوهم في سجن يفتقر لأدنى مقومات الحياة البشرية وتعرضوا لشتى أصناف العذاب. وقام الجيش والدرك بتعذيبهم وكيهم بأسياخ حديد نارية بأمر من الوالي وبعضهم قاموا بتقطيع أصابعهم والبعض الآخر بتقطيع أظافرهم وبعضهم بتقطيع أذنيهم.
وانتقلت عمليات القتل والتعذيب والسبي إلى مدن كثيرة وتنوعت طرق التعذيب والتمثيل بالجثث بأساليب تتنافى مع القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية.
وقد أسفرت تلك المجازر والمذابح وعمليات الإبادة عن مقتل مات الآلاف. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة لعدد الضحايا في تلك المجازر المروعة إلا أن التقديرات تشير أن الأعداد تتراوح ما بين (250) ألفاً إلى (500) ألف، وتحدثت بعض الروايات عن حوالي (700) ألف من المدنيين الأبرياء، وفي منطقة ديار بكر وحدها تم تدمير أكثر من (236) قرية ومدينة وتدمير (16) كنسية و قتل (155) راهباً، إضافة الى ما حصل في منطقة الجزيرة وشمال العراق وشمال غرب إيران، وتجسدت تلك الجرائم بالكثير من الآلام والماسي المريرة التي تعرض لها المسيحيين من السريان والآشوريين والكلدان ووقائع السبي والاغتصاب والتهجير القسري والاضطهاد.
الإبادة بين الإنكار والاعتراف
إن هذه المذابح بحق المسيحيين من السريان والكلدان والآشوريين، ما زالت حتى يومنا هذا تحظى بالإنكار من قبل الدولة التركية.
وقد صدر عن المؤتمر الدولي لدراسات حالات الإبادة الجماعية الذي نظمته المنظمة الأكاديمية لدراسة الإبادة الجماعية في العام 2007 م وثيقة تدعو للاعتراف بمجازر الإبادة الجماعية لأن إنكار الإبادة الجماعية تمثل المرحلة النهائية من فعل الإبادة نفسه وذلك يعني استمرار جريمة الإبادة في ظل عدم الاعتراف بارتكابها كما تفعل الحكومات التركية حتى يومنا هذا، وهذا يفتح المجال لارتكاب المزيد من عمليات الإبادة في المستقبل.
وفي إعادة إنتاج تلك الجرائم من جديد فان الحكومة التركية في عهد الرئيس رجيب طيب أردوغان ما زالت تسير على هذا المنهج وتتعمد استهداف شمال سوريا والعراق في محاولة لإعادة تنفيذ مجازر سيفو ولكن بأنماط وأشكال جديدة تحت مبررات وادعاءات أن تلك المجموعات تمثل تهديد للأمن القومي التركي في هذه الأيام.
وعلى الرغم من الإنكار التركي، إلا أن هناك توجه دولي للاعتراف بمجازر سيفو كجرائم إبادة جماعية من قبل عدد من الحكومات والبرلمانات في العالم وكل هذا جاء بجهود ونشاط السريان والكلدان والآشوريين في تلك الدول الذين تم تهجير أجدادهم من بلادهم بالقوة والتطهير العرقي الذي تم ممارسته بحقهم في فترة الحرب العالمية الأولى وما قبلها.
فقد أصبحت قضية الإبادة الجماعية المعروفة بمذابح سيفو، قضية سياسية وحقوقية وقانونية تناقش في المحافل الدولية على صعيد المؤسسات والحكومات والراي العام الدولي وقد اعترفت بها ما يزيد عن (21) دولة، وصوت أكثر من (26) برلمان دولي على الاعتراف بها، وتم الاعتراف بها من قبل أكثر من (42) ولاية أمريكية.
توصيف القانون الدولي لمذابح سيفو
لقد منح القانون الدولي حيزاً وافراً لضحايا التعذيب والقتل والتهجير القسري والإبادة الجماعية سواء كانت تلك الجرائم نابعة من خلفيات سياسية أو دينية أو عرقية أو جنائية، وذلك ضمن صكوك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، خاصة جريمة التعذيب التي يقصد منها إفناء شخصية الإنسان والحاق الضرر به وإنكار كرامته و هي جريمة محظورة وفق القانون الدولي ولا يمكن تبريرها في أي حال من الأحوال وتصنف بانها جريمة ضد الإنسانية.
وقد عرفت اتفاقية روما لسنة 1998م والتي تشكل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم وأنواعها في المواد رقم (6،7،8) من الاتفاقية جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، إذ تبين المادة رقم (6) من الاتفاقية أن الإبادة الجماعية هي أي فعل من الافعال التالية التي يقصد بها إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكاً كلياً أو جزئياً وهي قتل أفراد الجماعة والحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة وإخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا، وتبين المادة رقم (7) من الاتفاقية أن الجرائم ضد الإنسانية هي أي فعل من الفعال التالية القتل الاسترقاق التعذيب وإبعاد السكان والنقل القسري للسكان والاغتصاب ، وتبين المادة رقم (8) من الاتفاقية أن جرائم الحرب عندما ترتكب في اطار عملية واسعة النطاق وهي القتل العمد والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية وتعمد إحداث معاناة شديدة والحاق أذىً خطير بالجسم والصحة والحاق تدمير بالممتلكات والاستيلاء عليها والإبعاد والنقل الغير مشروعين.
وتندرج كافة الأعمال والانتهاكات التي تم ارتكابها بحق المدنيين من السريان والآشوريين والكلدان ضمن تلك الجرائم، فهم جماعة قومية – دينية، وتم ارتكاب بحقهم جرائم وفق عمليات وخطط منظمة وممنهجة من القتل والتعذيب والاغتصاب والتهجير القسري وتدمير ممتلكاتهم والاستيلاء عليها وهذا يؤكد أن هناك جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت بحق هؤلاء الأبرياء وفق توصيف نظام رما الأساسي للجرائم بكل أنواعها وأركانها وتوافر كافة شروطها.
تشكل الإبادة الجماعية انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي وللقانون الدولي لحقوق الإنسان إذ عرفت المادة رقم (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها المؤرخة في 09-12- 1948م أن الإبادة الجماعية هي (أي من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية بصفتها هذه، وقتل أعضاء الجماعة، الحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء الجماعة)، كما ونصت المادة رقم (3) من نفس الاتفاقية على (يعاقب على الأفعال التالية الإبادة الجماعية و التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية والتحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية ومحاولة ارتكاب الإبادة الجماعية والاشتراك المباشر في الإبادة الجماعية).
و كما أكدت اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية المؤرخة في 26-11 -1968م على عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واهمها جرائم القتل والانتهاكات الجسيمة لقواعد اتفاقيات جنيف الأربعة المؤرخة في 12-08 -1949م ، اذا كدت المادة الأولى من الاتفاقية على انه لا يسري أي تقادم الجرائم بعض النظر في أي وقت تم ارتكابها والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية سواء في زمن الحرب والنزاع المسلح أو في زمن السلم.
واستناداً إلى ما جاء في تلك النصوص القانونية والقواعد الآمرة في القانون الدولي من خلال تلك الاتفاقيات فانه يثبت بالوجه القطعي بان كل ما قامت به تركيا من جرائم بحق السريان والكلدان والآشوريين هو جريمة مكتملة الأركان وبكل تجلياتها وأنواعها من جريمة إبادة وجريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب وتتحقق فيها كل الشروط والأركان المادية والمعنوية اللازمة للجريمة.
الخاتمة
إن الأعمال التي ارتكبتها الدولة العثمانية، ووريثتها التركية، بحق رعاياها من المدنيين من السريان والكلدان والآشوريين المسيحيين والمعروفة بمذابح سيفو تشكل انتهاكاً جسيماً للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، وانتهاكاً للقوانين والمعاهدات الدولية التي تحمي حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وفي نفس الوقت فان تلك المجازر وعمليات القتل والإبادة لم تحظ باهتمام دولي وإقليمي كبير وبقيت مجهولة إلى حد ما وخاصة على المستوى العربي والإقليمي إذ لم يكتب عنها الكثير من الأدبيات العربية، وان كل ما هو موجود إلى حد ما هو عبارة عن ترجمات من لغات أخرى وخاصة من السريانية واليونانية والفرنسية لذلك بقت تلك الجرائم في طي النسيان والمجهول في الذاكرة العربية والإسلامية إلى حد ما، أضف إلى ذلك فان تلك الجرائم تم تسويغها آنذاك من قبل السلطات التركية بانها دفاع عن الإسلام والدين الإسلامي ضد أعداء الدين من قبل المسيحين الذي اعتبروهم في حينه عملاء لدول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى المعادية للدولة العثمانية.
إن التذكير والتعريف بتلك المجازر في الذكرى السنوية لها من كل عام أصبح ضرورة ملحة في ظل استمرار أعمال الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتهجير القسري المستمرة في العصر الحديث، وذلك لتبني المزيد من الإجراءات والسياسيات على الصعيد المحلي والدولي لمنع حدوث تلك المجازر مستقبلا وخاصة في منطقة الشرق الأوسط والتي أصبحت مسرحاً للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي ولانتهاكات حقوق الإنسان وخاصة حقوق الأقليات الإثنية والعرقية والدينية، وما قامت به تنظيمات داعش والنصرة وغيرها في سوريا والعراق هو خير دليل على ذلك ويقرع ناقوس الخطر من جديد، ولم يتوقف الأمر على تلك التنظيمات بل أن هناك دول مازالت ترتكب مثل هذه الجرائم في شمال سوريا والعراق، فالحكومة التركية ما زالت تستمر في انتهاكاتها لحقوق السكان الأصليين في الجزيرة السورية وعفرين المحتلة، وترتكب المزيد من الجرائم بحقهم وتحتل أراضيهم وتقوم بتغيير التركيبة الديمغرافية في بعض القرى والمدن التي تحتلها.
إن سياسة الإفلات من العقاب التي حظيت بها تركيا، قد أدى الى تجرؤ الحكومات التركية على ارتكاب المزيد، وهذا ما يشخص الحالة القائمة في شمال سوريا وإقليم كردستان العراق، أمام صمت عربي ودولي سواء على صعيد الحكومات أو المؤسسات.[1]