ماذا حل بالأدب الكوردي بعد الإسلام - الجزء الخامس عشر
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 6758 - #11-12-2020# - 10:56
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقابل الخلافتين، والمملكة السامانية، والسلاطين العثمانيين، وحيث تطوير، وإحياء، وتكريس لغاتهم، بغض النظر عن أن العربية كانت لغة النص، لم تقوم الأمارتين الأيوبية والزندية الكورديتين بأي عمل ثقافي-سياسي لأحياء لغتهم، رغم ما ورد عند بعض المؤرخين على أنها كانت لغة الحديث الدارجة في دواوينهم، أمثال أبن خلكان، وأبن الأثير، والمقريزي، وجرجس ابن العميد، وشهاب الدين النويري، الذين أخذ منهم جرجي زيدان معلوماته عند كتابة روايته عن صلاح الدين الأيوبي. ولا شك لهذه أسبابها، منها: صدق الإيمان بالدين الجديد إلى درجة تقديس لغة القرآن، والخلافة. وثانيها الخلفية الفكرية المستقاة من البيئة الحضارية التي لم تغب عن الأسر الكوردية رغم اندثارها سياسيا وسلطة، وهي ما حضت لتكون الأولوية للسلطة العربية الإسلامية بلغتها وثقافتها رغم تناقضها مع ثقافتهم، والمؤدية إلى ظهور مذاهب داعمة للدين وكالتفاف على الثقافة العربية المهيمنة تحت غطاء الإسلام.
كما يجب ألا ننسى دور الفقهاء والخلفاء في تجريم وتحريم كل ثقافة أو لغة خارج لغة النص العربية، معتمدين على تأويلاتهم لعدد من الآيات القرآنية في تفضيلها للغة العربية، كقوله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصّلت آياته أأعجمي وعربي وتصنيف اللغات الأخرى بلغة العجم ولغة الكفار، وثقافاتهم بثقافة دين المجوس، إلى درجة أصبحت هذه التوصيفات ترهب مثقفي وأدباء الشعوب المحتلة، خاصة بعدما تم معاقبة العديد من فقهاءهم وعلمائهم وأدباءهم بالكفر والزندقة، منهم من حرقوا وقتلوا بأساليب وحشية، وعرضت جثث البعض على أبواب المدن وأمام الجسور؛ وهي ممزقة.
وبما أن اللغة الفهلوية الساسانية أي الكوردية وآدابهم كانت أحد أهم اللغات المنافسة للعربية في بدايات الاحتلال العربي الإسلامي وروحانياتهم، وكانت أكبر عائق على نشر اللغة العربية وثقافتهم، أصبحت محاربتها في العقود الأولى من أولويات السلطة العربية الإسلامية، وبدأت بتعريب الدواوين، والتي كانت بعضها تكتب بالفهلوية ومنها باليونانية الإغريقية، والديوان أصلها كلمة فهلوية شرقية، وجميع من كان يقوم بهذه التغيرات هم من الموالي، أبناء نفس الشعوب الذين فرضت عليهم تعلم العربية. وقد عربت في البدايات دواوين الخراج، تم في العراق عام 78هجرية، وفي الشام عام 81، وفي مصر عام 87، وفي خراسان عام 124.
وفي هذه المرحلة لم تتم محاربة اللغة الفارسية لأنها لم تكن ذات أهمية ثقافية حينها، إلا لاحقا؛ بعدما غابت الفهلوية الشرقية عن الساحة، وبرزت الفارسية، وظلت السريانية أو الأرامية مسيطرة على قسم من المكتبات التي كانت تحفظ فيها الكتب بهذه اللغة، إلى نهايات موجة الترجمة والتي لحقتها تدمير الأصل أو ما تم النقل منه، ولهذا نجد اليوم غياب الأدب وإرث أحدى أوجه الحضارة الساسانية، ونعني الإرث المكتوب ليس فقط باللغة الكوردية بل السريانية والأرامية واليونانية والبيزنطية، في الوقت الذي خلفت الحضارات والمناطق التي لم تبلغه الغزوات، كاليونان وروما، والهند والصين، أرثا فلسفيا وثقافيا وعلميا أغنت البشرية جمعاء وتزهرها حتى يوما هذا.
الإيمان النقي لقادة السلطات الكوردية-الإسلامية، دعمت وكرست مفاهيم المثقفين الكرد وروادهم، حول كتاباتهم بلغة القرآن، والمؤدي إلى إهمال الكتابة باللغة الفهلوية الشرقية، والاستمرار في العطاء الأدبي والفكري والديني؛ وتطوير الثقافة الغازية ولغتهم، وبعد قرون من السلطة العربية، وظهور السلطات الفارسية انزاحت شريحة من الكتاب والزعماء الكورد نحو اللغة الفارسية، فكتب العديد منهم إبداعاتهم عن الثقافة والتاريخ الكوردي بالفارسية؛ وساهموا في تطويرها مثلما قام شريحة أخرى في إغناء وتطوير اللغة العربية وتكريسها بين الشعراء والكتاب الكورد، وتوسعت فيما بعد لتأخذ منحنيات كارثية، كإدراج القصص والأشعار والروايات والثقافة الاجتماعية الكوردية ضمن مسيرة الثقافة الإسلامية-العربية، وهناك الكثير من البحوث والدراسات والكتابات الأدبية والفكرية والفلسفية مكتوبة بيد الكورد وتعرف كأدبيات عربية.
وهكذا فقد أصبح العديد من الكتاب الكورد منظرين للشعبين العربي والفارسي وبلغاتهم، ولاحقا للشعب التركي ولغتهم، مع ذلك تم تغييب نفس الكتاب مثل مؤلفاتهم عن الساحة الثقافية ككتاب ذو أصول كوردية، لأن نتاجهم لم تكن باللغة الكوردية، وضاعت هوية شخصياتها وأصبحت غير معروفة خلفياتها القومية، على خلفية الأسماء التي خيمت عليها الصفات الإسلامية-العربية، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الإنتاج الفقهي أو في الدراسات القرآنية، بل في كل المجالات الأدبية والفكرية والعلمية.
رغم ذلك فالشعب الكردي مقارنة بالشعوب الأخرى، كالسرياني والأشوري، والأرامي، وغيرهم من شعوب المنطقة، تمكن من الحفاظ على الكثير، منها: اللغة الدارجة، والبنية الأدبية، وبعض الروحانيات كالتي حفظتها الديانة الإيزيدية، خاصة وأن نصوصها الروحانية؛ تلاوتها وتقديسها لا تتم إلا باللغة الكوردية، والإيزيدية كديانة في هذا البعد تمثل أحد أهم أركان الحفاظ على اللغة الكوردية؛ وهي لا تقل عما فعله الإسلام للغة العربية، إلا أنها لم تقدم شيئا على الساحة الأدبية الثقافية، لغياب السلطة وعدم وجود نص مكتوب غير الأدعية الشفاهية، في الوقت الذي دخلت العربية إلى الساحة الأدبية من أبوابها الواسعة مستندة على النص القرآني المكتوب أو الذي جمع ونسخ فيما بعد الوحي من قبل الخلفاء وولاتهم، وخاصة الأموية والعباسية، علما أن الثقافة الشعبية كانت تأثيراتها لا تقل عن أدعية الديانة الإيزيدية، في أبعاد الحفاظ على اللغة بكل مجالاتها، في الفن والأساطير والأمثلة الشعبية، والقصص والروايات الدارجة والتي كانت تسرد بشكل يومي ضمن العائلة الكوردية. هذه الركائز سهلت لرواد النهضة إحياء اللغة الثقافية ثانية من بين ركام القرون، والبدء بإعادة الكتابة بها وتصحيح ما تم تشويهها وتحريفها.
ففيما لو نظرنا إلى التاريخ من خلال تحريفاتها الهائلة، الجدلية التي لا يختلف عليها معظم النقاد، ودارسي التاريخ، وقارنا المكتوب عن تاريخ الشعوب المحتلة لكردستان، وما تظهر على ساحات البحوث، العملية التي سهلتها الطفرة الانترنيتية العالمية، لوجدنا غياب شبه مطلق عن الشعب الكردي وأدبهم وإسهاماتهم في التاريخ القديم، رغم ما كان لهم حضور ضمن معظم الحضارات في المنطقة، وهذا ما يفرض علينا طرح السؤال التالي:
لماذا يظهر الأدباء والشعراء الكورد كطفرات متباعدة ضمن حفرياتهم، والذين تم ذكرهم فرضوا ذاتهم، وطفوا على كل الموجود؟
لا يعقل أن يكون ذكر أبناء أمة تتجاوز الأربعين مليون إنسان بهذه الضحالة، وهم على مر التاريخ الوسيط والحديث شعب محتل، وحسب جدلية السلطة وهيمنة الشعوب يجب أن تتناقص الديمغرافية الكوردية، ولكننا نرى العكس، فهل يعقل أن يكون حضور هذا الشعب على سوية ما يورد في التاريخ؟ أم هناك عوامل أخرى؟ وبالتالي لغتهم وآدابهم، ليست كثقافة قبيلة عابرة، أو مجموعات كانت تعيش على حافة الإمبراطوريات، بل وحسب تأويلات منهجية لا بد وأن هذا الشعب كان مساهما رئيسا في بناء الحضارات، وأخرهم كان زعيم أحد عشائرهم: بابك أبن ساسان الكوردي باني الحضارة الساسانية، والذي لولا رسالة أخر ملوك الاشكانيين لما عرف ككوردي مثل العديد الذين يدرجون كفرس أو عرب، مع ذلك فهناك مؤرخون يحرفون أصول بابك الكوردية والحضارة الساسانية وأن اللغة الفهلوية الشرقية هي ركيزة اللغة الكوردية الحالية، مثلما يفعلونها مع أصول ولغة زرياب وأول الشعراء الكورد الذين كتبوا باللغة الكوردية (بابا طاهر الهمذاني) ...
يتبع...
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]