الكردي بين التدخل والجهالة - الجزء الثاني
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 6173 - #15-03-2019# - 10:42
المحور: القضية الكردية
ما يلاحظ أننا لا نهتم بأهمية الدقة في معاني المصطلحات المتداولة بيننا كالعلم والجهل، المعرفة وخلافها، الوطنية والخيانة، النضال والتحرر، المحتل والمقتسم، المغتصب والمستأصل، التعاون والتدخل، الحزبية والسياسة. فمعرفة معاني تلك المصطلحات بدقتها ستعيننا على تفتح بصيرتنا، وتجنب العديد من الزلات التي نقع فيها.
منذ القدم يُشاع بيننا كلمة الخيانة، وعلى نحو واسع؛ حتى غدت صفة تكاد تكون ملازمة لنا في الكثير من الأمور المفروض تحقيقها، وأبرزها في مجال التحرر الوطني. لو توخينا الدقة في هذا المصطلح معنى وعملا لوجدناه بين بين. قد يكون العمل المنجز خيانة أو قد لا يكون، فيعود ذلك إلى القائم به من عدة نواحي وهي: هل هذا المنفذ يتحلى بالعلم وبرجاحة العقل وسلامة المنطق وكمال الشخصية... حتى بدر منه فعل الخيانة، وهل كانوا يدركون أن أفعالهم ستندرج في خانة الخيانة وتغاضوا عنها لغاية ذاتية أو موضوعية، أم أنهم كانوا يقدمون على فعلهم لجهالة؟ أم هناك خلل في بعض ما أوردناه توا.
بمطابقة تلك على الخيانات التي ننسبها إلى بعض هؤلاء، لتبرأ قسم منهم، ولتبدي لنا قصور إدراكنا وسطحية تحليلنا، وهناك أمثلة كثيرة في هذا الجانب، إن كانت واردة في الأديان أو في مجرى تصرف قياديي الثورات، ومنها الكردية والكردستانية، أو الحركات الإصلاحية أو السياسية، وغيرها، وبمراجعة سريعة لتاريخنا الماضي والقريب، نجد أننا خونا بعضنا لضحالة في الرؤية ودراسة الواقع ومجريات الأحداث، وأطلقنا التهم لمجرد اختلاف في أساليب النضال، دون الانتباه لما سينتج عنها من كوارث، علما أن غاية كل الأطراف كثيرا ما كانت واحدة، ويرجح أغلبنا أن معظم ثوراتنا فشلت بسبب العامل الذاتي قبل الخارجي، وأولها جهالتنا في طرق التعامل مع البعض، ومعالجة أمورنا عند الاختلاف في الرأي، والمؤدي إلى تخوين بعضنا ومن ثم العداوة ومحاولة حلها بالاقتتال الداخلي.
تأذت من الخلفية الذهنية هذه معظم الإمارات الكردية التي وقفت في وجه الإمبراطورية العثمانية أو الصفوية أو الثورات الحديثة كثورة البرزاني الخالد، واليوم حركتنا الحالية تعاني من الوباء ذاته رغم ما يلاحظ من التراكم المعرفي والدراسات التاريخية المتنوعة، وإمكانية استنتاج الصحيح منه، مع ذلك لا زلنا وفي هذه المرحلة التي نحن فيها بأمس الحاجة إلى تقارب وخلق ثقل ما على الساحة الدولية، نصرف طاقاتنا في تصعيد الخلافات ودفعها إلى ساحات التخوين دون رادع أو تقويم مسبق لما ستنتج عن هذه التهمة أو مضمونها من كوارث لحاضرنا ومستقبلنا.
ولا شك ومن خلال الخبرة والمسيرة العملية، ودراسة ماضينا، أصبح من الصعب وفي الظروف الحالية، خلق اتفاق بين الأطراف المتنازعة في حراكنا، خاصة المتحالفة مع قوى خارجية، وحيث الاختلاف في الأجندات، لذا فالأولى لنا تغيير مسار المطالبة بالتقارب، أو الاتفاق على نقاط التلاقي، إلى المطالبة بإجراء حوارات بين الأطراف المتخاصمة، وعقد ندوات أو اجتماعات دورية، يتم فيها معالجة مواضيع الساعة والنقاش على نقاط الخلاف، ولا يهم أن خرج الجميع بدون نتائج مرضية، لأن الاجتماعات بحد ذاتها قد تؤدي إلى التخلي عن منهجية التخوين، ولربما ستجمد الخلافات، كما ونأمل من كل الأطراف تطبيق، وكما ندعي، القليل من منطق الديمقراطية، ومن المهم هنا أن نشذب أسلوبنا في التعامل، ونحاول الاستفادة من البعد الحضاري والدبلوماسية العالمية. وهذه الدعوة موجهة إلى ال ب ي د في الإدارة الذاتية قبل الأطراف الأخرى الأضعف في الحلقة، ولا تعني هذا أن الضعفاء ليسوا ملزمون بالمطلوب، بل عليهم تصحيح مسارهم وخطابهم السياسي. كما وهي موجهة إلى الحزب المهيمن على إدارة الإقليم الفيدرالي قبل الأحزاب الأخرى، من المؤلم والمعيب عدم الوصول إلى توافق لتشكيل حكومة وطنية للإقليم على مدى قرابة السنتين، وأن تبلغ الخلافات بين أربيل والسليمانية إلى حد القطيعة في الكثير من القضايا المصيرية، ولربما سيؤدي هذا إلى ظهور إقليمين!
ربما يكون أكثر إحاطة للقارئ قصة النبي موسى مع النبي خضر عليهما السلام؛ حين يأتي الثاني بأعمال لا يعلمها الأول ويلومه عليها. ثم يتبين للنبي موسى ضحالة معرفته وسعة معرفة الخضر. لو فرضنا جدلا أن النبي موسى افترق عن الخضر دون أن يبين له دواعي تصرفاته تلك، أما كان موسى سيتهم الخضر بالمجرم؟ ولكن بعد توضيح الأمور اعترف موسى بجهله، ونتجت عن موقفه الديانة الأكثر تأثيرا اليوم على العالمين السياسي والاقتصادي، تلك الحكمة في التعامل رغم الخلاف أدت إلى تصحيح مسيرة شعب وتوعيتهم الفكرية طوال ثلاثة ألاف سنة، ولم يذابوا مع الشعوب المحتلة كالأراميين مثلا أو الأشوريين، رغم كل الكوارث والهجرات والتهجير، والكرد بعكسهم فرغم الكثرة الديمغرافية والثبات في الجغرافية لم نتمكن من إثبات ذاتنا في منطقتنا أو في العالم الخارجي، لأنه لا يوجد بيننا من يعترف بخطئه أو بعدم معرفته، وعليه لا زلنا نتصارع كأدوات بيد الأخرين، بل ويدفعوننا لنخون بعضنا في قمة حالاتنا النضالية، وبالتالي فنتائجها تتكرر وبنفس الطريقة وحصادنا منها كوارث وراء كوارث.
والحالة تجدد ذاتها بين قرن وأخر، لأننا نقتل الحكمة ونلغي الحكيم، ونخون دون رؤية وروية، فمسيرتنا تنقاد بلا حكيم أو نبي على سوية خضر، أو قريب منه، ليوضح لنا تصرفات بعض هؤلاء المتهمين حتى نكف عما ننسبه إليهم. والمؤسف له أن الجهالة تلعب دورها ليس فقط في إلغاء دور الحكيم، والتضيق عليه، بل في تسفيهه بين المجتمع، لإعطاء الحرية للسذج والجهلاء في إصدار الأحكام ومن ثم نشر المصطلحات بعشوائيتها وكارثيتها، وكثيرا ما يتم تخوين الحكيم ذاته، لأن حضوره تنوير للمجتمع وتبيان للحقائق، وكشف للخيانة الفعلية ومصادرها، وهذا ما لا ترغبه القوى السياسية الخارجية المتسلطة على رقاب حراكنا الذي لا حول له ولا قوة. وبهذا المنطق نستمر في إصدار أحكامنا استنادا على عدم دقة معرفتنا لمعاني تلك المصطلحات الدارجة، فيكون حكمنا بالخيانة على بعضنا مجانبا للحقيقة.
إذا عدنا إلى موضوع الجهل وعدم المعرفة، المؤدية إلى إصدار أحكام الخيانة والتخوين، فللتحرر منه، علينا أن نتسلح بالعلم الكاشف للجهل، حينها قد نجد أن المتهم ربما تصرف وهو جاهل بعواقب فعله، بل آمن وبتأكيد ويقين تامين أنه يقدم على أداء واجب سيحقق النجاح المؤكد، فكم من الحوادث جرت في التاريخ الكردي غاية الفاعل خدمة وطنية، جره منطقه للتعامل مع الأعداء، فحقق لهم أجندات ونفذ إملاءات، مثلما يحصل اليوم على أرض الواقع، في جنوب وشمال وغربي كردستان، ودون تحديد لطرف أو تجريد طرف، فتوقع أجدادنا ونتوقع الأن أن تكون نتائج فعلهم وفعلنا مفيدة لعشيرتهم أو حزبنا وبالتالي لأمتنا، وتوضحت وستتوضح أن الجهالة في معرفة الحقيقة هي ما دفعت ويدفع بهم الأن إلى تكرار أخطاء الماضي لكن بأشكل عصرية، وفي الواقع نحن هنا الأن ثانية أمام جهالة في المعرفة، ولا ندرك ما نحن قادمون عليه، ولا نملك الحكمة للتمييز بين المصلحة الذاتية، والحقد على الطرف الأخر، فهل يا ترى أعمالهم وأعمالنا هذه تدرج في خانة الخيانة؟ أم أن الحكم بالخيانة في محيط الجهالة ليست هي ذاتها في أبعاد المعرفة المسبقة، وهي ما بينته حكمة النبي موسى وخضر، لذا علينا ألا نسقط أحكام الخيانة على بعضنا وعلى حراكنا اليوم قبل معرفة الأسباب والدوافع، فمعظمنا نعيش الجهالة، إن كانت سياسية أو دبلوماسية، ونكرانها نابعة من الجهالة أو الهروب من الواقع.
وهنا علينا أن نسأل:
هل علاقات حراكنا السياسي مع الأطراف ونضالهم وتعاملهم وأخطائهم نابعة من معرفة مسبقة أم من جهالة؟
وهل علينا أن نخون أم نعمل على توعية بعضنا، وكشف الحقيقة؟
أنني هنا لا أدعي الحكمة ولا أطرح المفاهيم الطوباوية، ولا أحاول تبرئة البعض، أو الوقوف إلى جانب المخطئ، بقدر ما أطالب في توسيع مداركنا ودراسة الواقع بحكمة، وأن نرقى بذاتنا إلى حيث الأبعاد الحضارية في التعامل. ففي هذا الوضع، إن كنا منصفين، لا نحمل الأخرين كل العبء، بل بتهمنا نشارك، المتهم بالخيانة، فنحن أيضا نحمل جزء منه، لكوننا جهلاء، قد نكون بدرجات أقل منه، والسبب أننا لم نزح الجهل عن كاهل المجتمع حتى لا يرتقي أمثال هذا الجاهل إلى سدة مقاليد أمورنا ويودي بنا إلى الهاوية.
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]