#قضية كوباني# : انتقام أردوغان
الباحث: شورش درويش
قبل حوالي عام من الآن ومن شرفة مطلّة على جمهرة من مؤيديه، خطب الرئيس التركي المنتخب توّاً، رجب طيب أردوغان، مفتتحاً سنوات حكمه التالية بالقول إن صلاح الدين دميرتاش لن يخرج من سجنه طالما أنه في الحكم. لم يكن هذا التصريح الخطير نبوءة قالها أردوغان أو استشرافاً لقرارات قضائية، إنما كان القرار رقم 1 الذي يعكس الإرادة السامية لرئيس الجمهورية في فترته الحالية. وبطبيعة الحال، لم يغب عن دميرتاش أن يسمّي قرار المحكمة ب«المرسوم» إيماناً منه بتحوّل محاكمته إلى ساحة انتقام وثأر بدائي يتحكّم فيها الجانب الشخصي لدى أردوغان بكل تضاعيفها، ذلك أن الزعيم الكردي كان صاحب مقولة «لن نجعلك رئيساً» في الفترة الفاصلة بين تحوّل تركيا من نظامها البرلماني إلى الرئاسيّ. وفي جلسة #18-05-2020# ، سبق لدميرتاش القول إن «الرئيس ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، ورئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، ووزير الداخلية سليمان صويلو، كانوا يجلسون في مقعد القاضي»، وأن ما حدث كان «مؤامرة سياسية».
إذاً، صدرت الأحكام بحق كوكبة من قياديي حزب الشعوب الديمقراطي في ما اصطلح على تسميته ب«قضية كوباني» والتي بلغت مجموع الأحكام بالسجن فيها 375 عاماً بحق 108 «متهماً». وهي واحدة من القضايا القانونية المركّبة بطريقة تشي بكل معاني الانتقام السياسي، إذ إنها أقيمت بعد أحداث كوباني بسنوات، واستمرت لسنوات، مع إضافة «متهمين» جدد وابتداع ملفّات جديدة. إلّا أن طبيعة المحاكمة المارثونية وقرارات المحكمة المسيّسة، إنما تكشف عن ثلاثة مستويات من التفكير التي تلف عالم المحاكمة: أولاً، حاجة الاتجاهات الفاشية إلى إعادة تدوير «محاكم التحرير» أو «محاكم الاستقلال» التي كان أبرز ضحاياها الكرد المطالبون بحقوقهم بعيد تنصّل الجمهورية التركية الوليدة من وعودها في المساواة والإخاء. وثانياً، محاولة تصفية القضية الكردية عبر ترهيب ممثليها الشعبيين ومسح كل ما له صلة بفترة «عملية الحل» حين رضخت تركيا لمنطق العقل ووجوب التفاوض مع ممثلي الشعب الكردي. فيما يعمد المستوى الثالث إلى الإطاحة بكل فرصة لتحوّل تركيا إلى دولة مؤسسات يكون فيها النظام القضائي مفصولاً عن السلطة التنفيذية وتسلّط الدولة العميقة. وبهذا المعنى، فإن ما يسميه الكاتب التركي المعارض جنكيز تشاندار «ذبح العدالة» إنما هو في جوهره مذبحة للنظام القضائي برمته وإبقاء الجهاز القضائي أداة إكراه وإذعان دائمين.
ليس دقيقاً ما يشاع من أن أطرافاً خفيّة دفعت أردوغان للتورّط في هذا الملف المشين عبر التصعيد واستفزاز المجتمع الكردي إلى الدرجة التي تؤدي لنشوب اضطرابات تساهم في تهشيم نظام أردوغان المتماسك، ذلك أن الرئيس المزمن، وبحكم خبرته بقواعد السلطة، يعرف أين يقف في كل ما يجري. فهذه المرّة، أمّنت له المحاكمة إدخال السياسة التحالفية مع حزب الحركة القومية في مختبر جديد. فالعقوبات المبالغ فيها إنما جاءت أيضاً كإرضاء لزعيم الحركة القومية المهووس بمفردات الأمة المهدَّدة والمُتآمر عليها وبقية الهرطقات المتصلة بذلك. ولعل طبيعة الأحكام أعادت له جزءاً من الأهمية حول حضوره في دائرة صنع القرار الأمني للدولة. إلى ذلك، يتوخّى أردوغان من وراء تسيير المحكمة في هذا الاتجاه إلى ثني حزب المساواة والديمقراطية عن محاولاته تقويض شعبية أردوغان والدخول في تحالفات غير رسمية وموضعيّة مع منافسه حزب الشعب الجمهوري. إذ تأتي أهمية تحييد الناخب الكردي في انتخابات الرئاسة كواحدة من الهواجس التي تؤرّق أردوغان. ولأجل ذلك، فإن تحويل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطي إلى رهائن سياسيين، وفق تعبير دميرتاش، هو أحد المطامح من تضييق الخناق على القيادات الكردية.
في الجانب المقابل، وإذا استثنينا الاتجاهات اليمينية والفاشية، لا يبدو أن الكتل الوازنة من معارضي سياسات أردوغان متفقون مع المنحى التصادمي والصفريّ في مواجهة المجتمع الكردي، ذلك أن الأصوات الرشيدة في السياسة التركية والفاعلين في المجتمع المدني أبدوا شجبهم للمحاكم المسيّسة، وإن تعددت مستويات الشجب وتفاوت مواقف المعارضة. يعكس رفض حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، وما أسماه زعيمه أوزغور أوزيل بالقرار «غير القانوني على الإطلاق»، رغبة قيادات الحزب الشابّة النأي بنفسها عن الانخراط في صراع اتخذ أبعاداً شخصيّة حيث لا مصلحة للحزب المتطلّع للسلطة الخوض فيها. وبالتالي، فإنه من المغامرة بمكان أن تتحمل الأطراف الطامحة للسلطة وطأة تركة أردوغان القضائية وسياساته العدائية تجاه معارضيه. وهذه المسألة، المرتبطة بحدوث تحوّلات سياسية في البلاد، هي إحدى مراهنات الطبقة السياسية الكردية التي تعرف بأن الأحكام الفلكيّة بحق معتقليها ستنتهي حال خروج أردوغان من السلطة.
بطبيعة الحال، ليست تجربة السجون والأحكام العرفية والتصفية السياسية بجديدة على المناضلين والمناضلات الكرد، بل إن فكرة الصمود داخل السجون باتت شكلاً مستداماً لطبيعة المقاومة السياسية الكردية. فباتت مفاهيم التضحية بالذات إلى حملات الإضراب عن الطعام، أو «معركة البطون الخاوية»، مروراً بالصلابة السياسية التي يبديها دميرتاش ومن معه في المعتقلات، السمة التي تميّز طبيعة العمل السياسي الكردي في تركيا. فالمعتقلات وفق التصريف الكردي «هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى»، إذا ما قمنا بتحريف بسيط لمقولة كلاوسفيتز «الحرب هي امتداد للسياسة». ويأتي كل ذلك مع تآكل صورة القضاء التركي ودرجة استقلاليته التي تعني في مكان ما تواصل الإدانات الحقوقية الأوروبية والدولية، وما يستتبعه الأمر من نفور المستثمرين وتدفقات رؤوس الأموال لبلدٍ يعاني مشكلة قضائية مزمنة ومن وطأة التدخلات السياسية في سير عمل جهازه القضائي.
[1]