(الميثاق الملي) وقبعات مصطفى كمال في #عفرين#
الباحث: حسين جمو
المركز الكردي للدراسات
انسحب مصطفى كمال، مع فلول قواته المتبقية، من حلب إلى منطقة جبل الكرد قرب نهر عفرين في يوم إعلان هدنة مودروس في #30-10-1918# . بقي في ضيافة قرية كردية تقع ضمن منطقة عفرين المحتلة اليوم لثلاثة أيام، ليتابع طريقه شمالاً بين قرى وجهاء الكرد وصولاً إلى مرعش، ثم ينتقل إلى إسطنبول واضعاً خدماته تحت تصرف السلطان وحيد الدين، المعروف باسم محمد السادس في شجرة حكام آل عثمان.
أنكر التاريخ الرسمي التركي مسار الحماية التي وفرها الزعماء الكرد في عفرين لمصطفى كمال خلال الانسحاب من حلب، وحذفت من سيرته الذاتية. لكن حين احتل الجيش التركي عفرين في #18-03-2018# ، نبشت الدولة في الأرشيف المحجوب واستطاعت مطابقة الوثائق مع الروايات الشفهية الكردية عن مكان إقامة مصطفى كمال في قرية كردية، وزعموا أنه نظم أولى عمليات المقاومة من هناك، فتحول المنزل الذي أقام فيه في عفرين إلى ما يشبه متحفاً وطنياً!
في كل الأحوال، تعد سيرة منطقة عفرين بين عام 1918 حتى 1939 ترجمة للالتزام ب«الميثاق الملي» المعلن مطلع العام 1920. وهذه مفارقة تاريخية أن التيار المقاوم لفرنسا في عفرين، وفق توجهات زعمائها النافذين في ذلك الوقت، كان آخر صدى لفكرة الدولة المشتركة، الكردية التركية، وهي روح فكرة الميثاق قبل أن ينقلب مصطفى كمال وفريقه على مضمونه السياسي ويعلنوها دولة طورانية عسكرية.
المفارقة الأخرى، أن فئة الزعماء الكرد الموالين لمصطفى كمال، في طول كردستان وعرضها، كانت تتعامل مع «مصطفى كمال 1920» وليس نسخة «مصطفى كمال ما بعد 1923». فكان تعريف كمال وفق هذه النظرة: عسكري مغوار، مسلم، قائد المقاومة ضد الهجوم المسيحي المدمر.
وبالفعل، استغرق الأمر زمناً حتى تغيرت الصورة الذهنية لمصطفى كمال في العالم الإسلامي. بقيت الطبقات الشعبية تعتقد لسنوات طويلة بعد إلغاء مؤسسة الخلافة عام 1924 أن مصطفى كمال ما يزال قائداً من قادة الإسلام، على عكس النخب السياسية التي كانت تحاول تقليد مصطفى كمال في التخلص من تقاليد الحكم الإسلامي. كان مصطفى كمال يعيش في زمنين مختلفين في وقت واحد. لذلك، تحمل حادثة إرسال قائد منطقة عينتاب العسكرية حيدر بك 20 ألف قبعة إلى عفرين كعلامة على الولاء لتركيا ضد فرنسا وسوريا، وصلاً بين الزمنين الكماليين، من جهة. ومن جهة أخرى، إعلاناً عن نهاية حملة التضليل التركية الموجهة إلى الشعوب المسلمة خارج تركيا. فكانت الدعايات تتردد في أوساط بعض من الشعوب أن كل ما يفعله مصطفى كمال من مظاهر العلمانية ومحاربة الدين إنما تقية للتمكين وأنه ينتظر الوقت المناسب لإعادة الأمجاد الإسلامية المتخيلة. حين وصلت قبعات مصطفى كمال إلى عفرين عام 1939، تصدت لها فتوى دينية بتحريم ارتداء القبعات الغربية، فرفضها وكلاء مصطفى كمال أنفسهم وأحرقوها ورموها في القمامة. (للتفاصيل يراجع كتاب: محمد عبدو علي – جبل الكرد). وليس جزافاً القول إنه للعوامل المذكورة، وللخبرة المباشرة، فإن عفرين أكثر منطقة تعرف حقيقة مصطفى كمال و”الجمهورية”.
خلال هذه المدة في عفرين، من الميثاق الملي وحتى ضم لواء اسكندرون لتركيا ونهاية حركة المريدين، تحكم موالون لمصطفى كمال وعملاء مولتهم الدولة التركية، بالمسار السياسي للمنطقة، إلى أن أنهت فرنسا هذا التيار المقاوم لمشروع الانضمام إلى سوريا عام 1939 عبر قضائها على حركة المريدين الموالية للجمهورية التركية والتي كانت تديرها الاستخبارات التركية.
$السيرة المحجوبة$
يفيد سرد هذه الحوادث الموجزة طرح فكرة «السيرة المحجوبة» لمصطفى كمال، والتي أثارت فضول العديد من الباحثين. لكن رغم ذلك، لم ينجح أحد في زحزحة السيرة الرسمية. ومن المصادر المهمة في الكشف عن جوانب من هذه «السيرة المحجوبة»، مذكرات رضا نور، الطبيب والوزير في أول حكومة مستقلة أعلنتها حركة المقاومة من أنقرة عام 1921، والمطلع على خفايا حرب الاستقلال وطريقة عمل مصطفى كمال في تلك الفترة، فإن إخضاع رواية رضا نور حول مصطفى كمال للنقد والتشكيك حيثما يلزم، منهج للتحرر من المبالغات والرغبوية الهادفة إلى تقزيم مصطفى كمال وصولاً إلى إهانته.
قبل 125 عاماً، في #19-05-1919# ، وصل مصطفى كمال إلى بلدة سامسون على البحر الأسود قادماً من اسطنبول المحتلة من قبل بريطانيا وحلفائها، لتلبية طلب الحلفاء المحتلين تنفيذ مقررات البند الأهم من بنود هدنة مودروس #30-10-1918# ، وهو نزع سلاح الفيالق العسكرية للجيش العثماني على الجبهة الشرقية الخارجة على سيطرة الحلفاء. سيكشف السلطان وحيد الدين وأعوانه، لاحقاً، أنهم أرسلوا مصطفى كمال تحت ستار نزع سلاح الجيش، بينما تم تكليفه بتنظيم المقاومة المتناثرة ضد الاحتلال الأوروبي، وتحديداً اليوناني.
يعلم كمال قبل أن تطأ قدمه سامسون، البلدة المتوسطة في ذلك الوقت وذات الغالبية الرومية – الهيلينية، أن نزع سلاح الجبهة الشرقية سيجعل منه صيداً سهلاً لأصغر المتمردين. لا يعني هذا أن مخالفته الأوامر وإعلانه الكفاح المسلح خيار اضطراري لتفادي عقاب يأتيه من كاظم قره باكير، قائد الفيلق الخامس عشر، الذي أصبح زعيم الأمر الواقع لكردستان ضد الاحتلال الروسي – الأرمني للولايات الشرقية، ورفعت بله قائد الجيش الثالث في سيواس، وهو أقل تسليحاً.
عداد الفيلق الخامس عشر، بحسب السجلات العسكرية التي نقلها أندرو مانجو في كتابه عن سيرة مصطفى كمال، 12 ألف جندي و22 مدفعاً. وبالتعاون مع الفيلق الثالث الذي كان يضم (4700) جندياً في سيواس، يتضح، أن مؤتمري أرضروم وسيواس وظهور مصطفى كمال تمّ تأمينه من جانب قره باكير ورفعت بله وعلي فؤاد، القادة العسكريين الأصدقاء لمصطفى كمال، قبل أن يلتحق بهم مصطفى كمال لاحقاً، والذي كان قائداً بلا أي جندي حين كلفه السلطان بالتوجه إلى الأناضول والولايات الشرقية.
$الولايات الشرقية$
و(الولايات الشرقية) مصطلح جغرافي سياسي سيتكرر في السطور القادمة. إن هذا التوصيف ليس «تقية» بديلة عن «كردستان» كما يفهم في السياق الحاضر، ولا تتريكاً مبكراً في ذلك الوقت، رغم أنه تحول إلى ذلك لاحقاً. إذ كان في واقع الأمر «تقيّة» لابتلاع أرمنستان (أرمينيا)، حيث أن كردستان حتى ذلك الحين لم تكن بهذا الاتساع رغم المزاعم الكردية المضادة لمثيلتها الأرمنية. وكانت قضية الأرمن في ذلك الوقت ما تزال واضحة الملامح والحدود الجغرافية! فكان إطلاق اسم «الولايات الشرقية» مخرجاً لدمج أراضي الأرمن العثمانية ضمن هوية مهيمنة جديدة هي «كردستان» ومخرجاً أيضاً من الرقابة الأوروبية على الانتهاكات الموجهة ضد القضية الأرمنية. وبما أن كردستان أصغر من أن تشمل الولايات الواسعة التي بقي فيها الترك فقط (بعد تهجير وإبادة الأرمن) فإن اصطلاح «الولايات الشرقية» كان في واقع الأمر يعكس التوافق التركي- الكردي على إبقاء الاتصال الإيجابي التاريخي بين الطرفين بلا نزعة تغلبية. المهم استكمال إزالة الخطر، وهو حماية الولايات الشرقية من مشروع «أرمينيا الكبرى».
$استراتيجيات البقاء الكردية$
ضمن هذه الأجواء، «سيطرت استراتيجيات البقاء على سلوك القبائل الكردية» على حد وصف أندرو مانجو (ص 241 – النسخة العربية)، مؤلف «السيرة الذاتية لمؤسس تركيا الحديثة». ففي الشرق الذي طالب به القوميون الأرمن، كان الكرد يصغون إلى حجج القوميين الأتراك، مثل كاظم قره باكير، بأن في وسعهم درء الخطر الأرمني إذا تحالفوا مع الأتراك. لكن الزعماء المحليين في ما أسماه مصطفى كمال في رسالة لقره باكير ب«المناطق الهادئة» التي ضمت الولايات الكردية المركزية المحيطة بدياربكر، فضلوا البقاء والانتظار (أندرو مانجو – 241).
في كل الأحوال، وفيما يخص المشاركة الكردية الكثيفة في التأسيس وخوض حرب الاستقلال، فإنها تبددت – وفق تعبير زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان– بسبب الطابع الفردي التطوعي لهذه المشاركة وعدم انتظامها تحت مرجعية كردية.
إذاً، وصل مصطفى كمال إلى سامسون متخفياً ولم يلق خطاباً جماهيرياً حماسياً كما تروي القصة الرسمية، بل كان قلقاً من أن يقبض عليه من قبل بريطانيا أو أعوان السلطان وحيد الدين وحكومة الداماد فريد باشا في إسطنبول لأنه بدأ يتصرف كقائد مستقل ومضاد لاسطنبول.
إن رأسمال مصطفى كمال في بدايات الحركة المضادة لحكومة إسطنبول هو امتلاكه جهاز التلغراف. إذ أبرق إلى كافة المؤسسات السابقة والقائمة رسائل تدعو إلى الكفاح المسلح كسبيل وحيد لتحرير الأراضي المحتلة. ووصف ضباط بريطاني كان يراقب تحركات مصطفى كمال بأن الأخير «احتكر التلغراف» (مانجو – 244).
استعان مصطفى كمال ومعارضوه على حد سواء في جبهة المقاومة بالمجرمين وقطّاع الطرق للتأثير على نتيجة الانتخابات والفوز بالتأثير على الشارع، وهي أحداث سرد رضا نور بعضاً من وقائعها، واستخدم هو نفسه قطّاع الطرق في سينوب للتغلب على نفوذ مصطفى كمال في البلدة الواقعة على البحر الأسود. (رضا نور – ص 138، 139).
فاز أعضاء جمعية الدفاع عن حقوق الولايات الشرقية وجمعية الدفاع عن حقوق الأناضول والروملي بالأغلبية في انتخابات ربيع 1920. وهي انتخابات انتقائية، لم يكن فيها تصويت. إذ طلب مصطفى كمال من القادة المدنيين والعسكريين، عبر رسائل التلغراف، أن ترسل كل مدينة خمسة ممثلين إلى المجلس الجديد في أنقرة، وترك لكل مدينة التصرف كما تشاء; المهم إرسال خمسة نواب من كل مدينة.
بعد أن ضمن مصطفى كمال الانتخابات، قرر عدم إرسال النواب إلى إسطنبول، فعقد المجلس أول جلسة له في 23 أبريل/نيسان 1920 في أنقرة. وفي اليوم التالي، انتخب مصطفى كمال رئيساً للمجلس البالغ عدد نوابه 436 نائباً، منهم 72 نائباً من ولايات كردستان.
$حذف سوريا من (الميثاق الملي)$
بدأت ملامح دولة جديدة تظهر في أفق هذه الفوضى والضعف الشديد لأركان الدولة بعد ضمان مصطفى كمال «عزل إسطنبول» عن «ميدان المقاومة». فبدأت مداولات «الميثاق الملي»، وهو عهد أصدره المجلس الوطني (البرلمان) لاستعادة الأراضي المحتلة. وحدث خلاف داخل معسكر حرب الاستقلال لتحديد المناطق المحتلة، هل تشمل المناطق العربية التي كانت تتواجد فيها القوات العثمانية حين تم إعلان هدنة مودروس في خريف 1918؟.
قدم رضا نور رواية مضادة تماماً لمزاعم مصطفى كمال الذي أعلنها بالتفاصيل في خطابه الشهير «نطق» عام 1927. كتب رضا نور:
«تشكلت في المجلس (البرلمان) لجنة وضعت الميثاق الوطني. أراد رؤوف (أورباي – القائد الشركسي البارز) ومجدي (؟) أن يجعلا سوريا في إطار حدودنا الوطنية، فاعترضت بشدة على هذا، قلت: إنهم – أي السوريون – ليسوا أتراكاً، دعوهم، لن يصيبنا منهم إلا البلاء المبين. كان (أي رؤوف ومجدي) لا يزالان يفكران بطريقة إسلامية، وأخيراً تراجعا. ادعى مصطفى كمال في خطابه المشهور نطق أنه هو الذي عمل الميثاق. إن من ينظر إلى الميثاق يتصور أن كل كبيرة وصغيرة في تركيا إنما من عملها هو. إن المجلس البرلماني في إسطنبول هو الذي أعد الميثاق الملي. إذاً كيف يمكن لمصطفى كمال أن يكون هو واضعه؟ إنه يكذب».
إن وصف رضا نور لطريقة حذف سوريا من «الميثاق الملي» (مع الإبقاء على القسم الشمالي فقط أي حلب واسكندرون) تكشف هشاشة أيديولوجيا الميثاق بين الروح الإسلامية المتعالية على الأحادية القومية وبين الروح الاستيلائية التي باتت تبرر إلحاق سكان غير أتراك بالميثاق من باب الغنيمة والمكافأة على حرب الاستقلال.
ومن هنا، فإن حزباً علمانياً، مثل حزب الشعب الجمهوري، يحاول عدم وضع «الميثاق الملي» في قلب برنامجه السياسي، إنما على الهامش، لأن الميثاق قائم في الأصل على الرابطة الإسلامية بين الشعوب الأخيرة في الدولة العثمانية، وهما بشكل أساسي الكرد والترك ومدن عربية مختلطة تضم عدداً كبيراً من الكرد والتركمان. وبالتالي، لا يستقيم مضمون «الميثاق الملي» إلا إذا قام على إما رابطة إسلامية أو توافق ديمقراطي تعددي، وكلاهما لا يستقيمان في منهج حزب الشعب الجمهوري والجمهورية التركية برمتها، إلا إذا طرح الأمر من منطق احتلالي طوراني، وهو ما تسير عليه حكومة حزب العدالة والتنمية المتحالفة مع حزب الحركة القومية بدون أي حرج، مستندة فقط على التواجد العثماني العسكري في هذه المناطق غير التركية.
$جهاز التلغراف (الأسطوري)$
للميثاق سياق سياسي وتكتيكي واستراتيجي، ربما لم يفهمه بعض النواب والشهود في ذلك الحين، واكتفوا بالتصويت عليها لتعزيز الجانب المعنوي للمقاومة.
قبل انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان) في 1920 (بطريقة إرسال كل مدينة خمسة ممثلين)، كان المجلس موحداً في الصفة التمثيلية للنواب، لكن النواب في مكانين. الأول في أنقرة تحت سيطرة جنرالات حرب الاستقلال، وعلى رأسهم مصطفى كمال، والثاني في إسطنبول، تحت سيطرة السلطان وحيد الدين (محمد السادس) والداماد فريد باشا، مع رقابة أمنية صارمة من قبل بريطانيا. رغم ذلك، نجح المجلس في #28-01-1920# في المصادقة على الميثاق، الأمر الذي أثار مخاوف بريطانيا من اندلاع حرب جديدة.
هنا، تخدم مجريات الأحداث مصطفى كمال مجدداً. فبتاريخ #16-03-1920# ، يعلن الحلفاء بقيادة بريطانيا تجديد احتلال إسطنبول. بمعنى انتقل الاحتلال من مقتضيات هدنة مودروس في 1918 إلى مرحلة احتلال بموجب قرار سياسي. وكانت هذه فرصة مصطفى كمال على رأي رضا نور. لماذا؟:
«لأن الوطنيين في إسطنبول يرون أنهم بهذا الاحتلال مضطرون لأن يتكدسوا في الأناضول، وبالتالي قبول رئاسة مصطفى كمال». ص 199
بالفعل، انتقل الوطنيون إلى الأناضول والتحقوا بمصطفى كمال الذي نشر البيانات في كل الأنحاء، حتى في أوروبا والولايات المتحدة، عبر جهاز التلغراف «الأسطوري» الذي كان بين يديه. وبموجب ذلك، انقطعت العلاقة بين أنقرة وإسطنبول. وسريعاً، طلب من كل ولاية انتخاب خمسة أعضاء وإرسالهم إليه في أنقرة. وفي هذه الأثناء، كان رضا نور قاد عملية تعطيل مجلس المبعوثان في إسطنبول لتفادي حله وسيطرة مصطفى كمال على المشهد كاملاً في أي انتخابات أخرى.
رأى أن الحل الأفضل هو تعطيل المجلس تحت حجة اعتقال الاحتلال البريطاني رئيس وأعضاء في البرلمان باسطنبول. فصاغ رضا نور رسالة احتجاج موجهة إلى كل المجالس البرلمانية في العالم، ونجح في إقناع زملائه النواب بالفكرة. وعليه، تم إعلان تعطيل البرلمان تحت ذريعة الاحتجاج ضد إجراءات بريطانيا المحتلة لاسطنبول.
ليس مؤكداً إذا كانت خطوة رضا نور مرجعها بعد النظر من إمكانية فرض بريطانيا أي معاهدات على البرلمان أم أنها حسابات شخصية أدت في النهاية إلى نتيجة كبيرة. فنظراً إلى أن البرلمان كان معطلاً في اسطنبول، لم تستطع بريطانيا والحكومة في إسطنبول من المصادقة دستورياً على معاهدة سيفر الموقعة في #10-08-1920# . وكتب رضا نور:
«إني مقتنع بأني أديت بهذا خدمة كبيرة، ذلك لأن معاهدة سيفر قدمت بعد ذلك إلى تركيا، وتولى الداماد فريد باشا الحكومة من جديد، ولو كان المجلس موجوداً لأجبروه بالقوة وتحت التهديد على التصديق على هذه المعاهدة. إنني أفخر بهذا دائماُ. إن فكرة هذا الأمر والجهد المبذول فيه إنما هو بسبب همّتي أنا». ص 145
في كل الأحوال، ساد يقين في أوساط الشعب والوجهاء وصغار السياسيين في البلدات أن الحركة الوطنية ستفشل حتماً ومصير قادتها الإعدام. لذا، حين تم تعطيل البرلمان في إسطنبول، وجه مصطفى كمال نداء إلى كافة الولايات بأن ترسل كل منها خمسة أعضاء. فالتزم الوجهاء الفعليون بذلك، لكنهم أرسلوا «أراذل الناس» وفق تعبير رضا نور:
«كان هناك في كل مدينة بعض التافهين من الأشخاص الساقطين، ولما كان كل الناس يعتقدون أن الذين يديرون الحركة الوطنية في أنقرة سيُقبض عليهم إن عاجلاً أو آجلاً، وأنهم سيشنقون، فقد أرسلت المدن أشخاصاً غير مرغوب فيهم – أشخاصاً لا يحبهم أحد ويتمنى كل أحد موتهم – إلى أنقرة لكي يلقوا حتفهم». ص 152
$كأن بيزنطة ستبعث من جديد$
إن الأجواء السائدة في الفترة من 1918 (هزيمة العثمانيين) حتى عام 1922 (هزيمة اليونانيين) لا يمكن اعتبارها مجرد ثلاثة أو أربعة أعوام في التاريخ. إن الصحيح هو تحليل هذه الحقبة بالأيام والأسابيع. أما تناولها من خلال الأعوام، فيترك فراغاً وقصوراً كبيراً في الرؤية. وهذا ينطبق على مراجعات التاريخين الكردي والتركي معاً في الأناضول وكردستان. حتى الخطط «التآمرية» للحلفاء المحتلين لاسطنبول والمضائق وإيجة وكيليكيا، كانت عبارة عن أفكار ارتجالية. لا يمكن لأي طرف مهزوم (أنقرة أو إسطنبول) العمل وفق برنامج مستند إلى خطط الحلفاء الأوروبيين تجاه بقايا الدولة العثمانية. كان فريق إسطنبول، وفيهم السلطان، يراهن على الشقاق بين الحلفاء وأن بلاده ستربح في النهاية وسط هذا الشقاق بين البريطانيين والفرنسيين، وبين البريطانيين واليونانيين، والإيطاليين واليونانيين. فيما انتقل مصطفى كمال إلى الشرق، وهو لم يكن وجد له موقعاً قيادياً في إسطنبول.
كذلك بالنسبة للأطراف المنتصرة لدى احتلال الحلفاء إسطنبول نهاية 1918. فكان كل من الأرمن والروم يتصرفون و«كأن تركيا انتهت وأن بيزنطة ستبعث من جديد» على حد تعبير رضا نور (ص 156). وأن المساحة المتبقية من الدولة العثمانية ستؤسس فيها دولتان، الأولى أرمنستان في جنوب شرق الأناضول وكردستان، والثانية بيزنطة الروم في إيجة والقسطنطينية والبحر الأسود.
في هذا السياق، يورد رضا نور مضمون محادثاته مع الصدر الأعظم علي رضا باشا (تولى الوزارة من #14-10-1919# إلى #02-03-1920# ) وأحد مساعدي السلطان وهو صالح باشا. لقد شكلت هذه المجموعة وفداً من أربعة أعضاء، منهم رضا نور، للتواصل مع الأناضول، وتكون هذه المجموعة قناة اتصال بين الطرفين. فيسأل رضا نور محدثه صالح باشا:
«ما هي واجباتنا؟»
يجيبهم صالح باشا: «والله أنا أيضاً لا أعرف»!
تستولي الحيرة والدهشة على الجميع. فيستأنف صالح باشا توجيه الوفد بكلمات كانت بحق عنوان المرحلة حتى إعلان الجمهورية، بل شكلت كذلك قاعدة الوفد المفاوض في لوزان: «تصرف بما تعلم أنه مصلحة الوطن». (ص 147)
لاحقاً، بعد انسحاب الحلفاء من اسطنبول، استفاد مصطفى كمال من انعدام اليقين التام في هذه المرحلة وبات يقدم الأحداث وكأن مجموعة إسطنبول كانت «عميلة بوعي» للبريطانيين. لقد أصبح لقب «خائن الوطن» يطلق على كل من لا ينتقل إلى الأناضول، وهو أمر ينتقده رضا نور بشدة ويصرح أن «هناك الكثير من الوطنيين في إسطنبول يشكلون الجمعيات من أجل إرسال الأسلحة إلى الأناضول». ص 149
$حركة اتحادية مضادة$
في المقابل، كانت صحافة إسطنبول تشن حملة إعلامية ضد مصطفى كمال وتتهمه بخيانة السلطان الذي أرسله إلى الأناضول لتنظيم المقاومة فانقلب وخان الأمانة! من بين أبرز الصحافيين علي كمال بك، الذي تطرّق له رضا نور بإيجاز في مذكراته. فحين وصل الوفد الرباعي المشكل في إسطنبول للتواصل مع المقاومة في الأناضول، إلى مصطفى كمال، تم اتهامهم بالخيانة. ثم وعلى نحو مفاجئ، لجأ مصطفى كمال إلى أسلوبه الشهير، وهو الإعلان عن شيء قبل أن يكون منجزاً، فأعلن انضمام رضا نور إلى حركته بدون معرفة الأخير أو استشارته! كان أحوج ما يكون إلى شخص مثل رضا نور لأن الأخير خصم عنيد لجمعية الاتحاد والترقي. وكان الصحافي علي كمال بك يشن حملة إعلامية ناجحة ضد مقاومة الأناضول عبر اتهام المقاومة بأنها «حركة اتحادية مضادة» ولأن رصيد الاتحاديين في المجتمع كان صفراً بسبب هزائمهم الكارثية وهروب قادتهم، تأثر قسم كبير من السكان بهذه الشائعات وفضلوا الالتزام بما يقرره السلطان وحيد الدين وحكومته. لو لم يتخلص مصطفى كمال من وصمة «الاتحاد والترقي» مبكراً وتقديم نفسه أنه مستقل عنهم، كان التاريخ سيكون أقرب إلى رؤية السلطان وحيد الدين في الرهان على التفكك الأوروبي السريع ونجاة الدولة العثمانية من التفكك.
احتاج مصطفى إلى شخصيات معادية للاتحاديين كنوع من «التطهر السياسي». فإلصاق تهمة الاتحاد والترقي به سيكون قاتلاً وينهي كل مشروعه. بالتأكيد ليس فقط رضا نور هو الذي أنقذ مصطفى كمال من «عار الاتحاديين» رغم أنه بوق دعائي ناجح لنفسه، إذ بذل مصطفى كمال أيضاً جهوداً كبيرة لتمييز نفسه عنهم وأبعد معظم قادة هذه الجماعة المتورطين في الإبادة الأرمنية عن صفوف حركته باستثناء بضع شخصيات، على رأسها كاظم قره باكير.
لم تكن ثقة السكان كبيرة بانتصار الوطنيين، إنما فرض عليهم القتال في معركة وجودية فاصلة.
حين تسلم رضا نور أول وزارة للمعارف في حكومة مصطفى كمال عام 1921، لم يجد أي شخص يقبل التوظيف لديه. فحاول ترغيب رجل بسيط من أنقرة العمل معه، فلم يقبل، وعرض عليه مرتباً كبيراً، دون جدوى. والسبب وفق ما نقله عن هذا الرجل:
(يوماً ما سوف تشنقون، فإذا تبعتك سألقى المصير نفسه) ص 212
لم يكن الناس تصدق أن السلطان سيفقد السيطرة. كان اليقين أن هؤلاء، من أمثال مصطفى كمال، مرحلة مؤقتة، وأن البلاد ستعود إلى السلطان في إسطنبول عاجلاً. وهذا الشعور من أهم دوافع مصطفى كمال لاحقاً في الإطاحة بالمؤسسة العثمانية بشكل نهائي عبر إلغاء منصب الخليفة في #03-03-1920# ، وطرد السلطان عبدالمجيد الثاني وعائلته إلى خارج تركيا.
[1]