من الإسلام إلى التعريب - الجزء الخامس
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4935 - #24-09-2015# - 19:23
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
شعوب سوريا الكبرى وشمال أفريقيا، أصحاب الحضارات العديدة والمعروفة لكل مؤرخ أو مطلع على التاريخ، لم تعرف مدنهم العنصر العربي، قبل مرحلة الاجتياح، إلا تاجراً عرضياً، دخلوها عند الاجتياح العربي-الإسلام كجيوش غازية. قبلها كانت لغاتهم وثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية تتجاوز معارفهم، غريبة ومتفوقة عليهم. فمع ظهور الإسلام فرض عمليات التغيير الثقافي الديني واللغوي وبالتالي العلاقات الاجتماعية، تحت مفاهيم الرسالة الإلهية والآيات القرآنية، رضخوا لها مع مرور الزمن، ومعها تخلت الشعوب عن واقعهم الحضاري، وسادت في بداياتها مفاهيم مشوهة عن الإسلام، لسببين: الأول أن القبائل الجاهلية المجتاحة بذاتها لم تكن تعرف الكثير عن الإسلام، والثاني، جسر التواصل اللغوي كان هشا أو معدوما بين القبائل العربية والشعوب المجتاحة، فطغت العادات وتقاليد القبائل الجاهلية كمفاهيم إسلامية، وطبق الكثير منها كقوانين إلهية، علما أن بعضها كانت مستسقاة من نظام القبائل الجاهلية، خاصة المهمة والتي جذبتها إلى الغزو، كتلك المتعلقة بالغنائم والسبايا والقتل والسيادة والزواج من الإمة، رغم اختلاف طريقة العرض، وغيرها، وقد سادت هذه القوانين في الواقع العملي في زمن الرسول وطبقها الخلفاء الراشدون نفسهم، ومثال عورة الإمة ما بين السرة والركبة كعورة الرجل، طبقها الخلفاء الراشدين، وخاصة عمر بن الخطاب وشدد عليها، وقد نهر العديد من الإمات اللواتي كن يلبسن مثل نساء العرب، وفصل معها الطبقات في المدينة والمكة، حتى أنه منع من دخول الموالي إلى داخل المدينة ومكة حيث يتواجد العرب، رغم أنهم كانوا مسلمون، وبها ناقض مفهوم الأمة الإسلامية والمساواة فيها، وحيث لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وهو ما لم يطبقه محمد بذاته، عندما فرق بين زوجاته من العرب والإمة اللواتي لم يدرجن كزوجات، وهو النظام القبلي الجاهلي، ومتناقض مع ما عرضه في الإسلام بشكل نظري. هذه المعضلة رافقت الأديان السماوية والإيديولوجيات السياسية والفلسفية، فكان الفرق بين النظرية والتطبيق العملي سائداً، والتي أدت إلى ظهور الطوائف السبعين وأكثر بين الأديان السماوية والصراعات اللامتناهية، إلى حد ظهور سيول من الدماء بين بعضهم، والتناقضات الفاضحة والعجيبة بين مذاهبهم، ودمار معظم الإيديولوجيات.
تحت هذا الغطاء المتناقض الألوان، طغت الشريحة العربية الحاكمة في المدن وعبثت القبائل بالشعوب، وجمعت الكثير من الغنائم والسبايا إلى أن فاضت بهم مكة والمدينة، وتفاقم مفهوم الأسياد والموالي، وابتذلوا فقهاء المسلمون من الشعوب الأخرى، وساد منطق تفضيل الجزيرة العربية على جغرافية الأمصار، وبقيت تلك المناطق منابع الغنائم والسبايا والعبيد، حتى عندما انتقلت مراكز الخلافة إلى دمشق والكوفة وفيما بعد بغداد، كان التفضيل للجزيرة العربية، وعليه ورغم سيادة اللغة العربية ظلت تلك الشعوب غريبة وغير مرغوبة بها ضمن المجتمع العربي، وكانت تنظر إليهم كشعوب مستعمرة دون العرب سوية، دينيا واجتماعيا، ولم يطبق جميع قادة المسلمون العرب وبينهم الرسول نفسه عمليا ومنذ ظهور الإسلام مفهوم الأمة الإسلامية المتساوية، رغم التبجح بها نظريا، وكانت السيادة وعلى مر التاريخ ومنذ ظهور الغزوات الإسلامية الأولى للقريش أولا وفيما بعد للقبائل العربية الجاهلية خارج الجزيرة، ومعظمهم ظلوا رحل وفي حالة البداوة خارج المدن، وعاشوا على أطراف المدن ضمن البادية، ولم يبنوا المجمعات السكنية ولم يستوطنوا المدن المحتلة، إلا مجموعات قليلة، بينهم الشرائح المحاطة بالحكام وبعض التجار والشريحة الدينية المتعلمة والتي كانت قليلة العدد.
حدث الاستيطان العربي الواسع في معظم المناطق المحتلة في بدايات القرن الماضي، وتوسعت في بعض الجغرافيات بعدها، خاصة في سوريا الكبرى، يستثنى، من هذا التاريخ، مملكتي الغساسنة والمناذرة الموجودتين على اطراف بادية هذه المنطقة، ولا يوجد إلا القلائل من أهل المدن التاريخية الكبرى في تلك الجغرافيات من ينتمي إلى عشائر عربية، ومن المعروف أن العرب بدون الانتماء العشائري لا ماهية له، أي العرب والعشيرة حالتان لا ينفصلان كمعظم شعوب المنطقة، باستثناء بعض العائلات التي تخلت عن انتمائها الأصلي، وانتمت إلى بعض القبائل العربية للحصول على مراكز دينية أو اجتماعية، في الفترة التي كانت العربية هي الوثيقة الوحيدة لرفع الشأن الاجتماعي في الدولة الإسلامية، ولا شك ظهرت بعض المدن داخل البادية سكنتها القبائل العربية، ومعظمها من العشائر العربية المعروفة أصولها وحتى طرق رعيها.
مراحل عديدة تلاحقت، أدت إلى تغيرات عميقة، في بنية المجتمعات، وكل مرحلة تحتاج إلى دراسات واسعة، سنختزلها، مع إشكالياتها في هذه القضية. لعرض التمييز بين فترتين عصيبتين، فترة ظهور مفاهيم الانتماء العروبي القصير أو كما يقال مرحلة بروز العصبية القومية العروبية، والمناداة بالوطن العربي، وهي الفترة الأكثر تركيزاً على تعريب المناطق المحتلة إسلاميا، ومقارنتها بمراحل اجتياح القبائل العربية-الإسلامية الماضية أو مرحلة الاحتلال، أو الانتماء إلى الأمة الإسلامية في جوهرها الروحي أو كما نودي به، والعربية في ماهيتها الفعلية.
ففي بدايات القرن الماضي، برزت الإيديولوجيات القومية، مدموجة بالانتماء الديني، فحاول روادها على مدى قرن خلق تلاءم بينهما لتسهل سيطرتها وتسود عن طريق جلب الشعوب الإسلامية وخاصة غير العربية إلى مفاهيمها. ففي العالم الإسلامي وضمنها العالم المسمى جدلاً بالوطن العربي، احتضنتها المؤسسات الإسلامية، والشخصيات الدينية المعروفة، على مدى القرون السابقة، وضمنها فترة الاستعمار العثماني، فعلى أكتافهم برزت حركة التنوير المعروفة في المسيرة التاريخية بالحديثة، فكان الإسلاميون رواداً، خريجي تكيات ومؤسسات إسلامية، والغريب أن معظمهم لم يكونوا عربا، تبنوا مفاهيم العروبة، والانتماء العربي، وأحيوا الثقافة القومية العربية، ومهدوا لظهور الفكر العروبي وتكوين الأحزاب القومية كالبعث والناصرية فيما بعد وغيرهما، وكان لهم دور غير قليل في تقوية شوكة الأحزاب القومية الإسلامية العروبية على الساحة، قبل أن يظهر الصراع بين المنهجين الديني والقومي، فعزلت الأحزاب القومية ذاتها وتبنى قادتها المفاهيم العلمانية العروبية، وتبنوا أيديولوجيات قومية مختلفة، وبشعارات مغايرة، فمع مرور الزمن تعمقت الخلافات بينهم وبين الأحزاب السياسية العربية الدينية، وتفاقمت إلى أن بلغت مراحلة الصراع على السلطة، ومن نتائجها المشاكل التي حصلت في القرن الماضي في مصر، والجزائر، وسوريا، وكانت نتيجتها مجازر حماه وحلب، ومثلها حصلت في دول عربية وإسلامية أخرى.
خصصت الأحزاب القومية والسلطات العروبية الشمولية معاهد وأكاديميات، لطغيان الفكر العروبي، وتثبيت انتماء الشعوب المحتلة للعروبة، خاصة تلك التي بقيت قابعة تحت الاحتلال العثماني على مدى قرون من الزمن بنفس النهج الإسلامي، لكن بدلاً من العربي كان العنصر التركي واللغة التركية تزاد سيطرة وكانت ستطغى لولا القرآن العربي، وبينهم شعوب شمال أفريقيا وسوريا ولبنان، فنشرت هذه المراكز الثقافية دراسات وإيديولوجيات فكرية وثقافية عروبية متنوعة بثت ضمن شعوب المنطقة، وفرزت لها كليات خاصة، ودعمتهم بطريقة أو أخرى الدول الاستعمارية العصرية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، معظمها نكاية بالإمبراطورية العثمانية المنهارة، وساندتهم شخصيات من الشريحة المثقفة الإسلامية غير العربية، والذين كانوا في عمقهم إسلاميون أصبح العديد منهم مع مرور الزمن عروبيون أكثر من العرب، وجهودهم كرست من قبل الأحزاب العنصرية والسلطات العربية لبعض الدول، وصرفت عليهم الأموال، لترسيخ مفهوم عروبة سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، وشمال أفريقيا جميعها، قبل طغيان مفاهيم القومية العربية على الأمة الإسلامية بالواقع العروبي الجاري، وبالتالي اختراع مفهوم الوطن العربي، وإنكار أو الغاء ماهية وتاريخ جميع الشعوب القاطنة في المنطقة أصحاب الأرض الحقيقيين، فنقلوا من الكيان الإسلامي إلى الاحتلال العربي، وطمست العلاقة الجدلية بين الإسلام واللغة العربية، ليبقى اللغز، الذي تحركه الأحزاب والسلطات العروبية الشمولية حول استمرارية الاستعمار العربي لهذه المناطق تحت الغطاء الإسلامي مخفيا عن العالم والشعوب المستعمرة ...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]