من الإسلام إلى التعريب - الجزء الثالث
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4928 - #17-09-2015# - 02:13
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لضعف الحجة الفكرية في العديد من جوانب الدين الجديد مع ضحالة البنية المعرفية عند القبائل التي اسند إليهم نشرها، إلى جانب هشاشة الكثير من قوانينها التي لم تلغي العديد من العادات والتقاليد الجاهلية، حملت الجيوش الإسلامية، العصبية القبلية العربية وثقافتها، أكثر مما حملت فكرة نشر الإسلام، كما ذكر آنفاً، وقد كانت معارفهم دون سوية فهم واستيعاب المدنيات المجاورة، فاندمجت هذه المعضلة مع تقديسهم للغة القرآن وليس للقرآن على بنية مفاهيمها، لتطغى اللغة العربية وفيما بعد عاداتهم وثقافتهم الجاهلية عن طريق جسر اللغة العربية، والإسلامية على العديد من الشعوب التي غزوها، علما أن نشر وتعلم اللغة العربية استمرت عقود وربما أجيال إلى أن تشربها الشعوب المستعمرة، لذلك كان الاستعمار العربي الإسلامي عسكريا في البدايات، وسبقه الترهيب من القبائل البدوية الغازية، والتي كانت تعبث بالأوطان باحثة عن الغنائم والسبايا، تحت نداء قبول الإسلام أو الجزية أو القتل.
والقوافل الأولى الصادرة من الجزيرة العربية، كانت تحوي في ذاتها مجموعات كثيرة من الأعراب وليس المسلمون المسالمون الذين ذكرهم القرآن، وأنطبق عليهم، منذ البدايات، حديث الرسول(ص)... ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة...أي طائفة واحدة كانت مرشدة، والبقية شاركت في الحروب إما للمغانم والسبي أو الخلاص من القتل، أو من الجزية. وظهرت نتائج الحديث بشكل جلي مع مرور الزمن، فعلى بنية خلاف الطوائف تلك والبنية الفكرية والمعرفية للقبائل المنحازة لقادة مسلمون دون آخرين، حسب العصبية القبلية، جرت الحروب الدموية بينهم، وهم تحت راية الإسلام، وبعد موت الرسول(ص) مباشرة، وأقرب صحابته كانوا على رأس القبائل المتقاتلة، كمعارك الردة، والجمل، والصفين، والتي ذهب ضحيتها معظم أصحابه والخلفاء، والألاف من حفظة القرآن وخيرة المسلمين، وهدمت الكعبة مرتين خلال أقل من ثلاث عقود من الزمن، وأكثر من ألف عذراء عربية في المدينة ولدن أطفالا بعد سنة من غزو أو فتح ( لا يوجد اسم لدخولها في القاموس العربي) عاصمة الرسول(ص) ذاته، بعد أن أباحوها جيش المسلمين نفسه، وذلك أثناء المعارك المتتالية ما بين الخلفاء الثلاثة في الفترة الزمنية نفسها، في دمشق والكوفة ومكة، والمتصارعة على السلطة المدنية والغنائم المنهوبة والسبايا المجلوبة من الأمصار، متناسين الإسلام بكليته.
وعلى أثرها برز نظام الوراثة، وأعيد ترسيخ العصبية القبلية ومن ثم تقاليد القبائل العربية الجاهلية، فطغى التعيين على الشورى والتفضيل العائلي القبلي على المساواة بين الأمة الإسلامية، وسايرت هذه ضعف قوة علي بن أبي طالب في معاركه مع الخوارج، إلى أن قتل على يدهم. ورغم كل ما يقال عن الخوارج، يبقى السؤال مطروحا، من كان صائباً؟ علي ابن أبي طالب أم الذين طلبوا منه أن يتبع مبدأ الرسول في إدارة المعارك، الحرب خدعة؟ وعلى الأغلب وعلى سبيل التذكير، لو قبل علي بن أبي طالب رأيهم لتغيرت وجه التاريخ الإسلامي ولما ظهرت الخلافة الأموية، ولظل مبدأ الشورى سارية في الإسلام، ولربما انعدمت الوراثة التي غيرت نهج الإسلام ذاته، فكراً، بعد أن حرف سياسيا، بعد وفاة الرسول مباشرة.
وعلى عتبات هذه الصراعات وطغيان العنف، برزت الخلافات والاختلافات الفكرية بين العرب والشعوب المستعمرة حول الإسلام ذاته، فظهرت العديد من المذاهب المتضاربة، وأبعاد متشعبة من حيث الاختلافات بل والخلافات الفقهية والفكرية والسويات الروحانية في الدين، وفي تفسيرات أو تأويلات القرآن.
استطاعت بعض الشعوب المستعمرة، وبعد قرون، التحرر وعودة قادتهم لسيادة أوطانهم. كالفرس الذين تبنوا المذهب الشيعي، فسخروه بعد أن أنموه ووسعوا فيه لغاياتهم القومية، ومثلهم فعلها أغلب الدول التي كانت سابقا تابعة للإمبراطورية الفارسية كخرسان وما ورائها. وفي الطرف الآخر تمكن الأتراك من بناء إمارات شبه مستقلة إلى أن بلغوا السيادة، بل وسادوا على القبائل العربية والإسلامية ولقرون من الزمن. وشعوب أخرى حافظت على ماهيتها لكنها لم تتمكن من التخلص من عبئ الاستعمار الجغرافي والديموغرافي والثقافي العربي، كالكرد والأمازيغ والقبط والنوبيون، وخسروا الكثير من ديمغرافيتهم لصالح العرب الذين استوطنوا، والبعض من الشعوب المستعمرة خسروا ذاتهم ديمغرافيا وثقافيا، ومنهم من ذابوا مع القبائل العربية واندمجوا في قوميتهم بسبب التأثير الديني واللغة، مثل جميع شعوب سوريا الكبرى، والذين لم يبقى منهم سوى مجموعات قليلة حافظت على دينها دون القومية، وهم الأن أكثر تعصبا للعروبة من العرب الأصليين، وعلى أثرها تغيرت وجه سوريا الكبرى الحقيقي، وشمال أفريقيا، وهما في بعدهما التاريخي لا ينتميان إلى العروبة بشيء.
والقصد من ذكر التعريب، هو عرض عملية التغيرات التي فرضت على الطبقات الإكليركية والمتمكنة سياسيا واقتصاديا، من أهل المنطقة والتي تقربت أو فرضت عليهم التعامل مع الحاكم القريشي، العربي-الإسلامي، ومن ثم تغيير لغة المراكز الأدبية والفكرية، لفرض لغة القادم المستعمر على الشعب فيما بعد، وبالتالي تغيير الانتماء القومي للشعب على بنيتها، والتي حصلت على مراحل متتالية استمرت قروناً، مع تشعب الإسلام بين الشعب، وتخليهم عن ديانتهم بدأت عملية تغيير الانتماء القومي، وقد كان مدموجا لغويا وديموغرافيا. ومن بين الشعوب التي تخلت بشكل كلي أو جزئي عن قوميتها ولغتها، الأراميون والكلدان والسريان والأشوريون والفينيقيون والأقباط والنوبيون والأمازيغ والبربر والطوارق وقسم كبير من الكرد والفرس. وهذا الاستعمار الديني والثقافي وعملية فرض لغة القادم لا يختلف في كثيره عن عملية التغيير الذي فرضه الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الكبير (378- 395 ) على نفس المناطق المذكورة، الذي جعل المسيحية الديانة الرسمية لكل الإمبراطورية وأمر بحرق مكتبة الإسكندرية بحجة أنها تحوي على كتب ومخطوطات للديانة المصرية الوثنية، ونقل المسلة المصرية من الكرنك إلى القسطنطينية، وألغى الألعاب الأولمبية بحجة أنها ألعاب وثنية وتبعد الناس عن المسيحية، لكن الاختلاف هنا أن اللغة اليونانية واللاتينية بقيت محصورة بين شريحة دون عامة الشعب، وعلى سبيل المثال، حينها لم تفرض تغييرا للغات العامة للشعوب، ولم يفرض الإنجيل بلغة معينة، وظل الناس محافظين على لغاتهم وبالتالي على قوميتهم، أما بعد قرون من الإسلام، وفرض القرآن بلغته العربية فقط، أصبح البعض ينفي وجود لغة قبطية في مصر، وحجتهم، عدم وجود الأناجيل باللغة القبطية، متناسين أن اللغة اليونانية فرضت على الكنائس التي كانت بالأصل معابد للديانة المصرية القديمة، وهو ما حصل للشعوب الأخرى كالأمازيغ والبربر والنوبيين والكرد و السريان والأراميين وغيرهم، همشت لغاتهم مع مرور الزمن، وكأنها لغة المشركين مقابل اللغة العربية المقدسة، عند دخول الإسلام، وعلى كل هذه إشكالية تاريخية بحث فيها العديد من المؤرخين.
وشهادات بعض كبار كهنة السريان والأقباط التي ظهرت بعد قرون من سيطرة العرب المسلمون على مناطقهم، سوريا ومصر، بأنهم كانوا يرحبون بالعرب المسلمون، لا تبين الموثوقية، بقدر ما هي تبيان لوقائع تاريخية، وتكتيك للخلاص من الاستعمار البيزنطي، وليس لجلب استعمار يحل محله، أو هي دراسات مكتوبة لرهبة البقية الباقية منهم الذين لم يعتنقوا الإسلام، وعزلوا في كنائس لم تتحول إلى مساجد، وهي لا تختلف عن التصريحات الإعلامية من قبل بعض الفقهاء المسلمون في عصرنا هذا، القابعون تحت ظل طغاة الدول العربية، وهي نفس الموثوقية التاريخية المطعونة فيها، والمذكورة أن شعوب تلك المناطق كانت ترحب بالقبائل العربية الغازية، وكانوا على معرفة باللغة العربية!...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]