إبراهيم هنانو والمقاتلات الكرد-الجزء الأول
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4768 - #04-04-2015# - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
مما لا شك فيه، التعصب القومي والتزمت الديني، من أخطر الأمراض التي اجتاحت الثقافات البشرية. ابتليت بها شعوب الشرق كغيرها من الشعوب، لكنهم تجاوزوا الجميع في تشربها. وغالت شرائح معينة من هذه الشعوب في تطبيقهما على أرض الواقع، بعد ظهور الإسلام مرة، وأخرى منذ بدايات القرن الماضي. حيث مكّنوهما من ذاتهم وتلذذوا بهما إلى حدِّ كرهِ وبغضِ الآخرين بتصميم وإصرار. وأدى هذا إلى تفاقم الصراع بين الشعوب المتعايشة والمتجاورة، ولم يشذ عن الابتلاء بهذا الوباء شرائح السياسيين والمثقفين من العرب والفرس والترك، فشهروا هذين السيفين في وجه الكرد والأمازيغ والقبط وغيرهم من الشعوب المتعايشة معهم في ظل الإخاء والمحبة. علماً أن الذرائع والمبررات في تشهيرهما ظلت متفاوتة، وأساليب التنفيذ أو الخلاص تنوعت. فالفرس في عهد البهلوي تذرعوا بأمجاد فارس من كورش إلى آخر ملوكهم، وشرّعوا احتلال غيرهم من الشعوب، ومن بعده اتخذوا التشيع مذهبا ذاتيا متزمتاً، في نواته تعصب للقومية الفارسية، ومكّنوا من توريتها بالغطاء المذهبي ليناصرهم شيعة أصقاع الأرض وليسودوا بها المسلمين وغيرهم. والعثمانيون سادوا عالم السنة لتدك جحافلهم أبواب فينا بحجة الحفاظ على مذهب أهل السنة والجماعة، في حين بعد زوال الإمبراطورية تولدت الكمالية الطورانية لتقضي على مليون وسبعمائة ألف كردي دون رحمة، وكذلك لتمحو آثار اللاز؛ لكي تستتركهم (التتريك) جميعا. وخلال العقدين الأخيرين، جددت الأردوغانية العثمانيةَ لتسود من جديد، معيدة أمجادها في حكم السنة شرقا وغربا، بزعامة العنصر التركي. فالعرب منذ الحكم الأموي إلى بشار الأسد لم تفارقهم القومية العربية والدعوة إليها، كانوا حاكمين أو محكومين. ولم يغفل القرآن الكريم هذا الجانب في العرب، وجاء بها في آيات بينات.
وجميع أنظمة الدول الإسلامية قومية بامتياز، مع تواري بعضها خلف شعارات ويافطات تخفي جانبها القومي العروبي، رغمها تطفو على السطح واضحة المعالم. وهناك من العرب من لا يخفي ذلك، ويشهرها مع ادعائه تمثيل الإمامة أو الخلافة الإسلامية كما هو الحال في العربية السعودية. فوق تواجد أقدس المقدسات الإسلامية بحوزتها وتظاهرها الشديد بالتدين النقي، يشهد عليها اسمها القومي. وليس هذا فحسب، بل أزاحت أسماء الأماكن المقدسة من الدولة لتضع اسم العائلة، وهذا أموية العصر الحديث بعينها.
وظهور التيارات الإسلامية المتطرفة ليس دافعها الدين، بل هو الدافع القومي لتلك التيارات بغطاء ديني؛ لكي تجر وراءها الجماهير الغفيرة من العالم الإسلامي من أجل تحقيق مآربها القومية، وخير ما يتجلى للمتتبع في هذا المنحى الإسلام التونسي، وما يؤكد على قولنا أن هذا الإسلام لم يذكر شعب الأمازيغ هناك، بالرغم من تواجده هناك على أرض آبائه وأجداده، وأيضا أغفلت الحركة الإسلامية في الجزائر هذا الشعب الأصيل، ولم تأتِ على ذكره. وشمال إفريقيا أمازيغية، وهم ليسوا وافدون كالعرب هناك. لقد استغَلّ العرب الإسلام واستخدموه في تعريب الأمازيغ والكرد والدارفوريين وأفارقة موريتانيا وغيرهم. ولم يقف الإسلام المستفاد منه إلى هذا الحد، بل تجاوز الحاجز الديني إلى تعريب الأقباط في مصر لغة، والآراميين في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين أيضا، علما أن مسيحيي بلاد الشام هم أهل وسليل اليسوع واليسوعية لم تكن عربية، ولا يذكر الإنجيل المقدس أن عيسى، عليه سلام، جاء بالعهد الجديد للعرب أو جاء به باللغة العربية، كما هو القرآن الكريم، ولا يذكر التاريخ أن معاشري المسيح، عليه السلام، كانوا عربا وتكلموا بالعربية. فالعهد الجديد كانت آرامية ومنها ترجمت إلى اليونانية والعبرية ومؤخرا إلى العربية. وتمكن العرب وغالبية الحكام في الإسلام من استغلاله كما تتطلب مصالحهم، لا مصلحة الدين. في حين يبيّن التاريخ أن الكرد والأمازيغ شذّوا عن هذه القاعدة، فخدموا الإسلام كما هو، وليس كما تقتضي مصلحتهم القومية أو الذاتية.
وهذين الشعبين، اللذين لا اعتراف بهما، هما أنقاهم تعاملا مع الإسلام ومبادئه وأبعدهم عن التعصب القومي ووبائه، وكانت من العوامل التي أرسلتهم إلى حاضرهم الناقص وطنا ودولة.
البنية الوبائية، المذهبية والقومية، وسيطرة الإسلام القومي على حكومات الشعوب الإسلامية، ليفرز من الآفات كثيرها، فالأطراف تصارع بعضها منذ قرون، ليست لبناء حضارة، بل لتدمير الآخر وكذلك الأوطان. وحكومات شعوب الشرق تنافس بعضها البعض في هذا المنحى. لعلها اجتمعت في كثيره على الكرد (كونهم يطالبون بحقهم في الاستقلال بأرضهم) رهبة من ذواتهم المتناقضة والمتصارعة، حيث يتخذون من الكرد حجة ليبنوا عليهم مفاهيمهم واستراتيجياتهم، مشوهين قضية هذا الشعب الأمين. فالإسلام الصحيح لا يلغي حقوق الشعوب، ولضعف الإسلام النقي في المنطقة تنوعت أساليب تهجم السلطات الشمولية ومنظمات الإسلام القومية على الكرد وغيرهم من القوميات، فهناك من يحاول ابتذال ثقافة الكرد، وشريحة تخصصت لتشويه تاريخهم، وأخرى تنعت في ماهيتهم، وسلطات حاولت وتحاول طمس لغتهم وعاداتهم، والبعض يكفرونهم، وغيرها من مفرزات السلطات الشمولية لعداء الكرد.
من بين هذا الخضم، وعلى عتبات هذه الصراعات المذهبية والقومية، وجد الكرد ذاتهم يخدمون، وفي مراحل زمنية عديدة، هذه الشعوب، بتفان، وإنكار الذات، كمسلمين أتقياء. خدموا الأمة الإسلامية بصدق ونزاهة. فالصلة الفكرية والانتماء للعقيدة الإسلامية، تجاوزت بل وغطت على الانتماء القومي الكردي، وهي التي أدت إلى ظهور قادة ومجاهدين أمثال صلاح الدين الأيوبي وسليمان الحلبي وإبراهيم هنانو، جمعتهم الإسلام على أبعاد التاريخ، دون القومية، أتبعوا دروب الجهاد بناءً على النصوص الدينية وتأويلها وهديا بالأحاديث الشريفة والالتزام بها، حملتهم على محاربة المستعمر، دون اعتبار لنسبهم الكردية، وعليه، متأخراً وفي عصر تزايد التعصب القومي، بدأ البعض ينخر في ماضيهم المجيد، وبرع فيها المسلمون العروبيون، وفي البعدين تطغى العصبية القبلية أو القومية، دون الدين، وتبين مدى هيمنة النزعة القومية عليهم، وضعف الإيمان بمفاهيم الدين الحنيف، وسريان هذه النزعات في أوصال الأمة الإسلامية رغم مرور أربعة عشر قرنا عليه، وبشكل خاص تبلغ ذروتها لدى التيارات الإسلامية العربية المتطرفة، ورغم ظهور شريحة مثقفة وسياسية عربية واعية ووطنية، ومجموعات متحررة من ثقافة السلطات الشمولية العنصرية، فلا تزال نزعة الانتماء القومي القبلي عند العربي هي الغالبة، وهي نفسها التي كانت قد نمّى بها البعض مداركهم، بناءً على تأويلات مشوهة لنصوص محددة من القرآن الكريم، يوم فضلت اللغة العربية على غيرها من اللغات، كجعلها لغة الجنة، والتزم هؤلاء المجاهدون الكرد بما فضلوا من مزايا العربية ولم يأبهوا بالنوايا القومية المخبوءة في سريرة العروبيين...
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]