فيان سوران.. الشعلة التي أضاءت دروب النضال
هيفيدار خالد
حين كانت تجوب الدروب الجبلية وسط مشاهد الجبال الشامخة الممتدة على مدّ النظر في وطنها الأم، كردستان، أيقنت المقاتلة الكردية فيان سوران ابنة جنوب كردستان، أن ثمن الحرية مكلف وباهظ ويتطلب من المرء الكثير من النضال والكفاح والتضحية بالذات. فيان سوران باسمها الحقيقي ليلى والي حسين عُرفت بين رفاقها ورفيقاتها بروحها المرحة التي جعلتها قريبة من الجميع، كانت جميلة ناعمة، دائماً ما تحافظ على ابتسامتها الهادئة البريئة حتى في أشد الظروف صعوبة. إلا أنها صارمة ودقيقة في اختيار كلماتها وانتقاء عباراتها، تتخطى الألفاظ البسيطة في أحاديثها الشيّقة التي لا يمل المرء منها أبداً.
تحلّت فيان بروح القيادة والمبادرة على الرغم من صغر سنها، دائماً ما كانت تسعى إلى تمثيل نهج حزبها وقائدها في كل مكان، خطابها كان مؤثراً للغاية حين تلقيه على الحشود الغفيرة، حيث يصغي الحضور لصوتها الحنون بتأنٍّ وهدوء.
فتحت عيناها على الحياة في مسقط رأسها بمدينة السليمانية في جنوب كردستان عام 1981، وهي من عشيرة جاف الكردية، انضمت إلى صفوف حزب العمال الكردستاني عام 1997. وبالتحاقها بحركة حرية كردستان قررت انتهاج نهج جديد للحياة والوقوف في وجه المعاناة والظلم الذي تعرضت له في المجتمع؛ نتيجة الذهنية الذكورية السائدة بين القبيلة والأسرة، إلا أن أسرة الرفيقة فيان لم تتقبل فكرة انخراطها في النضال الحزبي وحاولت بشتى الطرق والأساليب دفعها إلى التراجع عن قرارها، ولكن الرفيقة فيان أثبتت حقاً أن لكل امرئ من اسمه نصيب، إذ أن معنى اسمها في اللغة الكردية هو الإرادة، فتمكنت بإرادتها وعزيمتها وإصرارها على البقاء في صفوف الحزب، ولم ترضخ لمطالب أسرتها، قائلة لها بعبارة واضحة وصريحة لن أكون معكم بأي شكل من الأشكال في ما تفرضون، سأحقق رغبتي في الحرية هنا بين صفوف حزب العمال الكردستاني، فكان انخراطها في الحزب في جنوب كردستان ثورة بحد ذاته، كسرت به الحواجز الموجودة في المجتمع ووقفت في وجه المعوقات التي اعترضت طريقها وخاصة محاولات أسرتها بمنعها من تحقيق رغبتها في الحياة الحرة ضمن حركة حرية كردستان.
على الرغم من صغر سنها، كانت صاحبة إرادةٍ وأهدافٍ وطموحات، إذ لم تكن تعيش تلك الحياة التي اعتادها الجميع. كان نمط حياتها مختلفاً تماماً عن حياة الآخرين حتى في وقفتها، وهيئتها، وحديثها، كانت مختلفة، كانت في بحث ونضال متواصل، تعمل دون كلل أو ملل بكل صدقٍ وإخلاص، عاشت طوال مسيرتها النضالية رحلة حياة مليئة بالتحديات المثمرة واللحظات الجميلة. فلكل ثانية من حياتها معنىً سامٍ ووجود حقيقي، أصبحت صاحبة تاريخ حافل من النضال والعطاء والتميّز، ونحن نتحدّث عنها ربما لا تسعفنا الكلمات والمفردات المناسبة والدقيقة لوصفها فكل ما قيل ويقال عنها لا يوفيها حقها أو يعبّر عن خصالها وصفاتها القيادية الرائعة. أينما حلّت، حلّ معها الفرح والسعادة والعنفوان ودبت الروح في المكان، كانت تحب الرقص كثيراً وخاصة الرقص من حول النار، كانت ترى فيه حرية وسعادة لا مثيل لها، لذا دائماً ما كانت تدعو النساء للرقص بعد أن لمست فيه حيزاً من الحرية، فكان الأقرب إلى ذاتها، ولكن الرقص معها كان الأجمل والأحلى.
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، في الثاني من شباط من عام 2006، في منطقة حفتانين بجنوب كردستان أضرمت فيان النار بجسدها في عملية فدائية رداً على المؤامرة الدولية ضد القائد عبد الله أوجلان ومحاولات تصفية حزب العمال الكردستاني، لتوقظ باستشهادها جميع الذين كانوا في سبات عميق ولا يشعرون بما يجري من حولهم من مؤامرات ومخططات تحاك بهدف القضاء على نضال الحزب والقائد عبد الله أوجلان بأيدي أعداء الشعب الكردي والإنسانية، تاركةً خلفها رسالة وجدانية مؤثرة تطرّقت فيها للعديد من القضايا التي يتطلب الوقوف عندها بعزم وإرادة وإصرار، عندها أصبحت فيان نوراً للسائرين في وجه ظلام المهيمنين وسياسات الحرب الخاصة التي تمارس ضد إرادة المرأة الحرة والشعب الكردي المناضل، وكانت أشبه ما يكون بإلهة نار الحق في وجه إله الظلام والباطل.
ومن رسائلها التي كتبتها استثارتني جمل وعبارات منها: لقد حان الوقت لكي أصبح رداً على مخططات ومشاريع الدول السلطوية، والذكور القمعيين، لذلك سأجعل من ليلة ال 15 من شباط ليلة لمعاقبتهم، وسأفجر بركان الحقد الذي يشتاظ داخل قلبي. ولا أريد أن أعيش لأرى نظام العزلة والتعذيب في إمرالي في 15 شباط مرة أخرى. وسأعيد بالنيران التي سأضرمها بجسدي الحياة والدفء للضمير والعقول المتجمّدة من جديد. أمّا في الرسالة التي وجّهتها الشهيدة فيان لرفيقاتها ورفاقها في درب النضال فقد قالت: إن أعظم عملية في حزب العمال الكردستاني هو الوفاء بالوعد.
العملية الفدائية التي نفذتها الشهيدة فيان أصبحت ثورة وجدانية في الوقت الحالي وفتحت صفحة جديدة في أسلوب النضال والمقاومة في كردستان ضد سياسات الإبادة التي تحاك ضد الشعب الكردي، بعمليتها هذه خاطبت جميع النساء وجميع أبناء الشعب الكردي للالتفاف حول القائد عبد الله أوجلان وتحطيم سياسة العزلة المفروضة عليه في سجن إمرالي منذ سنوات. رفيقاتها في الدرب والنضال والقضية، قلن إن القيادية فيان بعمليتها الفدائية أرادت أن تكون جديرة بمقولة القائد عبد الله أوجلان، التي قال فيها إن ثورة جنوب كردستان هي ثورة المرأة، لذلك نفّذت فيان تلك العملية الفدائية.
نعم لقد انضمت فيان إلى قافلة الشهداء الذين أضرموا النار في أجسادهم وشكلوا حلقة من نار حول القائد عبد الله أوجلان من أجل إحباط المؤامرة الدولية، وتحت شعار لن تستطيعوا حجب شمسنا، أمثال الشهيد محمد خالد أورال، وسردار آري، وروجبين آمانوس، ومسلم دوغان، وأفريم دمير، وآيتن بجت، وأوميت آجار، وزولكوف كزن وجهاد ديرك، والعشرات من الرفاق والرفيقات الذين كنت قد أوردت أسماء بعضهم أو معظمهم في نبذات سابقة.
أضرمت فيان النار بجسدها للوقوف في وجه السياسات التي حاولت ترويض الشعب الكردي وتعويده على الحياة دون القائد، دون أيديولوجية أو إرادة حرة، لتوجّه ضربة قوية لسياسات الإنكار والإبادة الممنهجة بحقّ القائد عبد الله أوجلان وتعبّر عن مدى ارتباطها العميق به، وهو الذي يخوض مقاومة حقيقية وعظيمة وكبيرة في إمرالي اليوم، القائد الذي حوّل وجوده إلى نهج يجسّد الحرية، والمقاومة ضد قوى الحداثة الرأسمالية المهيمنة. فيان سارت على هذا النهج الحر بكل فخر، واليوم بعد مرور نحو عشرين عاماً على رحيلها لا يسعنا تكريم تلك التضحية إلا بالنضال والمقاومة وإبقائها وجميع رفاقنا في قلوبنا والسير على دربهم حتى النهاية.
نعم صعّدت فيان بعمليتها الفدائية روح المقاومة أكثر من أي وقت مضى، فالعشرات من الفتيات الكرديات وخاصة من جنوب كردستان، قررن الانضمام إلى حركة حرية كردستان من أجل النضال ورفع راية الحرية في وجه العبودية، وأطلقن على أنفسهن اسم فيان سوران ليسرن على النهج الذي خلقته فيان في كردستان بروحها وكيانها الحر، إذ كانت رمزاً حياً ومثالاً للشجاعة والكبرياء في مواجهة كافة المشقات، في مواجهة معركة الحياة التي خاضتها وهي مرفوعة الجبين باسمة الثغر، ولنكتب جميعنا عن فيان وعن مسيرتها الحافلة بين صفحات التاريخ الذي سيخلّد ذكراها بأحرف من ذهب. بعد أن تركت في دروب الجبال التي جابتها شبراً بشبر أثراً كبيراً بقدر جمال روحها وشموخها وحبها لها، وأصبحت شمعة تضيء عتمة الليالي المظلمة وتبث في القلوب الدفء والأمان. فيان استذكارك في كل عام يبعث في أعماقنا روح المقاومة وينير لنا الدروب على النهج الذي خلقتِهِ بشرارة نيران جسدك الطاهر.[1]