أرض الأكراد والهوية الكردية
نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو ولحملات التعليم التي مارسها المنتفعون من تلك الاتفاقية على كل ما يتعلق بالأكراد حاضرا وماضيا وثقافة وسياسة صار معظم شعوب الشرق الأوسط لا يعرفون شيئا عن عراقة الأكراد في غربي آسيا، وكأن الأكراد خرجوا من الأرض فجأة أو هبطوا من السماء، وظاهرة الجهل بحقيقة الحضور الكردي في غربي آسيا لا تقتصر على العامة من جماهير الشرق الأوسط وإنما عند الكثير من المثقفين أيضا.
الحقيقة أن الحضور الكردي عريق في تاريخ غربي آسيا وهو استمرار لحضور أسلافهم، وقد اتضح أن وجود أسلافهم زمانيا في غربي آسيا لا يقتصر على بضعة قرون، وإنما يمتد إلى أكثر من 10 آلاف سنة، بدءا من العصر الحجري القديم الباليوليثي (Paleolithic) ومرورا بالعصر الحجري الوسيط الميزوليثي (Mesolithic)، فالعصر الحجري الحديث النيوليثي (Neolithic)، فعصر حضارة حلف (Halaf)، فعصر ظهور الكتابة، فعصر الدول والإمبراطوريات في غربي آسيا قبل الميلاد، فعصر الصراعات الفارسية الرومانية والبيزنطية بعد الميلاد، وانتهاء بعصر ظهور الإسلام، وتأسيس الإمبراطورية العربية الإسلامية.
إن وجود أسلاف الأكراد جغرافيا في غربي آسيا عريق عراقة حضورهم التاريخي، وهم لم يغتصبوا البلاد التي أقاموا فيها من شعب آخر، بل إن شعوبا أخرى كانت تقتحم ديارهم وتحل بينهم وتتسلط عليهم، ومن الأمثلة على ذلك قدوم الشعب الآشوري إلى سوبارتو التي عرفت بعد ذلك باسم آشور، ومثال على ذلك أيضا قدوم شعب السكيث من شمالي البحر الأسود إلى وطن أسلاف الأكراد في شمالي كردستان الشرقية (شمال غربي إيران حاليا)، وتسلط الفرس على وطن أسلاف الأكراد بعد إسقاط إمبراطورية ميديا عام 612 قبل الميلاد، بل إن العاصمة الإيرانية طهران نفسها تقع في ميديا الشرقية قرب المدينة الميدية العريقة رَغَه والمعروفة باسم الري، أما بشأن حلول بعض القبائل العربية والتركمانية في وطن أسلاف الأكراد تحت ظل الخلافات الإسلامية المتابعة فحدث ولا حرج.
إن أرض الأكراد هي -في معظمها- الوطن ذاته الذي عاش فيه أسلافهم منذ فحر التاريخ، وهو على شكل مثلث يشكل جبل أرارات (على تخوم قفقاسيا) رأسه في الشمال، وجبال زاغروس ضلعه الجنوبي الشرقي، وحبال طوروس ضلعه الشمالي الغربي، وتشكل التخوم الشرقية البلاد ما بين النهرين (میزوبوتامیا) قاعدته في الجنوب الغربي، وتقع كردستان بين خطي الطول 30 و40 درجة شرقا، وبين خطي العرض 37 و38 درجة غربا، وتقدر مساحتها بحوالي 200 ألف ميل مربع، أي ما يساوي مساحة فرنسا.
والطابع الغالب على أرض الأكراد هو الطابع الجبلي، وأعلى جبل فيها هو أرارات (قمة آغرى)، ويبلغ ارتفاعه 5158 مترا، ويتراوح ارتفاع كردستان بین 1000 و1500 متر فوق سطح البحر، ويختلف مناخها من منطقة إلى أخرى، ويتصف بتوافر الأمطار شتاء وبالجفاف صيفا، ويتراوح معدل الأمطار فيها بين 200 و400 مليمتر، وتمتاز معظم مناطق كردستان بمصادر وفيرة للمياه، باستثناء بعض المناطق المتاخمة لسهول العراق وللبادية السورية.
وتنبع من جبال كردستان 4 أنهار كبيرة هي آراس، وقزل أوزون، وهما يصبان في بحر قزوين، ودجلة والفرات، وهناك أنهار أخرى، منها الزاب الكبير (الأعلى) والزاب الصغير (الأسفل)، وبتليس (بدليس)، وبوتان، وسيروان، وجغتو، ولذلك تمتاز كردستان بأهمیة كبيرة في مجال الثروة المائية، وسيكون لها في المستقبل دور فاعل بشأن الصراعات على المياه في غربي آسيا، وقد ظهرت بوادر تلك الصراعات منذ أكثر من عقدين بين تركيا وسوريا والعراق على مياه نهري دجلة والفرات، ونظرا لغلبة الطابع الجبلي على كردستان تتوافر فيها مختلف أنواع الأشجار المثمرة وغير المثمرة، كما تتوافر فيها ثروة حيوانية ومعدنية وبترولية متنوعة.
أما التكوين الكردي فهو نتاج الاندماج -عرقيا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا- بين أقوام زاغروس القدماء والأقوام الآرية الوافدة خلال الهجرات الكبرى التي شهدها العالم القديم، وقد مر هذا التكوين بالمراحل ذاتها التي مرت بها بقية شعوب العالم، فكان على شكل جماعات في العصور الحجرية، ثم أصبحت الجماعات قبائل، ثم توحدت القبائل وتجانست ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وانتقلت إلى مرحلة تكوين (قوم، شعب،أمة) عرف منذ ما قبل الميلاد باسم كُرد، وهو تكوين قائم على الجغرافية المشتركة والتاريخ المشترك واللغة المشتركة والثقافة المشتركة، إضافة إلى قدر كبير من التجانس العرقي، وبهذا المعنى يختلف قليلا أو كثيرا عن الشعوب الأخرى.
وقد وضع فرع كَوتى في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد أسس التكوين الكردي، وحدث ذلك وفق قاعدة التحدي والاستجابة التي فسر بها أرنولد تويني في كتابه تاريخ البشرية، وكان التحدي أن أقوام زاغروس واجهت في الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد ظهور دولة أكاد الشديدة الطموح في ميزوبوتاميا، ولم يكف ملوكها عن غزو سكان زاغروس مرة تلو أخرى وتدمير قراهم ومدنهم ونهب ثرواتهم وتحويلهم إلى عبيد يباعون في الأسواق، وكانت الاستجابة أن سكان زاغروس توحدوا تحت لواء فرع كَوتی، وثاروا على إمبراطورية أكاد، وقضوا عليها سنة 2230 قبل الميلاد، وبسطوا نفوذهم على مواطن أسلاف الأكراد، من لورستان جنوبا وشرقا إلى بحيرة أورمية وبحيرة وان شمالا، وإلى تخوم مَلَطيا غربا، وهيؤوا المناخ لانتشار ثقافة متجانسة في تلك الجغرافيا.
ثم واصل الحوريون -بمن فيهم الميتانيون- ما بدأه الكَوتیون بشأن استكمال ملامح التكوين الكردي، فحوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد كان التحدي الذي واجه الأكراد مزدوجا، ففي الشرق تسلطت عليهم مملكة آشور، وفي الغرب تسلطت عليهم المملكة الحثية، وكانت الاستجابة أن تسلم فرع ميتاني الحوري دفة القيادة، ووحد أسلاف الأكراد في تكوين سياسي وثقافي متجانس امتد من كركوك إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وقد سهلت جهود الكَوتیین سابقا على الميتانيين تحقيق ذلك التجانس، وأتاحت لهم تعميم الثقافة الآرية على مجتمعات أسلاف الأكراد في المناطق التي صارت تحت نفوذهم.
واستكمل الميديون ما بدأه الكَوتيون والميتانيون، ففي أوائل الألف الأول قبل الميلاد كان التحدي الذي واجه أسلاف الأكراد يتمثل في عدوان إمبراطورية آشور الشرسة الباطشة، وكانت الاستحابة أن الميديين تولوا قيادة أسلاف الأكراد وثاروا على إمبراطورية آشور وقضوا عليها، وأقاموا إمبراطورية تمتد من حبال هندوكوش في أفغانستان إلى وسط الأناضول، ومن تخوم القفقاس إلى لورستان، وأهم إنجاز قاموا به هو تكريس الهوية الآرية بدلالتها الثقافية في مجتمعات أسلاف الأكراد بشكل نهائي، ولذلك يعتبر الميديون الأسلاف الأكثر فاعلية في صياغة التكوين الكردي جغرافيا وثقافيا وحضاريا.
وبعد أن وضع الملك الفارسي قمبيز بن كورش الثاني وصيته سنة 522 قبل الميلاد مطالبا النخب الفارسية بالقضاء على كل محاولة لإحياء مملكة ميديا تغيّب اسم ميد بقصد تفريغ الذاكرة الغرب آسيوية والعالمية من كل ما يذكر بشهرة ميديا، وكرس الملوك الفرس ذلك التغييب بزحزحة المجتمع الميدي من قلب حركة الحضارة إلى هامش التاريخ عبر تحويله إلى مجتمع ريفي رعوي متخلف همه الأساسي الحفاظ على البقاء، وفي إطار تلك الظروف غاب اسم الميد، وحل اسم الأكراد محله، وانتقل هذا الاسم إلى العهود البارثية فالساسانية فالرومانية فالبيزنطية، ثم إلى عهد الدولة العربية الإسلامية منذ منتصف القرن السابع الميلادي، ومن بعد إلى العصور الحديثة.[1]