جكرخوين .. وشعبه وجهاً لوجه !!
أحمد موسى*
بضعة أيام خلت . كثر على اثني وعشرين عاماً . تلك الأرقام تماماً ، هي الشاهدة الباقية على ذاك اللقاء الأخير بيني وبين جكرخوين الخالد ، حيث لحّن قصيدته العمياء مودعاً ليلته الأخيرة . وعلى الطريقة الكهلة غنّى وحيداً رحلته الغربوية . وفي الطرف الآخر من القصيدة وبمشقة المتشوق بكى شعبه وأرض أجداده المجبولة بدماء الحرية ، من شمالها إلى جنوبها .هؤلاء الذين مازالوا لم يبرموا الهدنة كاملة في عصيانهم . ويثبتون في كل حقبة للمجازر الكثيرة خسارتها غير المنقوصة، في إبادة شعب يحب الجمال وبسمة الأطفال . يا أبن كاردوخ و كلهور لقد تركت لنا أحاديث طويلة تعج بالفراق ، وطيفاً يعتلي أفق كردستان قاطبة .
ربما في هذا اليوم تحديداً أردت أن لا ألتقي بالمتناحرين وجهاً لوجه ! فأتمم فيه حديثاً ، لغيرهم كان قد جرى بيني وبين ابن الهساري لم أبحه بعد . فمازلت أخشى توثيقاً مؤكداً . أننا قد لا نحب بعضنا ! ونضمر ما وجب خنقه منذ أمد . فكيف لي الغوص في محيط تاريخنا المشطوب على يد هواة القتل علناً .
جكرخوين قدرنا الأكيد . يباركنا في كل مرة نجتمع مثل اليوم . نحدّث ماضينا المجيد بتمهّل ، فمن منّا لم يتقاسم مع الراحل دفاتره وأوراقه التي تخصنا جميعاً . هو، الذي خاطب العاطفة والعقل مجتمعين رغم علمه الصوفي البسيط والذي عانى منه الكثير . ففي الأولى : أثبت للكردي أنه ابن ميديا وميتان وحفيد شيركو وصلاح الدين، وفي الثانية خاطب العقل متزناً : فدعا إلى حرق أوراق الانعزال، وتدمير الذات المريضة وتبديلها بالتواضع وإنهاء التبعية المدمرة وتحويلها إلى التواصل الشخصي ، فأمر بتصليب الجهل الحالك ومشتقاته . فقد كان يعلم أن الجسد الكردي أصابه ورم الكسل وتخمة في التخلف المنتفخ حيث نحيا هذه اللحظة .
والذي لابد من القول فيه ، من منّا على قدرك يا جكرخوين الإنسان أولاً وكنت الخارج عن السائد المألوف ثانياً . من منّا لم يحكي حلمك لأبنائه الذي هو،الآن أبعد إلى العين التي تخفي هندسة بحجم الكارثة ! كنت قد قررت أن تؤسس حباً فيما بيننا . وكان اليقين مطلقاً بأن أكرادك في سورية ، كما في غيرها ، لازالوا مادة سهلة لتجريب أسوأ نزوات العنف الشوفيني ضد وجودهم ، وذلك لأنه لم يكن هناك من يحاسب هؤلاء الشوفينين على نزعة الاستئصال . هم لا يخافون من بكاء ضحاياهم . فقط يخافون على الدوام حين يصطدم عنفهم بعنف مضاد أو حين تدرك أن سلطة أقوى منها تمدّ يد العون للضحية . لكننا حتى اللحظة نفتقد إلى يد العون وكذلك إلى العدل والأخلاق . أما الآن بدأنا نهتم أخيراً بأمرنا . فقد نهض هذا الانتباه من واقعنا . أننا الكرد في سورية شرعنا نظهر للملأ ما اختزنته نفوسنا من قهر نتيجة سنوات طويلة من الكبت والقمع والإهمال، والذي بإمكانه أن ينفجر في أية لحظة. ففجر آذاراً دامياً حصد أرواحاً زهقتها آلة القتل . كما أنه ينهض الآن المناخ العالمي الذي بات يشكل نوعاً من السند . ففي العراق بات في وسع إخوتنا الكرد رسم مصيرهم وتحديد مستقبلهم مع العرب دون خوف. ولكن الاكتراث العالمي أخذ ينسحب على أكراد سورية بعض الشيء . كان هاماً أننا قلنا للعالم أجمع أننا موجودون منذ آلاف السنين في هذا الوطن رغم الإقصاء والتنكر اليومي .
أنت الذي صادقت التهور ليلة كاملة تمتحن فيها ثقل حبك لشعبك. فسأله أحد العابرين مرة : كيف نقهر الحقد وليالي إخوتي تنتصر الدهشة فيها على جراحهم النازفة . فسأله تالياً : أما حان للانتظار أن يسئم من حراسة الكراهية وبقايا اللوم .
من منّا لم يهلكه التناحر بعد . فليعلن عن نفسه ؟ فما زلنا داخل عيوبنا نلتقي بعضنا . ونهدر الوقت كله في نزف الأنين المصطنع والوجع المضاهي جغرافية الغربة وغربة في حنين الوطن
ليس مبالغة أن نرمي كل أوقاتنا الحاقدة في أحضان جديدة وبمهارة الغيور على وجوده نتفنن في صناعتها. ونلفظ القول للميديين قسماً : لقد حان الوقت نكاشف الآمنا ،و نفقه وجودنا منذ اللحظة ! ..
في تلك الليلة ترك لنا الخوف !! صورة قدرنا الذي صنعناه بتواضع ،وحشوة طلقة رثة أجهزت على عشقنا للوطن،وجنيناً أخرس لم يمارس رياضة المآسي . وكتاب يعلمنا كيف سلّ الآخرين أزمنتنا وقضايانا يا جكرخوين.
أخيراً وليس آخراً يا جكرخوين ، فقد رسمت أسماً يعلو الصدر وسام شرف ما حيينا . وكتب ترثك ، جعلناها حكماً يومية ندرس بها أجيالنا .
الخلد لراحلنا ...
قامشلو – #04-11-2006#
* عضو في هيئة المتابعة والتنسيق لتيار المستقبل الكردي في سوريا
[1]