الأنا الكردية التائهة بين واقع التشظي و حلم التراص
جان دوست
دور القبيلة
لقد دخل الفرس و الكرد الإسلام في وقت واحد , أما الفرس فقد خسروا إمبراطورية عريقة و سبب لهم الإسلام صدمة كبيرة أدت فيما بعد إلى نهوض وعيهم القومي فتغلغلوا في جسد الدولة الإسلامية و ظهرت الحركة التي سماها العرب (الحركة الشعوبية) و هي الحركة التي كان أساسها الفرس الذين نادوا بفضل العجم على العرب, إذ راعهم أن يتحكم في رقابهم شعب بدوي جاء من الصحراء و يسبي ذراريهم و يحتل أرضهم و يفرض عليهم الإتاوات بينما هم في قرارة أنفسهم سليلوا مملكة عمرها اكثر من ألف سنة.
و في كتاب (الإمتاع و المؤانسة) لأبي حيان التوحيدي نجد صدى النعرات القومية التي برزت كرد فعل منطقي على معاملة الموالي و هم المسلمون من غير العرب و كانوا مواطنين من الدرجة الثانية بالتعبير العصري, حتى أن الجزية كانت تجبى منهم خلافا للشرع الإسلامي الذي يسقط الجزية عن المسلم بغض النظر عن انتمائه القومي.
و نتيجة لصدمة الإسلام استدرك الفرس أنفسهم, فأعادوا أمجادهم الغابرة متكئين على حضارتهم السابقة و تجربتهم الراقية في الحكم و السياسة تلك التجربة التي استفاد منها العرب أنفسهم. و هكذا أرسى الفرس دعائم نهضة قومية شاملة بدأت بإحياء التراث الفارسي بتشجيع مباشر من حكام الدولة السامانية و الغزنوية, و يجد المرء لدى قراءته ملحمة (الشاهنامه) للفردوسي أن الشاعر كتبها بدافع قومي صرف متحسرا على زوال الإمبراطورية الساسانية على يد العرب, و محاولا إحياء الأمة الفارسية من جديد عبر سرد الملاحم و البطولات الأسطورية و تبعه في ذلك قافلة طويلة من الشعراء الفرس الذين احتضنتهم بلاطات الأمراء و الملوك فأثروا المكتبة الفارسية بشكل لم يسبق له مثيل حتى في أيام إمبراطوريتهم الزائلة, و لم يقتصر الأمر على الشعر و الملاحم بل انكب الفرس على ترجمة أمهات الكتب العربية و المصادر التاريخية و لم يكتفوا بلغة القرآن التي اكتسحت ميادين الكتابة و كادت تقضي على اللغات المحلية. و قد شهدت الساحة الثقافية الفارسية العديد من كتب التاريخ و الفلسفة المترجمة من العربية إلى الفارسية و لم تكن الأبجدية العربية الطارئة عائقاً أمام الفرس لتدوين مآثرهم.
أما بالنسبة للكرد فإن افتقارهم إلى تجربة قريبة سابقة في شؤون إدارة الدولة المركزية و عدم وجود حضارة كتابية لديهم, امتص الصدمة الإسلامية , فلم يجدوا في الإسلام و لغته ما يهدد كيانهم الثقافي, بل كان الإسلام بالنسبة لهم غزوا للمراعي و سبيا للذراري و قد قاوموه مقاومة عنيفة من هذا المنطلق, و لم يكن الصراع الكردي الإسلامي صراعا بين ثقافتين مختلفتين بقدر ما كانت - على الأقل من جانب الكرد- صراعا على المراعي الخصبة و هو ما كان يحدث بين القبائل الكردية الكبرى نفسها.
كانت التركيبة القبلية للكرد عاملا من العوامل المهمة التي سرعت عملية احتلال أراضيهم و الاستفراد بهم قبيلة قبيلة و لو أن حركات صغيرة قامت بمبادرة بعض القادة القبليين لتوحيد الصف الكردي و مقاومة الغزو العربي الإسلامي دون أن يحدثنا التاريخ عن البرامج المعلنة لتلك الحركات بعكس ما نجده في حركات مقاومة مماثلة كحركة الزنج و القرامطة وغيرها.
كل ذلك دعا إلى تأخر الوعي القومي أو بالأحرى الحس القومي الكردي إلى فترة متأخرة نسبيا من العهد الإسلامي, و الذي يراقب الخط البياني لحركة الكرد في التاريخ الإسلامي يتلمس بروزهم التدريجي كعنصر فعال في الدولة الإسلامية و المشاركة في رسم أقدارها و مصايرها.و يبدأ ذلك الخط من الصفر إبان ما سمي ب (الفتوحات) فلا نقرأ عن الأكراد إلا كقبائل تقاوم الدين الوافد و الغزاة الجدد, ثم نجد المصادر الإسلامية تتحدث عن تلك القبائل التي يطغى عليها طابع البداوة دون أن تشير لا من قريب و لا من بعيد إلى خصوصيات حضارية تميز هذا الشعب عن غيره , بل على العكس نجد أن الكثير من الرحالة و الجغرافيين قد وافقوا على أسطورة الأصل العربي للكرد انطلاقا من واقعهم البدوي و نمط معيشتهم , ثم نجد أن الحديث يتشعب عن الكرد و تتحدث المصادر عن شخصيات كردية ذات طابع إسلامي و يصل ظهور الأكراد في مسرح التاريخ ذروته بظهور صلاح الدين الأيوبي كشخصية فاعلة على مستوى العالم المعروف شرقا و غربا , وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي. و يلوم كثير من الأكراد حاليا صلاح الدين بل يشتمونه لأنه لم يمتلك حسا قوميا و (لم يفعل شيئا لبني جلدته الكرد) و يرجعون إليه معظم انتكاساتهم التاريخية لأنه تبوأ اكثر المراكز حساسية دون أن يستغلها لصالح الكرد!!! و هم- أي اللائمون- يغفلون عن ظروفه و المرحلة التي جاء فيها و خلفيته الرعوية القبلية و عدم امتلاك شعبه تجربة تاريخية عريقة في الحكم و إدارة الدولة و هو لم يحكم دولته إلا من خلال الاتكاء على التجارب التركية و العربية و الفارسية, و لكن ربما كان لانحداره القومي الكردي اثر فعال في بساطته التي يتحدث عنها التاريخ و شجاعته و كرم أخلاقه و زهده في حطام الدنيا. و قد عاب عليه أحد القواد الأتراك عليه اصله الكردي و قال له حينما كان يمسك بلجام فرس صلاح الدين ما معناه: إنك أيها الكردي لا تليق بهذا المنصب الخطير!!
دور المدينة في التاريخ الكردي
نشأت المدينة الكردية في العهد الإسلامي قبل ظهور الإمارات الكردية, و كان انتقال الكرد من حياة البداوة إلى التمدن تدريجيا و بطيئا, و على سبيل المثال يتحدث الجغرافي ياقوت الحموي في مؤلفه معجم البلدان عن مدينة اربل(هه ولير, اربيل) و يصف أخلاق سكانها بأنها اقرب إلي أخلاق سكان القرى!! و في هذا دلالة واضحة على بدايات نشوء المدينة الكردية ذات الطابع الإسلامي و التي مهدت لنشوء طبقة من المثقفين الأكراد لا يختلفون عن زملائهم من المثقفين الفرس و العرب و السريان و غيرهم من الذين خدموا الثقافة الإسلامية, فقد توسل أولئك المثقفون العربية لغة لإبداعاتهم و تآليفهم و لم ينتبهوا إلى لغتهم الأم كما فعل الفرس إلا متأخرا, و يطلعنا التاريخ على أن القصائد المدحية التي استخدمت في بلاط اكبر دولة كردية في وقتها و هي الدولة المروانية أو الدوستكية, كانت قصائد عربية قوية السبك مما يدل على شيوع العربية لدى الممدوحين من الأمراء الكرد و استساغتهم لها.
و لكن تم تدريجيا تكريد تلك الثقافة التي بقيت إسلامية في شكلها العام , و كانت عملية التكريد بطيئة للغاية بسبب إهمال ولاة الأمور الكرد و عدم وجود مشروع تكريدي عام أو بالأحرى افتقار الكرد إلى أمير أو ملك ذي هاجس ثقافي يتحمل المسئولية التاريخية الملقاة على عاتقه فيقلد على الأقل أمراء الولايات الإسلامية الذين كانوا يغدقون المال على أصحاب القرائح و يشجعون المترجمين و الوراقين فضلا عن الحس القومي الذي جعل بعض الأمراء الفرس يحشون أفواه شعرائهم ذهبا لقول الشعر باللغة الفارسية!!
إن شيوع الثقافة بحد ذاتها و ما رافقها من تدوين و كتابة بين الكرد الذين عاشوا حياة بداوة مستديمة, مهد لثورة هي الأولى من نوعها- على الأقل فيما نعرفه من المدونات التاريخية- في تاريخ الكرد, فلقد بدأ الكرد بعد رسوخ التدوين و ما يرشح عنه بتكريد الدين, خاصة بعد أن اصبح الملا - رجل الدين الكردي- يمسك بزمام الثقافة بحيث احتكر العلم و المعرفة فانكب ينشر تعاليم الإسلام باللغة الكردية -شفهية في البداية- بعد أن رأى الحاجة ماسة إلى ذلك, فلم يكن الأمر إذا خدمة للثقافة الكردية بقدر ما كان نشرا للدين الإسلامي الذي لم يتغلغل في الوجدان الكردي إلا بعد ظهور أولئك النفر .
استقرت الأحوال في المدن الكردية التي كانت قرى كبيرة متضخمة على وجه الدقة. وظهرت بوادر ازدهار أدبي في مراكز المدن التي كانت عواصم لإمارات كردية مثل العمادية, السليمانية, بوطان, بدليس , بايزيد ..........إلخ و انطلق الشعر أولا و إن كنا لا نعرف إلى الآن من هو أول من كتب الشعر باللغة الكردية .
من ثم برزت الحاجة إلى تكريد الدين و تعليم العربية بالكردية فظهرت كتابات الخاني و النودهي و آقتبي و كثيرين غيرهم ممن يمكننا تسميتهم لاهوت التنوير, إذ لم يكن هؤلاء مجرد شراح للإسلام أو دعاة لتعليم العربية, بل كان الهم القومي يلقي بظلاله على كتابات هؤلاء الرواد الذين احتكوا بثقافات الشعوب الإسلامية الأخرى و هي الثقافات التي لم تكن بالضرورة ثقافات دينية.
و لعلنا نستأنس بحادثتين مشهورتين متطابقتين في تاريخ الأدب الكردي تدعمان مزاعمنا في أن الكرد لم يتمكنوا من الانخراط في عمل ثقافي كبير بسبب تأصل البداوة فيهم و إيغالهم في نمط الحياة الرعوي, الحادثة الأولى تتعلق بالصداقة المثمرة التي جمعت بين المثقف الكردي الملا محمود البايزيدي و القنصل الروسي في ارضروم العثمانية الكسندر جابا.
فقد أثمرت الصداقة بين الرجلين و التي أرى فيها نموذجا رائعا لتلاقح العقلية المتنورة الفاعلة(جابا) و العقلية المتنورة المنفعلة (بايزيدي) عن نتاجات رائعة تمثلت في أول ترجمة للشرفنامه إلى الكردية و هي أول عمل في مجال الترجمة إلى الكردية حتى الآن. و كذلك القاموس الكردي الفرنسي الذي أعده جابا بمساعدة بايزيدي و كتاب عادات الأكراد و تقاليدهم الذي ألفه بايزيدي باللغة الكردية و بتأثير واضح من جابا , و كذلك الرحلات التي قام بها الصديقان بحثا عن كنوز الأدب الكردي فيما يعتبر أول عمل من نوعه في التاريخ الكردي على حد علمنا.
أما الحادثة الثانية فتتعلق بالصدفة التاريخية الرائعة التي جمعت بين المستكرد الألماني اوسكار مان و الطالب الكردي الشاب جواد قاضي في مسجد مهاباد الأحمر المشهور, و للمرة الثانية يثمر تلاقح العقلية الأوروبية الفاعلة (مان) و العقلية الكردية المتنورة المنفعلة(جواد) عن مشروع لإحياء التراث الشفوي الكردي تمثل في كتاب التحفة المظفرية الذي جمع فيه اوسكار مان روائع الملاحم الكردية مستفيدا من دروس اللغة الكردية التي تلقاها على يد تلميذه النجيب جواد قاضي.
و ما غايتي من إيراد هذين المثالين إلا لأقول : إن المستكردين المذكورين لعبا دورا في تحريض العقل الكردي المهيأ دون شك للقيام بمهمته الثقافية التاريخية في جميع العصور و الأزمنة, و لكن المشكلة كانت في المحرض الخارجي الذي يخرج الطاقات من مكامنها و كان يتمثل قديما بل و يتمثل حديثا أيضا في القواد و الملوك و الحكام. إن البايزيدي و كذلك جواد قاضي ما كانا في اعتقادي ليفكرا من تلقاء نفسهما بالبحث و التنقيب عن الكنوز الأدبية الخالدة, فهذا يتطلب حسا أكاديميا رفيعا كان يفتقر إليه المثقفان الكرديان مع انهما كانا يمتلكان مؤهلات و قدرات لا تقل عن قدرات صديقيهما!
إن جواد قاضي و كذلك البايزيدي نتاج المدينة الكردية التي أصبحت بؤرة لثقافة كردية ناشئة سرعان ما تطورت في الجنوب, بينما-و للأسف الشديد- تعرضت لنكسة الكمالية في الشمال فلم تقم للثقافة الكردية قائمة إلا في السنوات الأخيرة.
إن المدن الكردية مثل هه ولير(اربيل) و شهرزور (السليمانية) و العمادية و غيرها من التي تحدث عنها الجغرافيون المسلمون أصبحت فيما بعد نوى لمجتمعات مدنية ساهمت في انتقال قسم من المجتمع الكردي من حالة البداوة التي كان يستحيل معها بروز أدب مدون إلى الحضارة, و ظهرت إمارات تعتصم بمدن مثل ميافارقين و العمادية و بدليس و سنندج و رواندوز...........إلخ.
لكن تلك الإمارات - بنظامها السياسي و الاجتماعي- كانت نماذج مكبرة عن القبائل فلم تستطع أن تلتف حول فكرة موحدة جامعة, بل تصارعت فيما بينها و نشبت حروب طاحنة بين إمارتي البابان و أردلان و إمارتي هكاري و بهدينان و تمكنت القوى الكبرى المسيطرة و التي ترسخت لديها التجربة السياسية في الحكم و إدارة الولايات من تغذية الحروب المحلية بين الإمارات الكردية مستفيدة من التنوع القبلي و توزع الولاءات و غياب الفكرة الجامعة .
و حينما جاد التاريخ الكردي بطفرات مثل المؤرخ شرفخان البدليسي و الشاعر المفكر احمد الخاني الذين دفعهما الحس القومي و فهم آليات التاريخ إلي المناداة بتوحيد القبائل و بناء دولة مستقلة, وجدنا أن الأمراء الكرد لم يصلوا إلى مستوى وعيهم السياسي فيترجموا آراءهم النظرية إلى واقع ملموس و يتبنوها, و يبدو أن الوحدة الكردية كانت هاجسا للآخر قبل أن تكون هاجسا للأنا الكردية التائهة حيث نجد أن الشرفنامه تنقل عن مؤرخ الدولة العثمانية قوله: إن بقاء الكرد غير متحدين هو دعوة النبي محمد عليهم بعدم التوحد لأن في الوحدة الكردية هلاك العالم!!! هامش: و الآن فيها هلاك العالم, طبعا العالم الذي هو عبارة عن الدول التي تقتسم كردستان و ثرواتها.
إن القبيلة الكردية بولاءاتها الزئبقية و قابليتها السريعة من معسكر إلى معسكر مضاد, وفي ظل غياب نظرية جامعة هي في اعتقادنا السبب الرئيس في عدم تمكن الكرد من الانصهار في كيان متماسك منسجم, و باعتبار القبيلة عماد المجتمع الكردي فقد لعبت دورا سيئا للغاية في جميع الثورات الكردية, إذ كان ولاء إحدى القبائل يتغير فجأة لصالح الأعداء فيؤثر سلبا على مصير ثورة برمتها, وربما كان تغير الولاء يجهضها بعد أن تكون على وشك الانتصار كما حدث في انتفاضة عبيد الله النهري سنة 1880 , و كذلك عندما سحبت قبائل كبيرة دعمها لجمهورية كردستان في مهاباد سنة 1946مما أدى إلى التعجيل بسقوطها(دون أن نغفل أثر الظروف الدولية و النفط و الصراع السوفييتي الأمريكي). كذلك لعبت القبيلة كتركيبة اجتماعية مرتبطة بزعيم أوحد أثرا سلبيا في ثورة الشيخ محمود الحفيد سنة 1919(عشيرة الهماوند) و في ثورات بارزان المتلاحقة حيث قامت الحكومة المركزية ببناء تشكيلات قبلية سمتها الفرسان (الجحوش)..... إلخ.
إننا نجد أن المفاهيم القبلية و تجذر الوجدان الرعوي في لاوعي السياسيين قد سبب ارتكاسات عميقة في المجتمع الكردي الحديث كالذي نلاحظه في حالة الانشقاقات الحزبية المتلاحقة في كردستان الجنوبية الغربية و مثل الذي لمسناه في ظاهرة الاقتتال الأخوي (براكوزي) في تسعينيات القرن الماضي, و من المؤسف أن يتعمق الولاء للقبيلة في ما يشبه ردة جماعية لدى كثير من مثقفينا الحاليين خاصة في بهدينان فيعرفون أنفسهم بإضافة أسماء عشائرهم إلى أسمائهم (دوسكي, مزوري, سليفاني, برواري, ........إلخ) على العكس من النخبة الثقافية من الكتاب و الشعراء الكلاسيكيين الذين كانوا يحبذون الانتماء الى المدن و يمثلون و هم ابناء تلك القرون حالة متقدمة على عصرهم(ملاي جزري, شرفخان بدليسي, محمود بايزيدي, حاجي قادر كويي, علي أكبر كردستاني....إلخ).
لقد انتبه الآخر- و هذه مفارقة تدعى أحيانا سخرية القدر- إلى أهمية توحيد القبائل الكردية بهدف جعلها قوة إقليمية كبيرة تستطيع الدفاع عن مصالحه و عمد إلى تبديد تلك الوحدة في الوقت المناسب. وهكذا فقد سمح السلطان العثماني سليم الأول بل أمر الشيخ إدريس البدليسي بتوحيد القبائل الكردية و ضمها إلى جيوش العثمانيين التي كانت تتأهب لمحاربة الصفويين, و بالفعل فقد ساهم اتحاد القبائل الكردية في إحراز النصر المدوي للسلطان سليم على خصمه الصفوي الشاه إسماعيل في معركة جالديران سنة 1514 م , و يذطر شرفخان أن السلطان سليم طلب من إدريس البدليسي تنصيب زعيم للاتحاد القلبي الذي قام بتأسيسه فقال له إدريس: إن هؤلاء الأكراد لا يطيع بعضهم بعضاً فليكن القائد من غير بني جلدتهم!! (لا ننسى بالطبع أن قبائل كردية كانت تشارك الصفويين على الطرف الآخر). و يروى أن والدة السلطان بايزيد سألته حين رجوعه من إحدى حروبه مع الصفويين: لماذا تركت الجبهة و جئت؟ فقال: لقد أقمت بيني و بين الصفويين جدارا لا يستطيعون اختراقه. فاستغربت أمه و قالت: و كبف ذاك و الحدود بينك و بينهم طويلة جدا؟ فأجابها: إن الجدار الذي أقصده هو من لحم و عظام, جدار من قبائل الأكراد!!!
و قد أشار خاني بمرارة في مقدمة رائعته مم و زين إلى هذه الظاهرة التي تسم الكرد منذ القديم و هي الاتحاد في ظل قوى غريبة و عدم الاتفاق فيما بينهم, و كذلك أشار البايزيدي إلى هذه الظاهرة في كتابه عادات الأكراد و تفاليدهم.
و اليوم و قد دخل الكرد الألفية الثالثة و هم على ما هم من الفرقة و التشظي ليس فقط إلى قبائل و بطون و أفخاذ, بل إلى أحزاب و جماعات متناحرة بات أمر( إزالة العقلية القبلية من برامج الساسة و المثقفين الكرد و السعي إلى بناء استراتيجية وحدوية هدفها صهرهم في بوتقة واحدة لا من منطلق شوفيني عنصري, بل من مبدأ توفير التجانس بين الكرد بجميع فئاتهم) ملحا جدا.
اسئلة المصير
لقد بينا في ما مضى عبر سرد خاطف دون الدخول في التفاصيل أثر الإسلام في لملمة شظايا تلك الأنا التائهة , كما ادعينا افتقار الأكراد إلى حضارة كتابية سابقة للإسلام , و كنا نعرف سلفا أن أفكار المقال ستستفز كثيرا من القوميين الفلوكلوريين المؤطرين بالوهم و المصابين بعقد الفوقية و تضخم الذات , من الذين يعيشون على أمجاد تاريخية أسطورية , و يعيشون ليل نهار في ذكرى فراديس مفقودة . وإننا سنتابع رصد حالة الأنا الكردية في الواقع الراهن و بيان طرق توحيدها , و سنعمد إلى تفجير أسئلة برسم الإجابة عليها من كل من يهمه الأمر . و ما الغاية من طرحها سوى إثارة العقل الكردي الذي ينعم بترف السبات التاريخي , و ينام على سرير من عسل الكسل الفكري . و إذا كان بعض الفلوكلوريين قد اتهموني سلفا بالجهل بالتاريخ , فقد قالوا نصف الحقيقة , نعم إنني أجهل بل أتجاهل التاريخ الذي يصورني بطلا و فارس الشرق و أسطورة الجبال , كما أجهل بل أتجاهل التاريخ الرومانسي الذي كتبته رغباتنا و أدعو إلى كتابة تاريخ واقعي حقيقي يخلع عباءة القدسية عن الأبطال و الوقائع و يضع نصب عينيه تاريخا للبشر و ليس سيرة للأنبياء , أدعو إلى تاريخ علمي يفسر بقاء الأكراد دون دولة مدة طويلة , و ليس تاريخا يعمد التفسير المؤامراتي , و يؤكد على وجود جرثومة خارجية تمنع وحدة الكرد .إننا نسأل و في السؤال حكمة الشعوب و محنتها : كيف ندخل الألفية الثالثة بأبجديات مختلفة ؟ و لغات كتابة متعددة ؟ ما هي حقيقة المدونات التي ندعي أنها أحرقت على يد المسلمين ؟ و إذا كان الأمر كذلك أين هي المدونات من عهد الإمارات الكردية الحرة ؟ أين كتب الدولة المروانية و الشدادية و البدرخانية و...و...؟ ما هي علاقتنا بتراثنا ؟ هل استوعبناه فنتخطاه ؟ أم نجهله فعلينا العودة إليه ؟ ما هي علاقتنا بالإسلام و حضارته ؟ هل نلغيه من وجودنا و نشطب على آثاره المدونة في الفترة الإسلامية ؟ أين هي الزوارق التي تصل بين جزرنا الثقافية المنعزلة ؟ هل نلوم حواجز الجغرافيا التي تفرقنا أم نبحث عن حواجز نصبناها في دواخلنا و تمنعنا من التواصل ؟ لماذا توجد انقطاعات معرفية على أكثر من صعيد ؟ كيف نعالج الإنقطاعات المعرفية العمودية ( بيننا و بين تراثنا ) و كيف نلغي الإنقطاعات الأفقية ( بيننا و بين النتاجات من لهجات أخرى معاصرة و مزامنة لنا ) ؟ أين هي نظريتنا الكردية القومية الجامعة ؟ و على ماذا تعتمد ؟ هل العراقة التاريخية التي نتبجح بها كافية لإحقاق حقوقنا ؟ أليس لأمة حديثة العهد حق في الوجود ؟ ما هو موقعنا الحضاري اليوم ؟ دعونا من حديث كاوا و رستم الذين لن يردوا عنا ذبابة واحدة أو نسمة من غاز مسموم يلقيه علينا مجنون جديد ؟ أين هو التاريخ الكردي من سقوط ميديا إلى سقوط المدائن ؟ و إلى متى ستكون عبارة ( مع الأسف ) شعارنا في كتابة التاريخ ؟ لماذا انتعشت ثقافة فارسية متأسلمة في حين لم تظهر مثيلة كردية لها إلا في عهد متأخر ؟ ما هي حواضرنا و مدننا و مراكزنا الحضارية قبل الإسلام ؟ ماذا تفعل المعاهد الكردية المتناثرة في طول أوربا و عرضها ؟ و ما هي الحلول التي إقترحتها للمشكلات العويصة في الثقافة كالأبجدية مثلا ؟ و ما هي إنجازاتها على صعيد اللغة الكتابية الموحدة و قواعدها ؟ أين هو المجمع العلمي اللغوي الذي يديره علماء لغة و ليس هواة لا يفرقون بين الحبل و الجبل ؟ متى تتحد الأشهر الكردية و تتفق المؤسسات و الأحزاب على أشهر موحدة قبل أن تتحد هي ذاتها ؟ من يمثل الأكراد في الأمم المتحدة و المحافل الدولية الأخرى ؟ إنها أسئلة المصير ... أسئلة الذات القلقة المتشظية المتناثرة في دروب جغرافيا المكائد , و تاريخ التيه , الأنا التي يجب أن تفكر لنقول عنها : إنها جديرة بالوجود.
[1]