ذكرياتي عن حريق سينما عامودا...
دهام حسن
أن تكتب عن حريق سينما #عامودا# ، يعني أن تحكي، أو تشهد على مأساة، لفت البلدة الصغيرة الوادعة، فأغرقتها عن بكرة أبيها بفاجعة لم يسلم منها أي بيت، أو أي طائفة، (ففي كل بيت رنة وعويل)..
مآتم جنائزية، وبالجملة، صراخ الآباء، وعويل الثكلى الفواجع على البراعم التي ذبلت، وقضت بالنار، فتم قطافها قبل أوان تفتحها وإزهارها.... فلنعد إلى بداية الحكاية، وسأرويها كشاهد، متوخيا الوضوح والصدق، غايتي مقاربة الحقيقة ما أمكن، رغم أن الحقيقة تبقى يكتنفها الغموض، وأعلم أنني بهذا سوف أثير حفيظة البعض ضدي، ولكن لا بأس، ولا أخفيكم أني ترددت في البدء، في الحديث أو الخوض في هذه المسألة، على ما لفها من أقاويل وحكايات وغموض
ويبقى حديثي هذا شهادة غير مكتملة، وأهالي عامودا الذين عايشوا المأساة بإمكانهم أن يقولوا الكثير، ويحصروا المأساة في دائرة حجمها، من دون مبالغة، ومن طرفي لم أحاول أن أستجلي آراءهم، واكتفيت بشهادتي غير المكتملة، تاركا للمعنيين،أن يسعفوها بسد الثغرات، ويردموا الفجوات إن رغبوا أن تكتمل المسألة..! فلنعد إلى البداية من جديد....
جاب بعض المكلفين، مدارس عامودا، مدرسة تلو مدرسة، داعين التلاميذ للذهاب إلى السينما الوحيدة في المدينة، يحسسونهم بواجبهم تجاه ثورة الجزائر، فريع الدخول للسينما، كان مخصصا لدعم ثوار الجزائر، وكنت كفتى شغوفا بالسينما، ولكن إحساسي السياسي، شدني ألا أسارع لقطع التذاكر من أيدي هؤلاء المكلفين الذين جالوا بين المدارس، مع تعاطفنا الشديد مع ثورة الجزائر حينها، كما أن البلدة بالذات ارتدت الطابع اليساري آنذاك، والحركة السياسية الكردية كانت نشطة، لكنها حديثة الولادة، فلما يمض على تأسيسها سوى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، فقد ظهرت الحركة كأول تنظيم سياسي كردي في صيف عام 1957وجاء حريق السينما في خريف عام 1960 ... تناولت ليرة من سلمان أبو زيد ، (أبو عنتر) وهو من أخوالي، لأقطع التذاكر لأربعة منا، حيث كانت قيمة البطاقة بربع ليرة سورية، ولما لم يجاورني قاطع التذاكر، فأنفت أن أمضي إليه، وما أن أدبر خارجا حتى ناولت الليرة لخالي، وقلت لن نذهب للسينما...
في أمسية ذلك اليوم ربما من خريف عام 1960 باغتنا الفتى مهدي إسماعيل ملا أحمد، يقتحم علينا الغرفة، هلعا مضطربا كالمجنون، وكنا في دار عمه (علي ملا) قائلا بالترجمة الحرفية لمعنى قوله: احترقت السينما، الكل احترقوا، ونجوت وحدي..! وقع النبأ كالصاعقة علينا جميعا، لاسيما أن داود وشقيقه يحيى ابني (علي ملا)، كانا في السينما، وقريبهم سعد الدين العابد (هوالآن طبيب نسائية في مدينة الحسكة) ، فهرعنا باتجاه السينما راكضين، حتى بلغناها، وكان قد قضي الأمر، حيث أتت النيران على كل شيء ، وتهدم مبنى السينما، لمحت جثتين أو أكثر مفحمة، يتفحص رجلان إحدى الجثث، ويتكهن أحدهما لمن تكون الجثة، كانت المياه قد غطت المكان، فشعرت برعدة كهربائية (كونتاك) ويبدو أن سيري في المكان حيث الماء، كان سبب هذه الرعدة ...
ولا يفوتنا هنا من أن نتذكر، أحد رجالات عامودا الشهام، وهو (محمد سعيد آغا الدقوري) الذي ما أن سمع بشبّ الحريق، حتى جاء السينما واقتحم من الباب إلى داخل صالة عرض الفيلم، لينقذ ما يمكن إنقاذه، لكن الحريق كان شرها نهما، فلم يمهله إلا قليلا، حتى تهاوى البناء، فسقط هو أيضا شهيدا الشهامة والشرف والكرم ، ومن وحي هذه المناسبة وددت أن أعطر صرح قبره بهذه الأبيات الثلاثة :
حباك الدهر مجدا لا يدانى ففي الدارين كنتم مشتهانا
محمد كنت في الدنيا رئيسا فجئت الخلد ، أسلمك العنانا
فعا مودا بما فجعت تراﮪا بثوب الزهو تحيي مﮪرجانا
كان العويل لا ينقطع، والناس يمضون أرتالا باتجاه السينما؛ من الأصوات لا زلت أذكر صوتا، ذا نبرة خاصة مميزة، يبتهل إلى الله بالدعاء، هو من بيت (وضحية خاتوني)، نسيت اسمه، وكنت أعرفه بالوجه وبالاسم، على العموم هو معروف من قبل أهالي عامودا جميعهم؛ صوت آخر شدني كان يصرخ باسم ابنه (ناصر، ناصر) الذي قضى كأحد ضحايا الحريق، فقيل لي فيما بعد أنه رئيس مخفر للمكافحة، قبل أيام قال لي أحدهم عندما زارني في البيت خرجت من السينما مرعوبا فحملني شرطي، حتى استدل عليّ أخي، ولم يسلمني إياه إلا بعد أن سألني فيما إذا كان هذا أخي أم لا.؟
شهد صباح اليوم التالي زخات من المطر الخفيف، وكانت رائحة (الشيّ) المنبعثة من الجثث التي تم حملها ونقلها إلى المساجد، ليتعرف عليها أصحاب الضحايا، كانت الرائحة تصدم الأنوف، هكذا تهيأ لي، ربما آخر يقول غير ذلك.. كانت الضحايا من كافة الطوائف الاجتماعية، (أكراد، عرب من الخواتنة خاصة، من المسيحية اثنان أحدهما قضى حرقا والثاني مات خنقا، مردنلية، محلمية، وبتسميات وبألقاب أخرى كثيرة، وهم من أبناء كافة الأطياف السياسية، كانت الأكثرية المطلقة من الضحايا أكراد، لأن عامودا بغالبية سكانها الساحقة أكراد،لا تقل نسبتهم عن 95 بالمئة من تعداد السكان، بمن فيهم الموظفون والشرطة، من خارج المدينة...
جاء وفد من دمشق، فجاب المقابر حيث دفنت الضحايا، وكان يتنقلون من مكان إلى آخر، وقتها لمحت فتى يافعا، حديث السن، ومعه بضعة شبان في سنه، وفي مقربة من الوفد، لاحظته يهتف والآخرون الذين رافقوه يرددون وراءه ما يقول، كان ينادي بهذه العبارة: نطالب بتحقيق عادل، كررها غير مرة وفي أكثر من موقع، وحمّل جمال عبد الناصر، أو من يمثلونه أسباب الحريق، والوفد يصغي دون أن يمنعهم... كان هذا الفتى هو المرحوم عصمت سيدا.. وأذكر أنني قرأت عبارة مؤثرة على شاهدة قبر تقول: (أنا وأخي في قبر واحد) سمعت عن مساعدات مالية، وصلت البلاد مقدمة من دول العالم ، لكن ما سلمت لذوي الضحايا، كانت مبالغ جدا زهيدة، بحيث لا تذكر...
تعليق وشهادة غير مكتملة:
مبنى السينما، لا يمتلك مواصفات صالحة لأن يكون دارا للسينما، فهو صغير، ومبنيّ من طين، ألبس المبنى من الداخل من كافة جوانبه، بأردية وستائر دون ترتيب، ربما للتغطية على العيوب، أو لتعطي جمالية، وربما لشيء آخر؛ سقف البناء من خشب بأسانيد عوارض حديدية، تطلق عليها بالكردية لفظة (د مّر) وهي من بقايا عواميد سكك القطار الحديدية؛ باب المدخل لصالة العرض يعلو عن الأرض، فتكون بالتالي أرض الغرفة من الداخل منخفضة، الباب مؤلف من درفتين، المحرك (الموتور) يبدو أنه كان بحاجة إلى تفحص، إن لم يكن بحاجة إلى صيانة، عمل بتواصل دون توقف، وفوق طاقته، صاحب السينما ما زلت أذكر اسمه هو ( أحمد حسنات) ثم قيل لي يشاركه شخص آخر هو (عزو ماكو) العامل أو المشرف على تشغيل الفيلم اسمه (قيا) ولم يشك بهؤلاء أحد، الشرارة الأولى كانت كفيلة بالتهاب القاعة كلها نارا وحريقا وموتا، هلع الصبية ورعبهم الشديد، وتدا فشهم وتساقطهم على باب المدخل كان سببا في سدّ الباب بدرفتيه، المبنى تهاوى سريعا، عدد الضحايا كبير، والمصاب جلل وعظيم، لكن رغم هذا كانت هناك مبالغة في العدد، وأهالي عامودا وحدهم، قادرون على حصر العدد، الحالة السياسية لم تستدع قيام جهة ما بفعل إجرامي بهذا الحجم، الحكم الناصري لم يكن محبذا لدى الغالبية العظمى من السكان.... لكل هذا ولغيرها من الأسباب، أقول مرجّحا، إن الحريق كان قضاء وقدرا وليس بفعل فاعل، أو برصد وتصميم من أحد، بالطبع أنا لا أستطيع أن أدين أحدا كما لا أستطيع أن أبرئ أحدا... ولكن ما أسوقه هنا من رأي، هو نابع أساسا من عقلي وضميري ومشاعري وإحساسي فحسب ..!
[1]