تاريخ وهوية مدينة گر-چتل مهد صناعة مادة الخبز
الحلقة الثالثة – بيار روباري
Dîrok û nasnameya bajarê Gir-çetel dergûşa pîşesaziya nanê yekem
دراسة تاريخية
الفصل الرابع
أثار مدينة گر-چتل
Kevneşopên bajarê Gir-çetel
تعد مدينة “گر-چتل”، التي تتمتع بتراث ثقافي يصل عمره إلى نحو (9000) تسعة آلاف عام، مستوطنة كبيرة جدآ من العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي. وما يميزها عن سواها من مستوطنات العصر الحجري الحديث، هو أنها تجاوزت مستوطنة القرية وإنتقالها لمرحلة التحضر أي المدينة. بالإضافة إلى ذلك، تم إدراجها كواحدة من المجتمعات الزراعية الأولى، في قائمة التراث العالمي من قبل منظمة التراث والثقافة العالمي يونسكو في العام (2012). دعونا نغوث معآ في عصر مدينة گر-جتل الحجري الحديث.
تعد مدينة “گر-چتل”، مثالآ نادرآ جدآ لمستوطنات العصر الحجري الحديث ومحفوظة جيدآ لليوم، وقد تم إعتبارها أحد المواقع الرئيسية لفهم عصور ما قبل التاريخ البشري لعدة عقود. من الناحية التاريخية تعد مدينة إستثنائية بإمتياز، نظرآ لحجمها الكبير وطول عمرها كمستوطنة بشرية، هذا إضافة إلى التصميم المميز لمنازلها المتتالية مع إمكانية الوصول إلى السطح، ووجود مجموعة كبيرة من الميزات داخل هذه البيوت، بما في ذلك اللوحات الجدارية والنقوش التي تمثل العالم الرمزي للسكان. وبناءً على الأبحاث وعمليات على نطاق واسع في الموقع، فإن الميزات المذكورة أعلاه تجعلها أهم مستوطنة بشرية وثقت لنا الحياة الزراعية المستقرة المبكرة لمجتمع العصر الحجري الحديث.
لقد قدمت مدينة “گر-چتل”، لنا شهادة فريدة من نوعها عن فترة من العصر الحجري الحديث، حيث تم إنشاء أول المستوطنات الزراعية في وسط شمال غرب كوردستان وتطورت على مدى قرون من القرى إلى المراكز الحضرية، على أساس مبادئ من المساواة إلى حد كبير جدآ. وتم الحفاظ على المبادئ المبكرة لهذه المستوطنات بشكل جيد من خلال التخلي عن الموقع لعدة آلاف من السنين. وهذا ما يمكن قرائته في مخطط المدينة والهياكل المعمارية واللوحات الجدارية وشواهد الدفن. توفر طبقات المدينة التي تصل إلى (18) ثمانية عشر طبقة، معلومات إستثنائية عن التطور التدريجي لهذه المدينة وإعادة تشكيل وتوسيع المستوطنة.
تم بناء المنازل بشكل متقابل، وكان الأشخاص الذين يعيشون فيها يتنقلون من فوق أسطح منازل المدينة ويدخلون منازلهم من خلال فتحات في الأسطح، وينزلون إليها عبر السلالم. وبنوا أفران مشتركة فوق منازل “گر-جتل” ولا شك أنهم أقاموا أنشطة إجمتاعية في هذه المساحة على السطوح كالأفراح مثلآ والإجتماعات والصلوات وغير ذلك.
المدينة تتألف من تلتين تشكلان معآ ما مساحته (37) هكتارآ، وتحتوي التلة الشرقية الأطول على (18) ثمانية عشر مستوى من العصر الحجري الحديث بين (7400-6200) قبل الميلاد، بما في ذلك اللوحات الجدارية والنقوش والمنحوتات وغيرها من السمات الرمزية والفنية. كل تلك الأثار تتحدث عن تطور التنظيم الاجتماعي لمجتمع مدينة گر-جتل والممارسات الثقافية له وكيف تمكن سكانه التحول من مرحلة جني الثمار والصيد إلى مرحلة الإستقرار والعيش من الزراعة، وبناء مدينة بدائية ذات طابع خاص.
أما في التلة الغربية فنجد تطور الممارسات الثقافية من العصر النحاسي، إستمرت بدءً من العام (6200) وحتى العام (5200) قبل الميلاد. وقدمت مدينة گر-چتل الأثرية، لنا دليلا هامآ على التحول من مجتمع القرى المستقرة إلى التجمعات الحضرية، والتي ظلت موجودة في نفس الموقع لأكثر من (2000) ألفي عام.
1
وتتميز هذه المدينة بنوع فريد من المنازل المتجمعة من الخلف إلى الخلف مع إمكانية الوصول إلى سقف المباني. هذا النوع من القرى والبيوت إنتشرت لاحقآ بكثافة في كل من جنوب وشرق وشمال كوردستان وخاصة في المناطق الجبلية وبشكل أساسي في منطقة هورامان.
تتكون المدينة بمقاييس ذاك العصر من مجموعة غير منتظمة من المنازل رباعية الأضلاع مؤلفة من غرفة معيشة وغرفة تخزين، مبنية من الطوب اللبن على أساس من الطوب. كما يوجد مزار مستطيل الشكل لكل أربعة أو خمسة بيوت. والوصول إلى المنازل كان يتم من خلال فتحات في السقف بالسلالم. تحتوي كل غرفة معيشة على منصتين (أريكتين)، مُلصقتين أحيانآ بالألوان، يُدفن تحتهما الموتى، حيث ينام الناس ويأكلون ويعملون. وإكتشف العلماء في تلك الغرف بعض حصائر مصنوعة من القصب وممدة على أرضيات الغرف للجلوس عليها، وهذا تطور مهم.
يصل إرتفاع تلتي المدينة إلى حوالي (20) عشرين مترآ فوق السهل الوسيع الذي يحيط بها من كل جهة، والموقع يقع على هضبة من هضاب شمال غرب كوردستان. وأهم إكتشاف في موقع المدينة هو نمط بناء منازلها بحد ذاتها، إضافة للرسوم الجدارية والأفران وطرق التعامل مع مواتهم ودفنهم. هذا إضافة لإكتشاف العظام البشرية في الموقع، والعظام الحيوانية وقرون الثور الضخمة والسلالم.
أهم علامة تميز مدينة “گر-چتل” هي خلو المدينة وأحيائها من الأزقة والشوارع والممرات، وهذا أمرٌ نادر وله مبررته حينذاك وسنأتي على تلك المبررات لاحقآ. المنازل كان يمكن الوصول إليها من خلال السقف، ومنازل المدينة أكدت أن بيوتها موزعة بشكل محدد ويكشف أنها بنيت وفق ترتيب إجتماعي واضح، حيث تساوت حجم البيوت، وهذا يعني غياب الطبقية الإجتماعية التي ظهرت بشكل واضح في المجتمعات الخورية اللاحقة. وهذا يعني أن مفهوم المساوة كان سائدآ بين سكان المدينة التي تراوح عددهم بين (8000-9000) ألاف نسمة. وبمقاييس تلك الحقبة الزمنية تعتبر مدينة كبرى. وعثر علماء الأثار الذين نقبوا في موقع المدينة، على أفران لتعدين السج والصوان وتحضير الأصبغة، كما عثروا على قطع من الفخار والأواني المنزلية المختلفة في الطبقة العاشرة ويعود تاريخها إلى حوالي العام (5900) قبل الميلاد. هذا إضافة للسكاكين، رؤوس الحربة، المرايا المصنوعة من حجر السج، والأواني الحجرية، والخرز المصنوعة من الأحجار شبه الكريمة والمصبوب من النحاس أو الرصاص ومنتجات المنسوجات المنسوجة بدقة. وهذا يدل على مدى مهارة حرفي مدينة گر-چتل والتقنية العالية التي وصلوا إليها في تلك الحقبة الزمنية القديمة. هذا إلى جانب صناعة المعلقات، المنحوتات الحجرية، الخشبية، هذا إلى جانب التماثيل الدينية التي مثلت ألهتهم، وأدوات إستخراج الزيت من الجوز واللوز.
كما عثر علماء الأثار في موقع المدينة على العديد من التماثيل، وأشهرها تمثال امرأة ضخمة، تجلس
على قطتين كبيرتين بينهما تماثيل، بشرية وحيوانية، مصنوعة من مجموعة متنوعة من المواد، ولكن النسبة الأكبر منها صغيرة جدآ ومصنوعة من الطين. وجدت غالبية هذه التماثيل في حفر وفي جدران الأفران والمنزل وأرضياتها. والعديد من هذه التماثيل تعرضت للأسف للطعن أو الخدش أو كسر ما، ويعتقد علماء الأثار أن هذه التماثيل كانت بمثابة رموز الرغبات أو لدرء الأرواح الشريرة عن سكان وأهل المدينة، بمعنى كانت جزءً من عقائدهم وإيمانهم.
كم تم العثور في أحد منازل المدينة على قطع أثرية وجدرايات ومصطبات وقرون حيوانات إضافة إلى عظام موتى مدفونين تحت المصطبات التي كانوا ينامون عليها في غرفهم الرئيسية للمنزل.
ومن الواضح أن سكان المدينة كانوا يقومون بتجديد غرفهم الرئيسية كل عدة أشهر أو فصل، والمقصود
بالتجديد جص الغرفة.
ولاحظ الباحثين والمنقبين في موقع المدينة، أن الصور الهندسية المجسدة على جدران الغرف الرئيسية ذات طابع ثنائي الأبعاد، وإستخلص الباحثين أن ذلك له علاقة مباشرة بالموتى الشباب الذين تم دفنهم في الجوار.
2
والإكتشاف الأكثر أهمية وإثارة برأي علماء الأثار الذين نقبوا في موقع المدينة، هو إكتشاف قطع من الخبز الغير مطهو في الفرن. وأعلن علماء الأثار الذين إكتشافوا هذه القطعة من الخبز، بأنه أقدم قطعة خبز معروفة للأن في العالم، ويعود تاريخها إلى العام (6600) قبل الميلاد أي العصر الحجري الحديث.
وعثروا أيضآ على هيكل فرن “مدمر” إلى حد كبير في منطقة تسمى “ميگان 66″، حيث توجد منازل محاذية لبعضها من الطوب اللبن، في موقع مدينة “گر-چتل” الأثري في محافظة كونيا الحالية، هذا ما أعلنه مركز أبحاث وتطبيقات العلوم والتكنولوجيا في جامعة “نجم الدين أربكان” التركية.
وذكر العلماء في بيانهم أنهم عثروا بجوار الفرن على حبوب: “القمح، الشعير، وبذور البازلاء، وبقايا مستديرة إسفنجية بحجم كف اليد، ومن خلال تحليل تلك البقايا العضوية المستديرة، تأكدوا بأنها عبارة عن خبز غير مطهو ومخمر. ووصف رئيس بعثة التنقيب الأستاذ المشارك في جامعة الأناضول التركية السيد “علي أوموت توركان”، الاكتشاف بأنه بمثابة أقدم خبز في العالم.
كما وأضاف قائلآ: “إنها نسخة أصغر من رغيف الخبز، إذ تحتوي الخميرة التي لم يتم خبزها، على إصبع مضغوط في المنتصف، تم تخميرها وبقيت حتى يومنا هذا مع وجود النشويات بداخلها. ولم نعصر على شيء مماثل كهذا حتى الآن”. وتم الحفاظ على الخشب والخبز بفضل الطين الرقيق الذي غطى الإناء الذي وضع فيها، بحسب عالم الأحياء “صالح كافاك”، المحاضر بجامعة ديلوك (غازي عنتاب) في شمال كوردستان. وأضاف الإستاذ كافاك قائلآ: “تم خلط الدقيق والماء، وتحضير الخبز بجوار الفرن وحفظه لفترة من الوقت.
العدد الكبير من التماثيل الموجودة في مدينة “گر-چتل” ملفت للنظر. وذكر الباحث الإنلكيزي “ميلارت”، الذي قام بالحفريات الأولى في الموقع، أن هذه التماثيل جيدة التكوين ومصنوعة بعناية، ومنحوتة من الرخام والحجر الجيري الأزرق والبني أو المرمر أو المصبوبة من الطين. وهذه التماثيل في معظها إن لم يكن جميعها، كانت تماثيل نسائية وتمثل الإلهة الأنثى. وعلى الرغم من وجود إله ذكر أيضآ، إلا أن عدد تماثيل الإلهات يتجاوز بكثير عدد الإله الذكر، ويبدو أنه لم يعد موجودآ بعد الطبقة الرابعة من الأسفل. وتم العثور على هذه التماثيل المصنوعة بعناية بشكل أساسي في الأماكن التي إعتبرها السيد “ميلارت” كنوع من المزارات الدينية.
ومن التماثيل الإنثوية التي تم العثور عليها هي، آلهة جالسة بشكل إحتفالي يحيط بها أسدان، في مخزن الحبوب. وذكر السيد “ميلارت” في كتاباته، أن التمثال كان عليه حماية المحصول أو المخزون. كما تم العثور على عدد كبير من التماثيل التي لا تحتوي على جنس، وبرأي “ميلارت” إهذا يدل على مجتمع تهيمن عليه النساء. ويمكن العثور على العديد من القطع الأثرية والفنية من مدينة “گر-چتل” في متحف الأناضول بمدينة أنقرة الحالية.
وعودةً إلى ألهة مدينة “گر-چتل” الإناث بشيئ من التفصيل، ولكن قبل ذلك أود أكرر رأي وقد كتبته في بحوث لي مرات عديدة وهو:
“لا يمكن لأي باحث ومؤرخ وعالم أثار كان، أن يفهم فهمآ صحيحآ تاريخ بلاد الخوريين التي تشمل: تركيا، ايران، سوريا، العراق، أذربيجان، أرمينيا، لبنان، فلسطين/إسرائيل، الكويت، البحرين، الإمارات، قطر، شمال عمان، دون أن يتقن اللغة الكوردية القديمة والحديثة وتاريخ الديانة الخورية – الشمسانية”.
لو كان السيد “ميلارت” على دراية باللغة الكوردية، وتاريخ الديانة الخورية لإستوعب سبب كل هذه الألهة من النساء. المجتمع الخوري طوال التاريخ كان مجتمعآ إنثويآ حتى حدوث الطوفان في سومر الكوردية التي كان بدورها كل ألهتها من النساء قبل الطوفان وكبيرة الألهة كانت الإلهة “آن”، ولليوم في اللغة الكوردية نسمي الأم “آن”. ولليوم ورغم سطوة الإسلام المعادي للمرأة، نجد أن المرأة الكوردية
3
تحظى بمكانة مرموقة في المجتمع الكوردي، ولا نفصل النساء عن الرجال وكثيرآ جدآ ما تجد المرأة هي التي تقود العائلة والمجتمع وكانت منها الإلهة والكاهنة والملكة والحاكمة والشاعرة قبل ألاف السنين وفي الوقت الراهن تجد المرأة الكوردية، تشارك الرجل في كل الحقول بما فيه: حقل السياسة، الصحافة، العلم، الجندية، الدين، القتال، وخير دليل المقاتلات الكورديات اللواتي قاتلن إرهابي تنظيم داعش. من هنا نجد أن المرأة الكوردية على الدوام لعبت دورآ بارزآ ورياديآ في مجتمعها: التوروسي، الزاكروسي وفي مدينة “گر-چتل”. بالنسبة لي ككوردي هذا أمر طبيعي جدآ، ولم يلفت إنتباهي كما لفت إنتباه السيد ميلارت، لأنني على دراية جيدة بالديانة الخورية – الشمسانية، وسوف نتحدث عن مكانة المرأة في مجتمع گر-چتل لاحقآ في فصل خاص بذلك.
كما عثر العلماء على لوحات جدارية في الطبقتين العاشرة والحادية عشرة من طبقات المدينة، وأجمل اللوحات وأكثرهن تطوراً وجدت في الطبقتين السابعة والخامسة. لا شك أن هذه اللوحات هي إستمرار لتقليد اللوحات التي رسمها أسلاف الكورد من التوروسيين في العصر الحجري القديم على جدران الكهوف، وهذا يدل على وجود تلك الحيوانات في المنطقة. ومع إقتراب الفترة المتأخرة، يلاحظ إنخفاض المناظر المنزلية في اللوحات الجدارية وظهور زخارف الطيور والأنماط الهندسية. ويُعتقد أن الأشكال البشرية مقطوعة الرأس التي مزقتها النسور على الجدران كانت مرتبطة بعادات الدفن. حيث كان يتم جمع العظام التي أكلت النسور لحمها ونظفتها، ومن ثم يتم لفها في غطاء من الخيزران ودفنها تحت التماثيل الموجودة في المنزل.
وكانت الأدوات العظمية والأحجار الملونة والفؤوس الحجرية وخرز الصدف تقدم كهدايا للموتى وتدفن معها. التماثيل المكتشفة خلال عملية التنقيب في الموقع أعطتنا معلومات أصلية عن بداية ثقافة الإلهة الأم ومعتقدات ذلك الوقت. يبلغ حجم هذه التماثيل المصنوعة من الطين والحجر ما بين (5-15 سم). ويبدوم أنهن سمينات، بأثداء وأرداف كبيرة، وفي بعض الأحيان نجدهم يلدن، وهذا يرمز إلى الخصوبة والوفرة. جميع الأدوات والمواد التي إكتشفت في مدينة گر-چتل تقريبآ جلها من الحجر والطين والفؤوس والألواح الضحلة، وزخارف آلهة الخصوبة عالية النقوش والأساور والقلائد المستخدمة كزخارف. كما تم العثور
4
على أواني وأوعية سوداء اللون مصنوعة من الطوب والطين مع عجينة خشنة وبدون عجلات. هذا إلى جانب، كانت الإلهة الأم وأشكال الحيوانات المقدسة مصنوعة من الطين. تعتبر أدوات القطع والثقب المصنوعة من العظام والرماح ورؤوس السهام المصنوعة من حجر السج من أهم المواد المستخدمة في موقع المدينة.
تميزت مستوطنة گر-چتل، التي تعود للعصر الحجري الحديث، لم يكن لمنازلها شبابيك ولا أبواب كالتي نعرفها، وكانت تمتلك مجرد فتحة في السقف للدخول إلى المنازل والخروج منها، إضافة لتهويتها أيضآ. من هنا لم تحتاج إلى شوارع وميادين. ولكنها إمتلكت ساحات أو بالأحرى فراغات مخصصة لعدد من المنازل كان سكان تلك المنازل يجتمعون فيها لتأدية بعض الطقوس الدينية البدائية والإجتماعية. وهذا ما ميز هذه المدينة البدائية. والسكان كانوا يستخدمون أسطح منازل بعضهم البعض، كي يستطيعوا الوصول إلى منازلهم ومنازل جيرانهم للزيارة أو السؤال عن شيئ. ولهذا تعتبر أسطح منازل المدينة شوارع وكل السكان كانوا يستخدمون أسطح الغير، من دون ذلك كان من الصعب الوصول إلى تلك المنازل والخروج منها، في ظل غياب وجود أبواب وشوارع وأزقة تمكن الناس من الخروج والدخول إلى منازلهم ساعة ما يشاؤون. رغم العثور على مواقع أخرى من العصر الحجري الحديث في كوردستان، إلا أن مدينة گر-چتل من العصر الحجري الحديث، تتمتع بقيمة عالمية مميزة لمزيجها الفريد من حجم الآثار، وكثافة مجتمع المدينة، والتقاليد الفنية والثقافية والإستمرارية على مر العصور التي دامت (2000) ألفي عام.
هندسة منازل مدينة گر-چتل:
في مدينة گر-چتل، حيث قدر علماء الأثار عدد سكان ما يقارب (9.000) آلاف شخص كانوا يعيشون في هذه المستوطنة البشرية، تم تخطيط المنازل بجوار بعضها البعض وكانت جميع المنازل ذات أحجام متساوية تقريبآ. تم بناء المنازل باستخدام خليط من الطين والقش المجفف بالشمس والطين، والقصب، وأعمدة من خشب الأشجار والجص. بالإضافة إلى ذلك، فإن المنازل بنيت بترتيب ملاصق لبعضها البعض وهذا منع من وجود تشكيل الأزقة والممرات والشوارع الخاصة بالإنسان والحيوانات. ويعتقد أن الأسطح التي يمكن للناس الدخول والخروج منها، كان يتم الوصول إليها عن طريق سلم مصنوع من الخشب. وفي الغرف وجد المنقبين مواقد أسفل السلم الذي ينزل إلى المنازل في الغرف الرئيسية حيث مكان كان الناس يقومون بالطهي. وتم إستخدام الأجزاء العلوية من الغرف للنوم والأنشطة الأخرى. بالإضافة إلى ذلك تم دفن جثث الموتى تحت هذه الغرف كما ذكرنا سابقآ. والغرف الجانبية كانت بمثابة مخزن يوضع فيه الطعام والمؤن والحاجيات البسيطة التي كان يمتلكها الناس حينذاك، وفي كل الأحوال كانت قليلة، وهذا أمر مفهوم كون الحياة كانت بسيطة جدآ.
منازل مدينة “گر-چتل” رغم بدائيتها وفرادتها، إلا أنها كشفت لنا أمرآ في غاية الأهمية، ألا وهو سعي سكان المدينة على تحسين ظروف سكنهم ومعيشتهم، وتجميل البيوت كي يأخذون راحتهم فيها قدر الإمكان. وهذا ما نسميه في علم الإجتماع “الثقافة”، والثقافة هي التي تميزنا كبشر عن الحيوانات. لأننا كبشر نشترك مع الحيوانات بالجزء السفلي وهو يمثل 50%، وهذا يشمل: الطعام، الشراب، الخوف، الجنس، الإنجاب، المأوى، تأمين الغذاء وغير ذلك من القضايا. ولشرح ذلك وتوضيحه بشكل أفضل إليكم المثال التالي:
منذ ملايين السنين قام الإنسان بالبحث عن مأوى لحماية نفسه من الوحوش المفترسة، وهجمات الغير من الجماعات البشرية، إضافة لذلك حماية نفسه من البرد والحر. فوجد في الفجوات الطبيعية بين الصخور مأوى له، ثم حفر كهوف تحت الأرض ليعيش فيها، ومن بعد ذلك إنتقل إلى الأكواخ فوق الأرض ولاحقآ بنى بيوت من الطوب المصنوع من الطين والقش، إلى أن إنتهى به الحال بناء بيوت من الحجر والحديد والإسمنت، وفي كل مرحلة كان يحاول تحسين بيوته من الداخل، إلى أن وصل إلى مرحلة بنى بيوتآ مكيفة ومجهزة بكل شيئ.
في المقابل إذا أخذنا الضبع، نرى أنه منذ ملايين السنين هذا الحيوان الضاري، يحفر له جحرآ يأوى إليه هو وصغاره لحماية نفسه وصغاره من الوحوش الأخرى الأقوى منه لحماية نفسه من البرد والحر أيضآ. ولكن الضبع الذي نشترك مع بي 50% من الحاجات الأساسية التحتية، لم يقم بتحيسن هذا المأوى مهما كان ذلك التحسين صغيرآ.
6
هذا الفرق له علاقة بالعقل والتفكير والسعي إلى الأفضل بشكل مستمر ويسمى الثقافة، وهي بالضبط التي تميزنا عن الحيوانات.
من هنا شهدنا كيف أن سكان مدينة “گر-چتل” من الكورد التوروسيين، قاموا بتجميل بيوتهم من الداخل رغم بساطة بيوتهم والرسومات التي رسموها على جدرانها الداخلية، سواءً كانت بهدف الزينة أو بدوافع دينية. وكشفت الحفريات عن وجود لوحات من بينها مناظر صيد وأنماط هندسية على جدران المنازل. و تلك الرسومات كشفت عن الأساليب التقليدية المستخدمة في الرسم والنحت، التي مازالت مستمرة لليوم بين الناس في هذه المنطقة من شمال غرب كوردستان. وإجابة على سؤال:
لماذا سكان مدينة “گر-چتل” كانوا يدخلون إلى منازلهم والخروج منها من السقف؟؟
برأي لا يوجد إجابة قاطعة على هذا السؤال، من معلوماتي البحثية الطويلة، أعتقد أن السبب في المقام الأول كان أمنيآ، بمعنى إن المهاجمين أيآ كان إسمهم، كان من السهل عليهم خلع أبواب وشبابيك البيوت وإقتحامها. وقد يكون السبب الثاني هو الحفاظ على حرارة البيوت صيفآ وشتاءً. والسبب الثالث قد يكون هو خوفهم من إقتحام الحيوانات المفترس في حال بناء الشوارع وتركيب الأبواب والشبابيك. والسبب الرابع، قد يكون عدم معرفتهم في بناء المنازل التي تحتوي على الأبواب والشبابيك وهذا أمر وارد.[1]