التعلّيم باللغة الأمّ في #غربيّ كردستان#
صلاح الدين مسلم
لطالما عُدّت مؤسسة التربية والتعليم المؤسسة السياسيّة المهمّة للجمهوريّة العربيّة السوريّة، لتجعل المواطن مواطناً فرداً بعيداً عن الجماعة وروح المجتمع الذي ينتمي إليه، ذاك الفرد الذي أطلقت عليه لفظة مواطن، لتروّضه من المرحلةِ الابتدائية حتّى الجامعية، بحيث تجعل المواطن الفرد أحمق أبله مطعّماً بالقومويّة والدينويّة، بمعيّة الإعلام والثقافة لطمس عقول الناشئة، وتطبع المجتمع بطابع الفردانيّة والنمطيّة، لتغدو المدارس مصانع لجنود الدولة التي تحميها وتعضّد من بنيانها.
فتشكيل المواطن يحتلّ مرتبة الصدارة بين المواضيع التي تهتم بها الدولة القوميّة بعناية، ولهذا الغرض، فهي تسعى للاستفادة من الكثير من العناصر كالأيديولوجية، السياسية، الاقتصادية، القانونية، الثقافية، الجنسوية، العسكرية، الدينية، التعليمية، والإعلامية، فشعارها الرئيسيّ يكمن في “المجتمع غائب، والفرد موجود”.
إنّ الغاية الأساسيّة لهذا الفرد من الحياة برمّتها هو الوصول إلى الوسيلة التي تقوده لشراء سيّارة وشقّة سكنيّة وراتب تقاعديّ بأيّة وسيلة كانت، وأن يكون مستهلكاً بامتياز، عديم الفكر والأيديولوجيّة والرؤى والنظرة إلى الكون والطبيعة والحياة، هذا بالإضافة إلى نهب ذاكرته بل فرمتة ذاكرته، ووضع ذاكرة جديدة كاملاً متناسبة مع الدولة السوريّة القوميّة.
أبالإمكان أن تضع سلطة ما نظاماً تربويّاً يحتوي في طيّاته على نظريات تؤكّد على أنّ السلطة خطرٌ وكيفية نشوئها؟! وأنّ الدولة القومية داء على سبيل المثال، فهي من خلال هذا النظام التربوي تكرّس مفهوم الهيمنة والقوّة، فالكتاب المعدّل من قبل حكومة الائتلاف في الخارج، والتي لم تستلم السلطة السياسيّة في الدولة بعد، قد أطرأت تعديلات على كتاب اللغة العربية الذي اطّلعت عليه، حيث حذفوا منه خطاباً لبشار الأسد وأبدلوه بخطاب لمعاذ الخطيب، فقد تغيّرت الأشكال لكنّ الخطاب المعرفي واحد، فالرسالة الموجّهة للمجتمع في ترويضه وتقنينه ضمن بوتقة نخبة الدولة لم تبارح عقلية السلطة بعد.
لن يستطيع التعليم في غربيّ كردستان أن ينجح بين المجتمع المتطلّع إلى الاستقلاليّة عن السلطة أو شبه الاستقلال الذاتي عبر الإدارات الذاتية عن الدولة، إن لم ينفصل كلّياً عن هذا النظام الدولتيّ للمركز، الذي لا يرضى إلّا أن تتموضع كل مفاصل القوّة ومن بينها القوّة المعرفية السياسيّة (كالإعلام والتربية والثقافة) في يدها كم وضّح ميشيل فوكو ذلك عبر قوله: (القوة متوضعة عند الحكومة عبر المؤسسات الشرطة – الجيش – …. تبث قراراتها ومعاقبة لمن لا يمتثل لها، فالجامعات التي تبدو ظاهرياً وكأنها تبث المعرفة، قد صُنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضوع القوة وحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى) ويقصد بالطبقة الاجتماعيّة (النخبة السلطويّة الدولتيّة التي تعتمد على فائض المال) لقد أضحى النظام التعليميّ في سوريا مكلّفاً بتنشئة نمط فرديّ مضادّ لروح المجتمع، وهنا يستحضرنا مفهوم المعرفة، التي شوّهتها الأنظمة السلطويّة ومن ضمنها نظام البعث الذي شوّه المعرفة بطريقه.
ومن خلال نظرتها إلى اللغة الكرديّة التي ألغتها كلّيّاً، بل جعلتها من المحرّمات، فكانت تمارس الإبادة الثقافيّة بكلّ معانيها وذلك لتصهر باقي المجموعات غير العربيّة ضمن بوتقة ثقافة ولغة النخبة الحاكمة، وذلك بالقضاء على وجودها من جذورها، من خلال محاربتها في مؤسسات الدولة عامّة وعلى رأسها المؤسسات التعليمية.
إنّ التعريب قد جعل الكردايتية استسلاماً للثقافة القومية العربيّة المسيطرة، وهروباً من المجتمعيّة الكردياتيّة، فصار التكلّم بلغة الأمّ عيباً، والخطأ في اللغة العربيّة عذراً ومكان استهتار لدى أفراد المجتمع، وكأنّ اللغة العربيّة التي تعدّ لغة الأكثريّة في سوريا باتت لغة السيطرة السياسيّة والثقافيّة، وبذلك باتت النظم التعليميّة أدوات إنكاريّة من قبل الأمم الحاكمة للقوميات الأقل عدداً، فقد كان الهدف من كلّ هذا هو تجريد الفرد من كينونته الأخلاقية والسياسية.
إنّ التعلم باللغة الكردية هو حق مهمّ وجوهريّ من حقوق المجتمع الكردي، والثورة لا تكون بالسلاح فحسب، فما معنى هذه الثورة الفكريّة إن لم ترافقها الثورة التعليميّة والثقافيّة والتعليميّة؟ فأيّ مجال يجب النقاش فيه يجب أن يكون متمحوراً ومنحصراً حول تحديد الكفاءات والنظر في المنهاج التعليميّ، ومراقبة هذا المنهاج وتطويره دائماً، والتركيز على نبش الذاكرة الأخلاقيّة السياسيّة، فإذا كان التحصيل العلمي لطالب البكالوريا يعادل المستوى العالمي فهنا النجاح، فمعظم أطبائنا في غربيّ كردستان قد حصلوا على شهاداتهم في الخارج، فالتركيز على التعليم باللغة العربيّة لا طائل منه.
فهناك تنازع بين حقّ الفرد في تأمين شرعيّة عالميّة لهذه المدارس وبين حق المجتمع ككلّ متكامل في استعادة هويته الثقافية، والتخلّص من تملّق السلطة وتدمير الدولة للمجتمع، والتي لن تكتمل إلّا في مؤسسات التعليم التي لم يرض النظام العالمي عنها بعد، وهذا دليل على أنّ التعليم مؤسّسة من مؤسسات النظام العالميّ، ولم يتخلّص المجتمع من سطوة الحداثة الرأسماليّة التي تسرّبت إلى كلّ المسامات.
إنّ من حق المجتمع الكردي أن يفكّر ويكتب ويرسم الأفكار بلغته الأم، ويستعيد تاريخه المغيّب، فعلى المجتمع أن يستعيد قواه عبر المؤسسة التعليمية التي احتكرتها السلطة والدولة في بث سمومها.[1]