شبح يجول في الشرق الأوسط
سيهانوك ديبو
الأزمة في سوريا بل أزمات الشرق الأوسط على ما يبدو؛ تتحول إلى مرآة تعكس بوضوح أن النظام الدولي الآني أكثر النظم السياسية افتقاراً إلى الاستقرار؛ ربما بسبب أنه متألف ومتآلف من عدد ضخم من الوحدات المتغيرة السياسية منها والعسكرية والاقتصادية، وهذه الوحدات متسارعة التشكيل وتخضع إلى قاعدة إنتاج الأجدد الأجدر من الوحدات، وما هو مميز في هذه الوحدات أنها تتبدل تحت أنظارنا دون أن يُتاح لنا تتبع صيروراته وتقنينه؛ وهذه السمة القلقة التي تمتازها السياسة الدولية حاضرة في الواقع وترتكب الفظائع من وجهة براغماتيتها.
وفق هذا المنظور يمكن أن نحصر ما يحدث في منطقتنا إلى مشاهد ثلاثة:
-الفوضى بنوعيها: الهدّامة والبنّاءة إذْ لا يوجد -على العموم- فوضى خلّاقة.
– الاضطراب: مرحلة سابقة بالضرورة للفوضى ويمكن أن تكون تجليّاً من تجلياتها.
– خلايا الثبات: وهي المخصوصة بل المعلومة فيما تتعلق بالبداية والنهايات، وكلاهما أشد النقاط التي يتم الاستقتال عليها من قبل مركز / مراكز الحوكمة العالمية.
في العام 1848 كتب كلاً من كارل ماركس وفريدريك أنجلز (البيان الشيوعي)، ويبدأ البيان: هناك شبح يجول في أوروبا اسمه شبح الشيوعية. وضده اجتمع الجميع…. وما هو مطلوب منا أن نواجه هذه الخرافة التي تنظر لنا إلى أننا شبح…وأن التناقضات الاجتماعية تتحدد وفق الصراع الطبقي ببنية تحية اقتصادية تمثل جميع هذه التناقضات وستنتصر الشيوعية وانتصارها حتمي. النتائج التي توصل إليها ماركس وانجلز ومن بعدهما لينين في ثورته البلشفية جانبت النتيجة الحتمية لأسباب متعددة لسنا في وارد ذكرها، أما المهم فإن فلسفة الأمة الديمقراطية تجاوزت الماركسية اللينينية من عدة نقاط محورية ولا تزال تتفق معها في بعض النقاط كأي موروث فلسفي تنويري وتجربة تستحق الوقوف عندها والتبحر في تفاصيلها الإيجابية والسلبية. الذهنية الثورية أو الذهنية المتعمقة بأيديولوجية الأمة الديمقراطية هي التي تشكل العامل الحاسم في التغيير المجتمعي وليست التناقضات الاقتصادية الاجتماعية والصراع الطبقي وحده، لا توجد في فلسفة الأمة الديمقراطية صراع طبقي بين المستغلين والمستغلين (قد يكون هذا التحليل صائب في بلدان معينة أما نمط الإنتاج المجتمعي الأسيوي فليس بالضرورة أن ينطبق عليه هذا الفهم وغير ذلك مجرد تطويع المجتمعات لأيديولوجيتها؛ وهذا ما حدث في اليمن مثالا)؛ إنما يوجد صراع بين ذهنيتين إحداهما قوموية استبدادية وثانيهما مجتمعية تشمل جميع القوميات والمكونات وسائر فئات الشعب المؤمنة بالتغيير، سلطة البروليتارية هي الهدف للانتقال إلى المجتمع اللاطبقي في التحليل المادي الماركسي اللينيني؛ وعلى خلافه فإن فلسفة الأمة الديمقراطية تتحقق بإدارة المجتمع لنفسه عبر مؤسساته التي تمتاز باستقلالية القرار وسيادة كونفيدرالية المؤسسات حتى الوصول إلى المجتمع الديمقراطي، الإنسان في جميع الأديان والفلسفات المادية والليبرالية والنيوليبرالية وفي رؤية الحداثة الرأسمالية هو سيد للطبيعة؛ بينما في فلسفة الأمة الديمقراطية هو جزء منها والالتزام الأيكولوجي هو أصل فلسفة الأمة الديمقراطية حتى الوصول إلى المجتمع الطبيعي الذي خرج منه الإنسان الماكر إلى المجتمع الوضعي ومحتوم عليه العودة – لكن- بإرادة متحررة وبذهنية ثورية سويّة. كما أن المرأة في جميع أفكار المذهبية السياسية والدينية وفي جميع الفلسفات المادية تتفق معاً على استعباد المرأة وتصويرها بالضلع الأعوج أو الناقص أو كماركة أو تحتاج إلى سلطة الدولة وقوانينها حتى يتم حمايتها، بعكس هذا التصور وفي فلسفة الأمة الديمقراطية المرأة هي التي تقود المجتمع وهي التي تدافع عن المجتمع وبالتالي عن نفسها، هنا المدخل المهم في التصدي للتطرف الديني وللمذهبية والتفرد، أما الفرد في جميع الفلسفات والأنظمة الاشتراكية السابقة أو في مجتمعات الحداثة الرأسمالية فهو إمّا مقيّد ومصادر حريته وإمّا منكفئ على نفسه ويتم التعامل معه وفق منطق الذكاء التحليلي وبالتالي الفردانية في مجتمعات الحداثة الرأسمالية عبارة فم وعقل مُدار نحو الكماليات ويدخل مثل برغي – دون أن يعلم- إلى مسننات الآلة العملاقة التي لا حياء فيها ولا احساس، الفرد الندي والمواطنة الحرة اللذان يمثلان المجتمع ويصل إلى درجة يعتقد أنه المجتمع وأن المجتمع هو؛ تمثل هدف الأمة الديمقراطية ورؤيتها إلى فردها؛ وحقوق الأفراد والمجتمعات هي المصانة من خلالها. وأمور أخرى تتفق فيها فلسفة الأمة الديمقراطية مع كل فلسفة تقارب المجتمع وتختلف مع الأمم النمطية وقوقعات الأفكار والنظريات المسطحة وبالأخص التي تم تعبئتها في خارج الشرق الأوسط ونفث في أديمها، ومائة عام الأخيرة كان أحد أبرز أسباب القهقرى مثل هذه التنميطيات.
ربما نكون صائبين جداً لو قلنا أن شبح جديد يتم تصويره أنه الشبح ويتفق الكثيرين (المختلفين- المتناقضين) على اختلاف مصالحهم ومنابتهم الأيديولوجية وعلى مختلف تبعيتهم؛ لكنهم يتفقون على معاداة الحل المجتمعي والمتمثل بالإدارة الذاتية الديمقراطية كحل لكل أزمات الشرق الأوسط، والنهوض به والحيلولة دون الوقوع في الثأر؛ وثأر المجتمعات لا يخلو من الخطورة، عشرات الحناجر والأبواق الصفراء تصور أن الإدارة الذاتية المتقوننة في روج آفا عبر فلسفة الأمة الديمقراطية شبح يجول هذه اللحظات في الشرق الأوسط.
وإذا أخذنا ما يحدث في سوريا اليوم ما هو إلا اصرار الأطراف المتصارعة على إكمال ما هو مطلوب منها بالرغم من قناعتها الضمنية والعلنية أن الحل العسكري لم يحسم الأمر بل زاد من تعميق المشكلة وتحولها إلى حرب أهلية وأزمة سورية، وكلا الطرفين لا يريد أن يرى ما يحدث في روج آفا/ شمال الوطن السوري، ولا يرى بأن القضية الكردية مدخلاً مهماً لمقاربة الحل العام من هذه المفصلية؛ فكلاهما يقلدان بعضهما وكلاهما يصران على حل القضية الكردية أو المطاليب الكردية (كما يريدون تسميتها) إلى ما بعد القضاء على المعارضة في وجهة نظر النظام أو القضاء على النظام في وجهة نظر المعارضة؛ كلاهما يخسران (النظام- غالبية صنوف المعارضة) وكلاهما يدركان أنه لا حل في سوريا دون الأخذ والاعتراف بالإدارة الذاتية اعترافاً متضمنا بالدستور السوري، والأمر نفسه في تركيا اليوم حيث نشهد السلوك نفسه المعتمد من قبل الواقعين تحت تأثير فخ التنميط وفخ المركزية وبالتالي فخ السلطوية، فأردوغان يثبت اليوم أنه قاتل لشعوب تركيا، وعدائه للكرد في تركيا يبدو صريحاً لأنهم لم يصوّتوا له، وكأنها عقوبة جماعية للشعوب في تركيا بمجملها واجبارهم على اعادة انتخابه، ولن يتوانى من أجل 400 مقعد أن يبدأ بإعادة ارتكاب المجازر، التاريخ متشابه متكرر ومستنسخ؛ الأدوات فقط تتغير والمجاميع التنميطية الحشدية فقط هي المتغيرة.
بالرغم من هذا المشهد المخيف إلّا أن الحلول بات مُستطاعاً تلمسها؛ وهذه المرة دون كل المرات نشهدها بنكهة شرقية خالصة ومستلهمة من الميزوبوتاميا وحضاراتها ومن خلال الإدارة الذاتية الديمقراطية كنظام سياسي مجتمعي ضد المركزية وضد المذهبية وضد استعباد المرأة واستبعادها وضد التبعية والوصفات الجاهزة، وهذه مقاربة صائبة من أجل حل الأزمات في الشرق الأوسط التي تحتمل مدخلاً واحداً متبوع برمته للديمقراطية، والأخيرة بعد أن كانت المغيّبة وعمليات البحث عنها جارية؛ أصبحت هذه اللحظات في متناول من يؤمنون بفلسفة الأمة الديمقراطية. وهنا يتوجب على الكرد مثلما يتوجب على غيرهم من المكونات أن تكون من الفاعلين في مشاريع النهوض وأن ترفض الانتظار وخاصة الوصفات المستوردة؛ دون أن يفهم أنها دعوة للقطيعة وإنما تأكيد الخصوصية في حوار الحضارات وتنافسها. والمشروع الذي بحوزتنا نعتبره المدخل من أجل اختراق الأزمة وأن نبرهن للجميع بأنه ليس شبح بل ضد الشبح والأشباح المتشكلة خارج إرادة شعوب المنطقة؛ وحينها نكون قد كوّنا أساساً في جدلية التكامل/ الاستبعاد، وهذا في محصلته يؤدي إلى استنباتِ – للمرة الأولى في تاريخنا- المجتمع الثقافي السياسي.[1]