عامٌ على المؤامرة
صلاح الدين مسلم
عامٌ على المؤامرة، عامٌ على التحضير للمقاومة التاريخيّة، عامٌ على الدهشة أمام الخلطة الداعشيّة السحريّة التي تحضّرت لأعنف هجوم برّي على مدينة صغيرة مثل كوباني، عامٌ على نضج الامتزاج التشويهيّ الإسلامويّ المطعّم باللافكر القومويّ المتطرّف، ودمجه بالخلطة الحداثويّة الرأسمالية، لتصل في النهاية إلى مجتمع داعشيّ مفكّك مشوّه تسهُل السيطرة عليه، من قبل أشرس المنظومات العدائيّة على مرّ التاريخ.
وهذا ما دأب التركيّ الطورانيّ العثمانيّ الحداثويّ الجديد المتمثّل بحزب العدالة والتنميّة الذي تهيّأ رئيسُه وهو في قمّة نشوته للتحضير لسقوط #كوباني# ، لكنّه سقط ولم تسقط كوباني، عامٌ على نبتة المفكر القومويّ والإسلامويّ المدجّج بالمال في معامل التدجين الإسطنبوليّة وهي تحضّر نفسها للعشاء الأخير، عامٌ على بداية النهاية لهذا الخليط الداعشيّ، الذي أرعب المفكّر الطبقيّ الانعزاليّ، واتّباعه هذا التشوّيه الانقياديّ لينضمّ مع الانتهازيّين أمثاله إلى قافلة العبيد.
لقد قرّرتْ وحدات الحمايّة الشعبيّة في كوباني منذ اليوم الأوّل لهذا الهجوم الوحشيّ المدمّر عدم التخلّي عن شرف المقاومة، وقرّرت الدفاع عن الوطن والعرض والشرف والثأر من أولئك الأوغاد الذين دنّسوا طُهر حضارة موزوبوتاميا، وقرّر الشعب الكوبانيّ الالتفاف حول هذه الوحدات، وعدم التخلّي عنها بكلّ السبل الممكنة، فقد أرسلوا شبابهم إلى خنادق الشرف، وصارت النساء تحضّر الطعام لهم، وأعلن بعض العظماء الخالدين في الخنادق؛ أنّ شرف النضال الحقيقيّ في الدفاع، وإن داست الدبابات عليهم، فإنّهم لن يتركوا الشعب عرضةً لوسن الصهر والإبادة.
فصار المناضل المغبرّ في المعارك المصطخبة متعباً منهكاً، وقد أثقل كاهله استشهاد رفقائه العظماء وهو متعهّد عدم التخلّي عنهم، لقد استطاعت المناضلات الجسورات إيصال أصواتهنّ إلى أقاصي العالم، فكان نضالهنّ في كوباني الأنموذجَ المتكامل للوصول إلى التحرّر من الطبقيّة والتفاوتيّة والفوقيّة والانعزاليّة، وبات اسم الكرد يتردّد على كلّ الشفاه، وباتوا يؤسّسون منظومة فكريّة متراصّة مترابطة، تقوى وتنضج يوماً بعد يوم بعد أن تحرّرت من سياسات القيادات العديدة المتشعّبة الّتي عرقلت عمليّة التّاريخ بدلاً من قيادتها ودفعها إلى الأمام، نعم إنّها كوباني التي حرَّرت العقليّة الانعزاليّة الإقصائيّة التي أبعدت الكرد عن ساحات الحياة، لعُقم العقليّة القومويّة الإسلامويّة الراديكاليّة الدوغمائيّة ناهبةَ الحضارات، جنود الحداثة الرأسماليّة العالميّة، تكفينا ملاحمكن كي ننسج من عطر شموخكن آيات الترتيل في المساء، ونروي قصصاً لأحفادنا الذين سيرفعون رأسهم أمام المترامي على أبواب السلاطين، ويبتهلن بصور اللواتي ينسجن من خيوط الشمس وشاحاً يقي خوفنا من زمهرير الغيلان وغِلّ الغربان.
إنّ الصراع في كوباني كان بين المجتمع الذي بات يسترجع ذاكرته الأخلاقيّة السياسيّة وبين القوى الظلامية القروسطية الراديكالية المتوحشة، كان صراعاً بين المجتمع والسلطة، بين الذهنية العاطفية الأنثوية وبين الذهنية التحليلية الجافة العمياء الذكورية، بين الدفاع المشروع والتوسع السلطوي، بين الحب والكراهية، بين الإنسانية والتوحش، بين التاريخ الاجتماعي المنفي وتاريخ السلطة الذي دونه الذكور السلطويون، وهذا ما أدركه العالم بأسره، بينما لم يدركه بعض العميان أو الذين يصطنعون العمى.
لطالما كان الدين الإسلاميّ دين الأخلاق والهداية والتكافل الاجتماعي، لكنّ االسلطويّون الوحوش من خلفاء وقادة الجيوش ومعظم مفسّري القرآن إلى دين وحشيّ، فكانت الثورة المضادة بعد وفاة الرسول حتى الآن أقوى من ثورة الرسول الاجتماعية نفسها، وما داعش إلّا نهاية هذه الثورة المضادة على أيدي الكرد الذين توحّدوا في هذه الحرب الضروس على كوباني الأبيّة.
لقد انهار أردوغان عندما صعقه خبر تحرير كوباني فانهار في خطاباته لأنّ عرش السلطة بدأ يهتزّ، فالمقاومة أوصلت الشعب إلى هذا التفوّق، وكأن أصابعه الأربعة الملوّحة التي كانت تلوّح باللاءات، والتي كانت تصوّر للشعب المخدّر أنّ رابعة العدويّة قد تداعت في مصر، وأنّه الصوفيّ المنقذ الذي سيحارب العالم ليخلّص البشريّة من الظلم، لكنّ تلك الأصابع قد بُترت بمغامرته الصبيانيّة الغبيّة في كوباني؛ الأصابع التي تمجّد الهوية الواحدة واللغة الواحدة والشعب الواحد والعلم الواحد.
لقد أدرك العالم ماذا يعني انتصار الشعوب الذي اختصر في معركة الحياة في كوباني.
شرفٌ لنا نحن الكرد أن نسطر مقاومتنا عبر العصور ونقول: -هكذا انتصرت كوباني، ودحرت أعتى الجبابرة، وجرّت الوحوش إلى وديان الذل والعار، والهزيمة النكراء التي لا حدود لها على وجه الخليقة.
لقد أدرك العالم أنّ كوباني تحارب عن العالم هذا الارهاب المدمّر وأدرك الجميع لماذا تموِّل الاحتكاراتُ هذا الجيشَ الأسود الملتحي المقنع، فلسوف يأتي يوم تعلم فيه يسطّر فيه التاريخ الجديد للإنسانية والمجتمعات نضال كوباني، وتاريخ الشعوب المغيبة المندثرة تحت طبقات المستغلّين الاحتكاريين المتلوّنين بألف لون ولون.
لقد بتنا نحتار في اختيار صورة أيّة شهيدة أو شهيد نضعها على بروفايلنا! فكلّ شهيد ومناضل في هذه الحرب ملحمة بحدّ ذاتها، وكلّ حارة من حارات كوباني فيها ملحمة بطولة وفداء وتضحية، ففي كلّ يوم من أيّام مقاومة كوباني شهداء جبابرة أشاوس مضاريس تختال كوباني هزِجةً ببهائهم، ومازالت الأسطورة مستمرة، تحبك مستقبلنا، رغم النعيق والبغام والعويل الذي يقضّ مضاجع الوصوليين.[1]