حتمية انتصار السياسة الديمقراطية
سيهانوك ديبو
ما يحدث هذه اللحظات في مبنى الأمم المتحدة يعد صورة ساطعة لفقدان المعالم الجماعية لظاهرة الاجتماع الأنُسي وفشل مدقع للسياسة الدولية إذا كان بالأساس بمقدورنا الحديث أصلاً عن شيء محدد اسمه السياسة الدولية. كلمات رؤساء العالم وحديثهم عن المشاكل الأممية أشبه باختراق المجتمعات والنيل من ثقافاتها الخاصة حتى درجة الامحاء تحت حجج اختراق أزماتها. عشرات الملفات التي يتم ترحيلها في الليلة أو فور ختام الاجتماع، وستكون الأعين مشدودة – كما العادة- نحو الأماكن المغلقة والتي يُصار فيها الحلول وتُصاغ. مع كل العلم أن الأزمات التي تشهدها الشعوب تعود في أساسها إلى نمط الحوكمة العالمية وأقطابها وبتواطؤ كبير من أنظمة الاستبداد.
من المؤكد بأن ما تقدم ليس بالاكتشاف وإنما العادة العلنية لتدفق الظواهر المصطنعة إلى مجتمعاتنا وبإرادة الحضور وبخضوع تام من جميع المجتمعات وفي مقدمتهم مجتمعات الشرق الأوسط المنتقمة في ذاتها وضد ذاتها، والمشكلة ليست في هذه الصورة الحزيهزلية؛ بل حينما يعودون إلى الشرق سيرفع بعض من المهرجين أصابعهم صوب أعين مجتمعاتهم ويقول قد فعلنا …قد عملنا، وسين المستقبل تطغى على خطبهم ذات الرنين الأجوف؛ كما العادة أيضاً.
مصير الشرق هو الانفجار الثقافي، سيّما أن مثل هذا المصير ممهور في النظرة المتأصلة بأن الشرق مجرد ثقافات متتامة وليست قوميات متناحرة وهي الأدق، مثل هذه النظرة تمثل أعلى مراحل النهوض المجتمعي بما فيه الحالة القومية الأصيلة بدلاً من صعود التدفقات عبر القومية، وفشل التنميطات والنمطيات المعولبة المصدَّرة إلى الشرق والمستوردة من قبل قنوات الاتصال الطفيلية كحراس معبد الرهبان، الشمول والكلية عبر المشاريع النهضوية هو المطلوب منا في ظل هذا القصف بالعقول وقذفها بهوان الأشياء. على عكس ذلك فإن كل الإشارات والدلالات تؤكد نهوض حتمي للمجتمعات ومن خلال طليعتها الثورية فينتشلها من القرف المصوّب نحوها، والنهوض لن يكون نهوضاً إلا من خلال مشاريع تجر مجتمعاتها جراً نحو الخلاص.
لماذا لا يعترف السوريون (شعباً؛ معارضة؛ نظاماً)؛ الداخل منهم والخارج، أن الهدف الأساسي من تدويل الأزمة السورية، والنتيجة الوحيدة التي خرج منها الأمم المتحدة في اجتماعه الأخير التي اتفق عليها متمثل في نقطة واحدة فقط: لا غالب ولا مغلوب في الشأن السوري؟ وأن منطق التعامل مع جميع قضايا الكون – كما الحالة السورية – هو الإبقاء على القوى المتناقضة متوازنة (لا غالب ولا مغلوب)، وأنه لا جولة قاضية تأتي، وفي أحسن الأحوال قد يتم إقصاء بعض الوجوه؛ الرموز؛ الصور…لكن محركات الخلاف المتناقضة تُبقي عليها، ويتم استخدامها في حين آخر وأزمة أخرى تظهر في بلدان تصدير الأزمات.
هذا المشهد/ النتيجة يحيلنا إلى النقطة الأساسية بأن (نمط الإنتاج العبودي) ما زال معمولاً به رغم الأطر الوهمية للحرية واختراع بعض دلالاتها، وأن العلة الأساسية في المسألة برمتها هو النظر إلى الإنسان كفم وليس كعقل؛ ووفقها تُدار المجتمعات وتُقاد إلى هاويتها. ومن المؤكد أن المشهد العام ل(لأممية المُسيّرة) هذه اللحظات يدل أن الشعوب باتت تُشهد حالة مرتفعة من اختراق مجتمعاتها، والتناقضات الشكلية لبلدان التصدير وصُنّاع الأزمات تعاني بدورها من مشكلتين لا يمكن حلها، الأولى: الترقيع المستمر لمشاكلها المجتمعية ومن بينها المشكلة الاقتصادية مستمرة ووصلت إلى درجة مرتفعة من الانسداد مما يستوجب المزيد من الدماء المُسالة على أراضي الغير، والثانية: الحاجة إلى المزيد من السلطة المستوجبة للحوكمة وهنا يستوجب بدورها إلى وجود شرخ عمودي عالمي بين نمطين من الدول فيها السيد والأغلبية هم العبيد؛ وهنا يحتاج إلى الكثير من الإيهام بأن مركز الحوكمة العالمية متناقض أو بقطبين متناقضين أو أقطاب متناقضة؛ وهذا ليس فقط تصور ناقص بل هو محض هراء. فالعلة مستمرة طالما الأخذ بالسياسة البراغماتية التي تستخدم مجتمعاتها جارية. نقيضاً لذلك وفي أماكن متفرقة في هذا الكون الآيل إلى السقوط يتم خلق للمجتمعات المنظمة على أساس السياسة الديمقراطية وتنتشر مثل بقع بيضاء في سجادة سوداء كانت بالأصل بيضاء. هذه المجتمعات تتحرك بإرادتها ليست بإرادة إرادة الآخرين وتنطلق من أهداف المجتمع التي تعيشه وليست من خلال أهداف مستوردة يتم دعمها بإرادة الآخرين، والصورة تبدو في أزهى معانيها من خلال رؤية أوجلان: الجميع يبحث عن كردستان؛ لكنني أريدها التي تنجب من صلب ذاتها بإرادتها الحرة، ولا أريدها أن تولد باغتصاب علني وبإرادة الآخرين. وهنا يتحتم على الشعب الكردي الكف عن الانتظار ورفض المقولة بأن القضية الكردية تحتاج من أجل حلها إلى توافق دولي، لأن الدولتية هي التي سببتها، وهذا حديث المتواكلين ومن يرقهم الارتزاق والشحادة السياسية، والمجتمعات المنظمة هي التي يصعب اختراقها وفرض أنصاف الحلول وأنصاف النهوض وأنصاف الاستقلال عليها ولها ومنها.
يمكن هنا طرح مفهوم الادارة الذاتية الديمقراطية كحل أمثل للمجتمعات ذات التنوع القومي وحتى الطائفي كمرحلة انتقالية إلى المجتمع الديمقراطي في الأمة الديمقراطية والذي من خلالها تصبح فرصة استقلالية الأمم وحتى تكوين الدولة القومية خيار مجتمعي كخيار تفاهمي وتوافقي.
إن المجتمع السوري قد مورس بحقه أقسى أنواع الظلم الاجتماعي وعلى مدى عشرات السنين طيلة حوكمته من قبل سلطات مستبدة ألغت الروح الجمعي للمجتمع. إن تنظيم المجتمع وإعادة روحه المسلوبة من خلال تفعيل كافة المناحي المجتمعية وتنظيمها هي ضرورة وطنية سورية يحقق الانتماء الفئوي بالمعنى الحضاري إلى سوريا كحاضنة وطنية – اجتماعية قبل أي شيء، وتنظيم المجتمع من خلال هيكلة بصيغة إنسانية ديمقراطية (مأسسة المجتمع) هي غاية قصوى من خلاله يتعمق مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية بشقيها الحضاري الأنسي والاجتماعي السياسي. فهي توجيه للحد من التآكل الاجتماعي كنتيجة لمفهوم السلطة القوموية. وعليه فإن قوة الإدارة الذاتية في روج آفا هي من قوة المجتمع الديمقراطي كمرحلة أخيرة من مراحل التطبيق الديمقراطي. والحد من عملية سلطة الدولة بعد تشكيل الادارة. لأن الدولة بقوتها وسلطتها القانونية تقوض مفهوم المجتمع كأُسًّ تبنى علي الدولة وتمتثلها وتمثلها. فأية دولة مهما كانت ديمقراطية تقف أحيانا وتنتقل من سلطة الدولة إلى دولة السلطة خاصة إن لم تراعي التركيب المجتمعي التي تمثلها تلك الدولة وهذا ما يفسر إلى حد كبير جنوح سلطة الدول المتكونة من أنسجة متعددة؛ ولعل الحالة السورية خير تمثيل وشاهد على ما ذكر.
إن التخلي عن ذهنية الدولة –القوموية ومفهوم الشوفينية، التعصبية، التوسعية، المركزية وتعميق التناقضات، هي ضرورة حياتية لحل دائمي وعادل وديمقراطي للدولة السورية المستقبلية. لهذا اتخاذ المواقف بذهنية ديمقراطية وروح قبول الآخر والسلام وتوسيع أرضية التعايش المشترك الحر بين الشعوب هو الشرط الأساسي لحل القضية الكردية في غرب كردستان عبر بوابة الإدارة الذاتية الديمقراطية.
السياسة الديمقراطية منتصرة وهذا أمر حتمي؛ الأمر هنا غير متعلق بقوتها وخدمتها لمجتمعاتها فقط؛ إنما أيضاً عجز السياسة اللا أخلاقية عن إيجاد حلول لقضايا مصيرية كالبطالة وحل المشاكل البيئية ….وتدفق المجتمعات عبر منحاها القوموي فقط…وغيرها، كلها أمور تؤكد حتمية انتصار السياسة الديمقراطية وبقائها.[1]