الحق؛ وحقيقة الشعوب المقاتلة
سيهانوك ديبو
الحق ليس إلا مجموعة من الحقائق التي تؤكد بمجموعها كُنه القضايا، أما عدالة الحقوق فلا يمكن تأسيسه إلا عن طريق إظهار حقائق الحق والدفاع عنها من محاولات الطمس والانحلال والتشويه والتشويش عليها من مصدر متوحد يكمن في الأنظمة الاستبدادية ومن يقف ورائها داعماً ومن يقف معها صاغراً ومن يستكين لها طواعية وإجباراً. والحق الكردي هو حقائق متوحدة غير منفصلة إذ لا يمكن فصلها؛ وبمجموعها تؤكد حقيقة لشعب أجبرته ظروفه التاريخية أن لا يضع بندقيته؛ إليها ينتمي وإليه تؤكد، وبالرغم من أن الكرد أول من أسسوا نظام المدينة في التاريخ بعد الاستقرار الزراعي الذي أدركوه قبل حوالي الاثني عشرة ألفاً من الأعوام؛ لكن بقت ظهورهم محميّة من جبالهم يلجؤون إليها ويغادرونها حين انكماش الخطر مقاومة منهم. الكرد المعاصرين أحفاد السوباريين والهوريين والميتانيين والكوتيين والميديين؛ عاركوا التاريخ والتاريخ عاركهم في جغرافيتهم؛ مثلهم مثل غيرهم من الأقوام والحضارات التي أسست الميزوبوتاميا، والأخيرة التي شهدت نشوء حضارات وأقوام مثلما شهدت فناء حضارات وموت أقوام، رغم ذلك بقي الكرد في كردستانهم التي لم تكن يوماً مقتصرة أو مختصرة على الكرد وحدهم؛ مثل ذلك مثل حقيقية الميزوبوتاميا بشكل عام وبشكل خاص حقيقية ميديا التي يمكن أن نخصصها لقوم واحد أصيل ونقي؛ وأي رفض لمثل هذه الحقيقة الحتمية؛ ما هو إلا إرباك لحقيقة الحضارة وصناعتها وقوتها التعددية الجمعية؛ بل سيتعدى الأمر ذلك إلى رفض منطق الحضارات وأصول نشوئها، ومثل هذا التصرف المارق الآبق الهرطوقي يحيلنا بإرادة إلى سقوط معنى الحضارات، أي التهافت وراء التنميط والأمم النمطية التي يستوجب حتى حدوثها المزيد من التدمير والعنف والدماء؛ الحالة السورية دليل لا ينتهي على مثل هذه الكارثة المعرفية المجتمعية، ومثل هذا الخلل يستوجب منّا علناً البحث عن الأمة الجامعة غير النمطية، يعني ذلك بأننا معنيون الخوض في بناء أمة الحل؛ أمة الحضارة؛ أمة النشاط المجتمعي؛ الأمة الديمقراطية. الكرد الذي طُبِّق بحقهم الإنكار والظلم وإتلاف حقوقهم بمقدورهم – وفق الظلم المزدوج (المجتمعي والقومي كجزء منه)- أن يقوموا بهذا الدور الصعب؛ لكن؛ غير المستحيل، وفي الحقيقة أنهم ومن خلال ثلاث سنوات مضت ومن خلال فلسفة الأمة الديمقراطية أن يتحركوا بإرادتهم من عنق الزجاجة، من شعب تحت قيد الإتجار بقضيتهم إلى شعب فوق خط الأمان الجزئي يمثلون قضيتهم وقضايا غيرهم كما يحدث في هذه اللحظات العصيبة في روج آفايي كردستان وفي عموم سوريا. المائة عام المنصرمة هي أصعبها في تاريخ الكرد ولولا شخصية الكرد كشعب محارب ولول حقوقه لكان قد أدى إلى خروجه من بوابة التاريخ بمجمله؛ ثورة في شمال كردستان/ جنوب شرقي تركيا الحديثة بدأت في العام 1984 بعد أربعين عام من الصهر والإبادة ومعاداة مرتكزات القضية على يد التركياتية البيضاء ومن ثم الخضراء ومن ثم بداية الأسود الإسلاموي منها، ومثلها في جنوب كردستان/ شمال العراق ضد القوموية العربية النمطية، ومثلهما في #شرق كردستان# / غرب إيران ضد استبداد الشاهنشاهية المستبدة، ومثلهم جميعاً في غرب كردستان/ شمال وشمال شرق الوطن السوري ضد النظام البعثي العروبي القوموي وضد الإسلاموية الداعشية والنصرة القاعدية.
الطابع الثوري العام كخاصية مقاتلة للشعب الكردي مستمد بدوره من حقه العام المتمثل بالقضية الكردية التي تستند إلى جملة من الحقائق أهمها:
*حقيقة المرأة: كل ثورة لا يفوح منها خصال المرأة المناضلة وخصلتها التي تجعل للبندقية أكثر من معنى؛ هي ثورة لن يكتب لها النجاح ولو استمرت، خاصة أن الثورات فعل أو أفعال تنمو من المجتمع وتؤدي بالنتيجة إلى ظهور مجتمع متطور له مكان متميز بين المجتمعات الأخرى؛ غير منقاد لها وغير مُسيّر لغيرها، في أنها روح المجتمعات؛ قوانين مخفية تشكل بحد ذاتها مرتكز التطور، وإذا ما نظرنا إلى الواقع السوري المُراد له حتى قبل التدخل الروسي بأنها حرب بين السنة والشيعة، وقد يُراد له بأن يكون حرب بين المسلمين وبين الصليبيين الجدد (الروس)؛ مع العلم بأن هذه التوصيفات مجانبة للحقيقة بشكل قطعي فهي مجرد اصطلاحات مزجوجة مشوهة لعملية النهوض السوري قبل حوالي خمسة سنين، ومشوشة للهدف الذي يسأله السوريين المتمثل بالتغيير، هؤلاء جميعهم يؤكدون على المذهبية والتمذهب السياسي والطائفية وهؤلاء أيضاً يتفقون فيما بينهم على أمر وحيد هو استعباد المرأة واستبعادها من أي عملية نهضوية، والسياسة الديمقراطية التي تتمايز معهم جميعاً وعلى خلاف نظري وعسكري مع هذه النمطيات؛ ترى بأن كسر القواقع لعنصر المرأة والتأكيد على حريتها وجعلها من حرية المجتمع تؤدي إلى دحر مثل هذه النمطيات جميعاً في أتون الحرب حتى تحقيق الأمة الديمقراطية. وحقيقة المرأة الحرة وتمثيلها بإرادتها في المؤسسات والمجالس وقيادة الحرب ضد هذه القوقعات كانت بأفعال بناءة حققتها وحدات حماية المرأة ودافعت عن نفسها وعن مجتمعها. ويتضح لنا بأن المخل النوعي للقضاء على كافة أشكال المذهبية متمثلة بحقيقة المرأة. * حقيقة اللغة: اللغة هوية الشعوب ولسان حضارتها، والحديث عن الحقوق لا يمكن قبوله دون لغة، من أجل ذلك أكثر من طبق بحقهم الإبادة الثقافية هم الكرد في باكوره، أكثر من أربعين سنة حاولت التركياتية أن تمحي اللغة الكردية في الجزء الأكبر من كردستان، أشبه بعملية اقتلاع من الجذور، وهذه السياسة الإنكارية وصلت إلى مستويات خطيرة وفي يومنا هذا في تراجع مستمر، وسبب التراجع عائد إلى المجهود النضالي للطليعة الثورية المتمثلة بحركة الحرية الكردستانية، وفي روج آفا عملية تعليم المنهاج باللغة الكردية تم معارضته من قبل ثلاثة فئات تتدعي التناقض: النظام البعثي، بعض صنوف المعارضة الاستبدادية، بعض الأحزاب الكردية التي خالفت توقعات الكثيرين بمثل هذه الردة. وحقيقة اللغة الكردية بأنها قديمة تطرقت الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية، والمرونة التي تظهرها دليل على تاريخيتها ومستقبلها في الوقت نفسه، والنضال اللغوي مطلوب وهدف معلن من أهداف الإدارة الذاتية الديمقراطية، ومضمون من مضامين التغيير الديمقراطي في سوريا وأحد أدلة التحول الديمقراطي. * حقيقة الدفاع المشروع: وهي حقيقة الإيكولوجيا نفسها والتي تغزر بملايين المشاهدات الدالة على الدفاع في عالم النبات وفي عالم الحيوان وصولاً إلى بقاء الإنسان في صوره الحالية. وفي كل مراحل التاريخ التي شهدت هيمنة حضارات على أقوام وشعوب أخرى، فكانت الأخيرة تحارب من أجل البقاء، ومن أجل أمل البقاء شرعنت جميع الأديان السماوية والأرضية حق الدفاع المشروع ومن أجلها أيضاً تم تضمينها في جميع المواثيق والعهود الدولية. والمتتبع للأمر في روج آفا لا بد أنه لحظ مثل هذه الحقيقة التي تختصر بدورها حقيقة الكرد كشعب مقاتل مدافع عن ثقافته وقيمه ووجوده، ومقاومة كوباني دليل ليس بالأخير على الدفاع المشروع، والتصرف القانوني المجتمعي الذي أقدمت عليه الإدارة الذاتية الديمقراطية في واجب الحماية
الذاتية مستمد من أصل الدفاع المشروع ضد هجمات التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتهم داعش والنصرة، ومثل هذه الحقيقة التي التزمها الكرد وغالبية المكونات الأخرى في روج آفا؛ سبقت التحالف الدولي العربي الذي يقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعامين، والتدخل الروسي في سوريا بثلاث أعوام، ووفق هذه الحقيقة فمن الخطأ أن لا يكون بين وحدات حماية الشعب وبين التحالف الدولي وبين الروسي تنسيق وغرف عمليات مشتركة في ظل أن المجتمع الدولي مهدد برمته أمام إرهاب ما يسمى بدولة الخلافة ومتوجب عليه الدفاع المشروع. طالما كانت حقيقة العالم الحر واحدة ولا يمكن تجزئتها؛ والكرد في روج آفا متمثلين بوحدات حماية الشعب والمرأة اليوم يحملون هذه الراية ويدافعون عن قيم العالم الحر، وهذه حقيقة أخرى للشعب المقاتل. * حقيقة المجتمع: يتمتع المجتمع الكردي بخاصية وبثقافة تميزه عن الثقافات المجتمعية الأخرى، وفي الوقت نفسه لا تتعارض مع الثقافات المتاخمة له أو الموجودة ضمنه، وكما أردفنا في معرض المقال بأننا نرتكب خطيئة معرفية لو قلنا بأن شعوب الميزوبوتاميا عاشت سوية ومتداخلة في العمق الكينوني للظاهرة المجتمعية، دون أن يؤثر مثل هذا التداخل على نتيجة الإمحاء والصهر، وقوة الثقافة المجتمعية التي تميز بها الكرد قوت منحاه كي يكون شعباً محارباً يصون ثقافته التي تعرضت للغزو ومحاولات الصهر مرة تحت المشهد الغزو الحضاري قديماً ومرة تحت ثقافة الإسلاموية متوسطاً وحاضراً من خلال القوموية التي أقحمت بدورها من خلال خرائط سايكس بيكو التي جمعت وقسّمت وأنتجت دولاً تداعت بعضها وبعضها الآخر آيل إلى السقوط؛ فالتصورات الخاطئة لن تؤدي إلا إلى مشاهد قلقة متزحزحة تحت قوة الثقافات المجتمعية. والتنظيم المجتمعي ومحاولة ترسيخه في يوميات الثورة بروج آفا تدل بوظيفية على عمق الاستعداد المسبق للتنظيم؛ مماثل للشعوب الحرة المنظمة لنفسها، ومجتمع يفتقر إلى الوعي الأيكولوجي، لا يمكنه التخلص من الانحلال والانحطاط، فالوعي الأيكولوجي في أساسه وعي أيدولوجي، وهو بمثابة جسر بين حدي الأخلاق والفلسفة، ويمكن تجاوز أزمة العصر والوصول بها إلى نظام اجتماعي صحيح بإتباع، سياسة تتمتع بمزايا أيكولوجية. وهذه الحقيقة يرفدها على الدوام محرك المجتمع السياسي الأخلاقي كهدف من أهداف عملية التنظيم المجتمعية. وحين الحديث عن حقيقة المجتمع يبرز على الفور حقيقة مرتبطة بها هي * حقيقة الاقتصاد وفق الكوانتوم المجتمعي الموجود ووفق الإيكولوجيا الموجودة، تتأسس من خلالهما الاقتصاد المجتمعي من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، الاقتصادية الذاتية شرط من شروط الاستقلال بمعني الحرية وليس بالمعنى الجغرافي، فكم من الدول والأقاليم التي تظهر كجغرافية مستقلة ولكن في حقيقة أمرها ليست سوى مستعمرة اقتصادية، تظهر بنموذج ريعي تؤمن تبعيتها المطلقة لحكّامها الخارجيين، وعملية التأسيس للاقتصاد الريفي وللاقتصاد المديني بمظهر إيكولوجي غاية الشعوب المقاتلة وحقيقة من حقائقها المستمرة.
الشعوب المقاتلة لا يمكن وقفها فهي التي تمتلك عوامل بقائها المسمى بالحقائق، أما المجازر المرتكبة بحق الشعوب فإنها لم تقضي على الشعوب؛ الشعوب تلاقي حتفها حينما تعيش بلا فكر وبلا نموذج تنظيم مجتمعي. الحالة الثانية هي الأخطر؛ أما الأولى ومعتمديها هم الهالكون أساساً.[1]