التجربة الكردية الديمقراطية في سوريا
كارني روس
عبر السهول الصحراوية الفارغة، الواقعة جنوبي بلدة تل براك، شرق سوريا، يمكن ملاحظة الساتر الترابي الذي يمتدُ على طول خط الجبهة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” التي تُعرف اختصاراً ب “داعش”، كما وحفرت الخنادق التي يصل طول سواترها إلى 20 قدماً بواسطة الحفارات الآلية والتي تُدار من قبل رجال ونساء، غالباً ما يتم استهدافهم وقتلهم على يد قناصي تنظيم “#داعش# ” من مسافات بعيدة، وفي كل عدة مئات من الأمتار، تتواجد مفارز حرس أو مخابئ تُدار من قبل القوات الكردية التي تسيطر على الموقف في المنطقة وتُعرف باسم وحدات حماية الشعب (YPG).
وعلى طول تلك الحدود الفاصلة، لا يحارب الكرد فقط تنظيم “داعش”، ولكن أيضاً للدفاع عن التجربة الثمينة في الديمقراطية المباشرة في “روج آفا”، وهو الاسم الكردي للمنطقة الواقعة شرق سوريا، والتي يتم فيها بناء حكم ذاتي من الألف إلى الياء. بعد انهيار سلطة نظام الرئيس بشار الأسد، مع بدء الثورة السورية عام 2011، استفاد الكرد من الفراغ الحاصل لبناء حكومة من دون دولة، في روج آفا لا توجد سلطة هرمية، حتى ضمن صفوف القوات العسكرية، على سبيل المثال، قامَ أحد قادة الوحدات الكردية، وبلطف، بتصحيحي عندما خاطبتهُ ب “الجنرال”، قائلاً “ليس لدينا مراتب، نحن فريق واحد”، وعلى نحو مؤكد لم يكن على بدلته العسكرية أي شارة أو رمز تشير إلى الرتبة.
تقاتل النساء في وحدات حماية المرأة (YPJ) على طول خط الجبهة جنباً إلى جنب مع الرجال في وحدات حماية الشعب (YPG)، وخلف تلك الخطوط أيضاً، المرأة متواجدة ومسيطرة في الاجتماعات والنقاشات المدنية في القرى والبلدات التي تعد جزءاً من التجربة الديمقراطية في روج آفا. الحكم الذاتي في روج آفا، يعني بأنهُ وبقدر المستطاع، تُتَخذ القرارات على المستوى المحلي التشاركي. في قرية واحدة، يجلس الرجال والنساء بشكل منفصل، وهو ما يعكس التقاليد المحلية، ومثل معظم الاجتماعات، كان طويلاً وفي بعض الأحيان مُملاً، وكانت الخطابات طويلة جداً ولكن ليست كلها من الرجال، ولكن كان بمقدور أي شخص التحدث، دونَ تمييز في الفارق العمري، حيثُ كانت الفئات العمرية مع بعضها البعض تناقش فرص العمل، الخدمات الطبية، وحتى مخاطر قيادة الأطفال لدراجاتهم في المنطقة المحيطة بالقرية وبسرعة كبيرة.
تفتت معظم الأراضي السورية وتحولت إلى خطوط عرقية وطائفية، لكن روج آفا تتضمن، وبشكل مدروس، أعضاءً من الأقليات العربية والسريانية. هذا الأمر صدمني عندما لاحظتهُ عندما اجتمعت مع قادة إحدى المقاطعات. بدون تفكير، قمت بمخاطبته، وهو شيخ إحدى القبائل العربية المحلية، دون التكلم، تحول إلى امرأة كردية كانت جالسة بجانبه، والتي من جانبها بدأت التحدث بالعربية، وذلك على سبيل المجاملة معهُ ومع المشاركين العرب الآخرين. بالنسبة لدبلوماسي سابق مثلي، وجدتُ الأمر مربكاً، واصلتُ المراقبة باحثاً عن التسلسل الهرمي، القائد الواحد، أو إشارات ودلائل عن الخط الحكومي، في الحقيقة لم أجد شيئاً، كانت فقط مجموعات تناقش مواضيع محلية معينة. لم يكن هنالك شيء من الطاعة الخانقة للحزب، أو الإذعان والإذلال ل “الرجل الكبير”، شكل الحكم كانَ واضحاً وجلياً، حتى وإن عَبَرتَ الحدود إلى تركيا في الشمال، والحكومة الإقليمية الكردية في الجنوب، سوف ترى الإصرار والثقة بالجيل الشاب أمراً مُلفتاً للنظر.
لا تزال بقايا الدولة السورية متواجدة في شكلين أثنين، الأول عبر قواعد صغيرة ومعزولة في أماكن معينة، لكن بدون حضور عسكري ودوريات وجنود خارجها، والثاني عبر اتفاقية هشة غير رسمية مع النظام، لا يزال الكرد مُحافظين عليها، ولكنهم وبشكل قاطع يريدون القضاء على الدكتاتورية، بالإضافة إلى أنهم يعتقدون بأن أنموذجهم في الحكم اللامركزي الديمقراطي يمكن أن يُطبق في كامل سوريا وحتى خارجها. النظام الديمقراطي لديهم يعمل في تقدم مستمر، وهو غير خالٍ من العيوب، حيثُ زعمَتْ بعض منظمات حقوق الإنسان، بحدوث بضع حالات من الترهيب السياسي، بالإضافة مزاعم متعلقة بطرد العرب المشتبه بتعاونهم مع تنظيم “داعش”، وخلال تواجدي هناك تحدث لي عدد قليل من الشباب الذين قابلتهم عن تجنيدهم إلزاميا في وحدات حماية الشعب. لكن الحقيقة هي أن القوات الكردية تعاني من التشتت في كافة الأنحاء، وفي مقبرة مدينة قامشلو الخاصة، كانت هنالك مئاتٌ من القبور الخاصة بأولئك الذين فَقَدوا حياتهم خلال الحرب ومنها قبورٌ حُفِرَتْ حديثاً. ونجحت الوحدات الكردية في طرد تنظيم “داعش”، من أراضي ومساحات شاسعة، تبدأ من بلدة كوباني في الشمال وعلى طول خط طويل يمتد إلى الجنوب حتى يصل إلى الحدود العراقية.
في السماء تتولى الطائرات الأمريكية والغارات الجوية من التحالف ضرب مواقع تنظيم “داعش”، ولكن كأي حرب تجري، فإن القوات والجنود المشاة على الأرض يعانون الخسائر في الأرواح والعتاد. وبغض النظر عن هذه الغارات المتفرقة، لا يملك الكرد أي دعم دولي، وعلى العكس من ذلك، يتم تقويض جهودهم من قبل جيرانهم، سواء من قبل حلفاء الغرب في الشمال أو الجنوب. القوات الكردية السورية جادة وحاسمة في مسألة محاربة تنظيم “داعش”، ولكن خلال رحلتي إلى خطوط الجبهة الأمامية صدمتني نوعية الأسلحة الخفيفة التي كانوا يحملونها، فهي كانت تتراوح بين سلاح “كلاشينكوف” الروسي التقليدي، وبين الحين والأخر قناصات روسية، وبعد قطع مسافات طويلة على طول خط الجبهة، لم أجد سوى عدة رشاشات آلية، ناهيكَ عن عدة أسلحة ثقيلة مثل مدافع هاون وقذائف مضادة للدبابات والمدرعات، وهي المعدات ذاتها التي تَصِلْ وتعطى بسخاء إلى قوات البيشمركة الكردية العراقية التي تقاتل “داعش” هناك. بدون الاحتجاج من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، لن تغير تركيا موقفها ومنعها دخول أي شيء عبر حدودها إلى المناطق الكردية السورية، الأمر الذي يحول دون تقدم الوحدات الكردية بشكلٍ فعال، وفي الآونة الأخيرة عبر إعلان إقامة ما يسمى “المنطقة الآمنة” غرب مدينة كوباني.
جنوباً في العراق، تنظرُ الحكومة الإقليمية الكردية إلى الوحدات الكردية ك منافس سياسي، وبالتالي يمنع وصول الإمدادات العسكرية إليهم، الأمر الذي يدفع القوات الكردية السورية إلى البحث عن الأسلحة والمعدات من أعدائها المهزومين، كما أن الإمدادات الإنسانية والمواد الخاصة بإعادة البناء لا تزال مقيدة أيضاً، على الرغم من الحاجة المُلحة في العديد من البلدات التي دُمِرَتْ وهُجِرَتْ. هذه التحديات تجعل محاولة الكرد، إنشاء حكومة الشعب، من الشعب في روج آفا حيوية وذات قيمة. وكما شرحَ لي أحد المنظمين، فإن نموذج دولة ميزوبوتاميا المركزية كان كارثةً بالنسبة لكل من سوريا والعراق خلال العقود الأخيرة.
لا يزال الكرد نشيطين وعلى قيد الحياة على الرغم من مفارقة وجود هذه التجربة التي تعتمد “حكومة الشعب” فقط في ظل التمزق العنيف للحرب ولكن هنالك مفارقة أكثر سواداً أيضاً. كان مُتصوراً ومفترضاً أن تكون الديمقراطية مقدمة من وجهة نظر التدخل الغربي في الشرق الأوسط، ولكن في روج آفا، ازدهرت التجربة على الرغم من وجود أكثر الأعداء شراسة لها. هذه التجربة الشجاعة التي يتم حصارها وتجويعها بهدوء، في حين كان المفترض أن يتم الدفاع عنها والوقوف إلى جانبها.
*صحيفة (The Newo York Times) الأميركية.
الكاتب: دبلوماسي بريطاني سابق ومؤلف كتاب “ثورة بلا قائد”.
الترجمة: المركز الكردي للدراسات.[1]