في الديمقراطيّة المجتمعيّة الإيكولوجية
صلاح الدين مسلم
إنّ الزعم القائل بتطور المجتمع الهرمي والدولتي كضرورة لا بد منها، من أحشاء المجتمع الطبيعي، هي فرضيّة باطلة لا أساس لها، وأنّ الدولة هي تطوّر للمجتمع الأموميّ المشاعي غير المنظّم والبدائي كما تصوّر النظريات الليبراليّة الوضعيّة، وهذه التسميات السلطويّة بعيدة كلّ البعد عن جوهر التطوّر وفيزياء كوانتوم، فعندما يتطور الكون فإنّ تطوّره نحو الأفضل وليس نحو الأسوأ، أي نحو مادّة جديدة استطاعت أن تصفو من المادة السابقة التي تعدّ أثراً لها، وما هذا الدمار الكوني إلّا من منجزات الإنسان الذي لم يتطوّر طبيعيّاً، ونظريّات الخيال العلميّ تؤكّد هذه المقولة، حيث تقول إنّ الآلات ستسيطر على الإنسان، وتقوده وتسيّره، بما أنّها امتلكت قوّة الذكاء التحليليّ والمعلومات، وتحكّمت بمفاصل الحياة من خلال شبكة الاتصال التي ربطت الكون كلّه، والذاكرة الأمّ تتضخّم وتستطيع أن تسيّر نفسها بنفسها، وهذا نتاج الصناعويّة التي تعدّ الدين الجديد والهدف للحداثة الرأسماليّة التي تستعرض قوّتها من خلالها.
لا يمكن فهم الديمقراطيّة المجتمعيّة إلّا من خلال تفكيك الديمقراطيّة السلطويّة، ومن خلال التحلّي بروح المسؤوليّة والتناسب بين النظريّة والتطبيق والاقتناع بأنّ الحرّيّة لا تكمن في الفرديّة وبأنّ السلطة داء من يلهث وراءها ومرض يصيب الفرد قبل المجتمع، ولا يمكن فهم المجتمعيّة إلا من خلال فهم نظريّة الملكيّة والاحتكار، ففي المجتمع النيولوتيّ المشاعي كانت نظرة المجتمع إلى من يتراكم لديه الإنتاج الفائض لم يكن بمقدوره فرض الاحترام تجاه إدارته والامتثال لها، إلّا عندما يشاطر ما يدّخره مع أفراد جماعته. حيث يُنظَر إلى الادخار والتكديس بعين الجُرم الأكبر.
إذا كانت الثورة النيولوتيّة قد بدأت في الشرق، في حين كان الغرب يعيش حياة البدائيّة الحيوانيّة، أي الحياة التي عاشها الشرق قبل عشرين ألف عام، فقبل نشوء الدولة السومريّة؛ كان الشرق يعيش أرقى حضارة مجتمعيّة، وهذا ما أكّدته الأساطير الشرقيّة والآداب والموسيقا وكذلك الحفريات والأبحاث الآركولوجيّة، وحتّى نشوء الدولة كانت الأسبقيّة للشرق، فما كان للغرب من خلال غزوات الإسكندر إلّا أن نهب هذه الحضارة وحضّرها لقمة سائغة للغرب، لذلك حاول الغرب أن يعتبر نفسه المركز، وبدأ باستصغار الأقسام أو التطورات الأخرى في تاريخ الإنسانية، والمبالغة في تاريخها الرأسمالي. بالمقابل ليس من الديمقراطيّة أن نتصرّف مثل تصرّفهم ونستصغر الديمقراطية ومقاييسها المتطورة في الغرب.
إنّ الديمقراطية القبلية التي تستمدّ خبرتها من ذاكرتها النيوليتيّة أثبتت ديمقراطيتها، فالعرف والعادات عوضاً عن القانون، والإجماع عوضاً عن ديمقراطية 50+1، وقد أتت هذه الديمقراطية عن طريق التجارب وتراكم الوعي وكانت تضع كل شيء في خدمة المجتمع، فلا مصالح فرديّة ولا ملكيّة ولا سلطة ولا غدر أو مكر أو حيلة، إنّها إدارة تتّخذ القرارات، وقد تم استخدام مثل هذا المصطلح أي (الديمقراطية في القبيلة) من قبل مختلف علماء الاجتماع السياسيين، ويستخدم أنجلس أيضاً مثل هذا المصطلح، فقوّة التقاليد والأعراف الاجتماعيّة استمدت قوّتها من العهد النيوليتي، وظلّت الطبقة العليا تنظر نظرة ازدراء إلى هذا التوافق الاجتماعيّ وتعتبرهم ثلة من الجهلة لا يعرفون شيئاً عن الديمقراطيّة والحضارة والتمدن، ولم تستطع القبيلة الديمقراطيّة أن تتأقلم مع الفرديّة المستوردة من الغرب.
إنّ مصطلح (المجتمع الديمقراطي الإيكولوجيّ) الذي صاغه السيّد عبد الله أوج آلان، هو المحور الذي انطلقت منه نظرية ديمقراطيّة المجتمع الطبيعي النيوليتي وقد أكّد من خلال مقولاته العلاقة بين الدولة والمجتمع حين قال: “بقدر إضعاف الدولة بقدرها تتطور الديمقراطية ، بقدر إضعاف الدولة بقدرها تكون الحرية، بقدر إضعاف الدولة بقدرها يتم الحل السليم”.
إنّ نظرة أوج آلان في تشكيل مفهومه بصدد النظام، الذي سعى إلى اصطلاحه ب”المجتمع الديمقراطي الإيكولوجيّ”، خارج نطاق سلطة الدولة أساساً، بأنه خُلاصة سلوكه النظري. ويتجسد مضمون إرشاداته النظرية في البحث عن الحل خارج نطاق كافة سلطات الدولة الهرمية الكلاسيكية المتواجدة في المجتمعات الدولتيّة، وليس خارج دائرة مفهوم سلطة النظام الرأسمالي وحسب. فكونه سلوكاً نظريّاً مرتبطاً بالواقع المجتمعي لأبعد الحدود، وليس سلوكاً خيالياً أو طوباوياً مثلما يُظّن؛ فإنّه يعتبره أهم مكسب له في كفاحه، إلى جانب دور أرضيته الشخصية والمجتمعية في بلوغه القوة والكفاءة النظرية، إلا أنّ المؤثر الأساسي هو قدرته على تفهم المجتمع التاريخي ضمن كافة البنى النظامية. أما ما يستتر وراء فهمه هذا، فهو خصائص النضال والكفاح الذي خاضه، ونجاحه في التحلي بروح المسؤولية.
فالنظام الذي ينشده ليس نظاماً هرمياً أو دولتيّاً كلاسيكياً كالقديم، ولا نظاماً عبوديّاً للمجتمع المهزوم والمسحوق والمستعمَر. إنه نظام أخلاقي مقيم لعلاقته الدياليكتيكيّة السائرة مع الطبيعة، غير معتمد في داخله على التسلط والحاكمية، ومحدِّد للمنافع المشتركة مع الديمقراطية مباشرة.
إنّ ثورة الوعي الكرديّ في غربيّ كردستان بدأت تتصاعد، وتتألّق وتصل أوج نضوجها مع بداية ربيع الشعوب، وبات اسم الكرد يتردد على كلّ الشفاه، وباتوا يؤسّسون منظومة فكريّة متراصّة مترابطة، تقوى وتنضج يوماً بعد يوم بعد أن تحرّرت من سياسة التبعيّة العمياء والطبقيّة المفرطة.[1]